يحتفل العراقيون اليوم بمناسبة مرور مائة عام على تأسيس جيشهم.. حيث تشهد المناسبة تفاعلا إيجابيا من الجهات السياسية والفعاليات الشعبية بصورة تؤكد التفاعل مع الحدث وتعزز الانتماء الوطني.
واقعا يحق لابناء هذا الشعب ان يفخروا بتