23 ديسمبر، 2024 5:30 ص

مائز الرفض والقبول بين الواسطة القميئة والشفاعة الوضيئة

مائز الرفض والقبول بين الواسطة القميئة والشفاعة الوضيئة

يتعرض الإنسان في حياته اليومية الى مواقف كثيرة، وبخاصة الذي على احتكاك مباشر مع المجتمع، ولا يعدم الحاجة الى مساعدة الآخرين في قضاء بعض حوائجه، لأن الانسان مهما بلغ شأواً من القوة الجسمانية أو الطاقة النفسية أو القدرة المالية أو النفرة العددية في الأهل والأبناء، فانه يظل غير قادر على انجاز كافة أعماله، وبعض الحاجات يأتي انجازها بالمباشرة على يديه او على من يستعين بهم وبعضها بطريقة غير مباشرة بفعل ذاتي او معونة خارجية، وهذا الواقع حقيقة يمارسها الانسان ولا يمكن نكرانها او التعالي عليها، لان الإنسان هو ابن الواقع، والواقع حاك عن هذه البديهة.

وتختلف المسارات في كيفية استحصال المساعدة والدعم من شخص أو جهة في إنجاز عمل ما أو تحقيق مشروع ما، فمرة بهدية عينية أو اعتبارية ومرة بمال يدخل فيها الفعل الحرام (الرشوة)، ومرة بكلمة طيبة، ومرة تدخل الوجاهة في انجاز الأمور والمعاملات، وهي بشكل عام وساطات بين طرفين، وأفضلها ما تم انجازه بالنظر الى وجاهة الوسيط ومكانته الطيبة في المجتمع، لأن صاحب الوجاهة لا يتوسط إلا في الأمور الايجابية حفظاً على ماء وجهه وقداسته في عيون المجتمع، فهو يوفر لنفسه الاحترام اللائق وينظر اليها كنعمة أنعمها الباري عليه، ومن موارد شكر النعمة قضاء حاجات الناس بالمباشرة أو او التوسط لدى الآخر أو الجهة لقضاء حاجة من التجأ إليه صاحب الحاجة، وهذه العملية يطلق عليها في بعض مسمياته بـ (الشفاعة).

والشفاعة في واقعها عملية قائمة عملاً وفعلاً، وهي تمثل في أحد أوجهها سلطة معنوية يمارسها الشفيع لصالح المشفع له، وهذه السلطة لا تتأتى للشفيع بين لحظة وضحاها، فهي سلطة اعتبارية فرضها على الواقع بصفاته الحسنة وأعماله الخيرة وسمعته الطيبة، فتصبح وساطته أو كلمته مفتاحاً للمغاليق من الأمور.

 

مفهوم الشفاعة

وبالطبع فإن الشفاعة هي غير الرشوة، لأن الثانية فيها جنبة قسرية غير مرغوب بها لانجاز العمل تدخل المادة عاملاً رئيساً فيها ومحرمة شرعاً وعرفاً وقانوناً، في حين تغيب المادة عن الأولى، أي تغيب المصلحة المادية عن الوسيلة في الانجاز، وهذا الدور يرغب كل انسان ان يؤديه في الحياة ولكنه لا يطاله كل راغب في حين أن الثاني يأنف الإنسان السليم عن تقمص الدور أو الاتيان به أو الوساطة له، ففي الشفاعة الرفعة والمكانة والوجاهة والكرامة وفي الرشوة الخسة والدناءة والذلة والمهانة.

وحتى يقف الإنسان على حدود الشفاعة في الحياة اليومية وما يتعلق بآخرته، أضاف الفقيه المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي الى المكتبة الفقهية (شريعة الشفاعة) وهي جزء من سلسلة في ألف كتيب، طبع منها العشرات الى جانب المئات من المخطوطات، والشريعة الجديدة صدرت العام الجاري (2015م) عن بيت العلم للنابهين في بيروت في 48 صفحة ضمت بين الدفتين 75 مسألة شرعية و23 تعليقة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري الذي شفّع تعليقاته بمقدمة في بيان جذر الشفاعة وأصلها، مع تمهيد للفقيه الكرباسي أبان فيه الشفاعة وحدودها وشخوصها ومصاديقها وتطبيقاتها.

فالشفاعة قائمة على الشفيع والمشفوع والشيء المشفع، فالشفاعة هي بمقام الوساطة، وهي مصدر شَفَعَ: (بمعنى طلب الاعانة ممن هو قادر على الانقاذ مما وقع فيه، والشفيع هو المعين) كما في اللغة حسبما يقول الفقيه الكرباسي في التمهيد، وعند المتشرعة: (هو الشيء أو الشخص الذي يضمه المحتاج الى غفران الله وكسب رضاه أو درء غضبه وسخطه الى ما قدّمه ليكون عوناً في ذلك، شرط أن يكون ذلك الشفيع ممن ارتضاه الله للشفاعة)، وبتعبير آخر كما يؤكد الفقيه الكرباسي: (الشفاعة: هي طلب العون بمن أو بما له جاه عند الله لجلب رضاه سبحانه وتعالى في دفع ما يكره أو جلب ما ينفع)، ويرى الفقيه الغديري في المقدمة ان: (أصل الشفاعة أي غفران الذنوب ومنح المطلوب حق استقلالي لرب العالمين وهو يأذن ويسمح لمن يشاء من خلقه بذلك أو يجعل لشيء تلك الخصوصية بلطفه وكرمه، وهذا من رحمته الواسعة على عباده الضعفاء الفقراء والذين يخرجون من طاعته عمداً أو خطأً بسب وساوس الشيطان الرجيم).

وليست الشفاعة مفتوحة لكل انسان، فبلحاظ تعريف الشفيع فهي تشمل: (الشخص أو الشيء الذي من خلاله أو من موقعه يوجب الخير أو دفع الشر المتمثل في كسب رضا الله ورفع سخطه سبحانه)، والنبي محمد(ص) وأهل بيته هم أوضح مصاديق الشفاعة في حياتهم ومماتهم، وكما يقول الفقيه الغديري: (إن الله تعالى منح النبي(ص) حق الشفاعة، وكذلك لأوليائه من الأنبياء والمرسلين والأئمة الطاهرين عليهم سلام الله أجمعين، فالشفاعة من ضروريات الدين لا يمكن للمؤمن بالله ورسوله أن ينكرها سوى من كان على دين آخر غير الإسلام)، من هنا يؤكد الفقيه الكرباسي بأن: (القول بأن النبي(ص) وآله لا دور لهم عند الله بعد الممات فهو من الجفاء الذي يصل الى حد المعصية)، وبتعبير المعلّق: (وقد يُرى أن القائل بهذا، أي أنهم ليس لهم دور بعد الممات، يعدّ الاعتقاد بدورهم بدعة في الدين، والحق ان هذا الاعتقاد منه هو من مصاديق البدعة المحرمة والتي عبر المؤلف عنها بالمعصية)، على أن الثابت بأن الشفاعة كلها بيد الله سبحانه وتعالى بصريح قوله: (قل لله الشفاعة جميعاً) الزمر: 44، ولكنه يأذن لمن يريد كما في صريح قوله تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) حيث يؤكد الفقيه الكرباسي إن: (الشفاعة في الأساس لذاته جلّ وعلا، وانما يخوّل آخر بذلك ويرتضيه لأن يكون شفيعاً، وذلك المخوَّل يعرف حدوده كما يعرف حدود الشفاعة ولمن يشفع، وبصريح العبارة فالشفيع يدرك أنه إنما هو مأذون من قبله وليس مستقلاً برأسه، فهو يعرف مواردها فلا يتجاوزها)، فالشفاعة ليست منفصلة عن قدرة الله وهو قوله تعالى: (ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع) الأنعام: 51.

 

شروط الشفاعة

وبشكل عام فإن الفقيه الكرباسي يستنبط من آيات الله وسنة نبيه شروطاً عدة للشفاعة، وهي باختصار:

1- قدرة الشافع على الشفاعة.

2- أن يكون المشفوع له من أهل الإيمان.

3- لابد أن يكون الشافع (الشفيع) مأذونا من الله جل وعلا باذن خاص أو عام.

4- الرضا – من قبل الله- عن المشفوع له بالشفاعة.

وبهذه الشروط اذا وقعت الشفاعة كما يضيف الفقيه الكرباسي في التمهيد: (لا ينكرها أحد من المسلمين إلا من في قلبه مرض وعلى عينه غشاوة الجهل، وقد روى ابن عباس أن عمر بن الخطاب خطب قائلا: “وإنه سيكون من بعدكم قوم يكذبون بالرّجم وبالدجال والشفاعة وبعذاب القبر، وبقوم يُخرجون من النار بعدما امتَحَشوا –حرق جلد البدن-. مسند أحمد: 1/30، ح 157″، وكما جاء في البخاري في حديث صحيح عن رسول الله(ص): (من قال حين يسمع النداء- الأذان- اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمد الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة)، أو قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلّوا عليّ فإنَّ من صلّى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبدِ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلّت له الشفاعة). صحيح مسلم: 1/288. ولاشك أن طلب الاستغفار للآخر هو جانب جلي من جوانب الشفاعة، وكيف وأن الشفيع هو النبي محمد(ص)، فتلك نعمة كبرى قيدها الله في كتابه المنزل بقوله تعالى: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً).

ولا تقتصر الشفاعة على المعصومين، فهي أوسع بكثير، إذ: (يجوز للمرء أن يطلب من أخيه المؤمن أن يدعو له، وهو نوع من الشفاعة المحللة)، وكذلك: (مَن يجعل حسناته أو أفعال الخير التي قام بها شفيعاً لدى الله ليغفر له ذنبه فهذا من أفضل القُربات)، وهذا الاستشفاع كما يعلق الشيخ الغديري: (لا ينافي الاستشفاع والتوسل بأولياء الله تعالى من الأنبياء والأئمة الطاهرين(ع)، بل وقد يُستحسن فيه الجمع بلحاظ طلب قبول الأعمال الحسنة وفعل الخيرات)، وتتوسع حلقة الشفيع والاستغفار الى الوالدين إذ: (مَن جعل رضا والديه شفيعاً له عند الله، كان ذلك خير شفيع) بل: (تصح شفاعة الصغير في الدنيا والآخرة حتى السقط فإنه يشفع لأبويه في الآخرة)، وتتسع الى الملائكة في قوله تعالى: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما) سورة غافر: 7، ولكن لا تعني الشفاعة هنا تغيير ما أراده الله، إذ يؤكد الفقيه الكرباسي أن: (مَن يتصور أن للبشر أو الملائكة أو الجن أو أي مخلوق آخر القدرة الذاتية في تغيير ما أراده الله فإنه باطل ولا يتحقق).

ولكن رغم القول بالشفاعة وهي حقيقة قائمة وجاءت بها الأديان، فإن من أهم شروط إمضائها كما يؤكد الفقيه الكرباسي في التمهيد: (أن لا تُسبب في تعطيل حدّ من حدود الله أو لا تخترق حكماً من الأحكام الشرعية (القانون) وأن لا تتنافى مع الخلق الاسلامي الرفيع ولا توجب فساداً)، فعلى سبيل المثال: (الحق الاجتماعي لا تسقطه الشفاعة بأي شكل من الأشكال)، وكذلك: (لا يجوز للمؤمن أن يهتك المحرمات بأمل شفاعة الرسول(ص) له في الآخرة)، وكذلك: (لا يجوز للهاشمي أن يُشفِّع نسبه لارتكاب المعاصي أو التجاوز على الآخرين) ويضيف الفقيه الغديري معلقاً على المسألة بالقول: (بل وقد يكون موجباً لتشديد العقوبة عليه، لمكان هتك حرمة الانتساب).

فالشفاعة في نهاية الأمر مسألة طبيعية يمارسها الإنسان في حياته اليومية عل مستوى شخصي واجتماعي لا ينكرها الا جاهل، ولأنه في عالم الدنيا يطير بجناحي الخوف والرجاء، فهو يأمل أن تنفتح أمام مركبته مغاليق السماء يرجو الله الرضوان متشفعاً بأفضل الخلق إليه محمد وآله لغفران الذنوب وتذليل الخطوب ونيل جنة عدن عند مليك مقتدر.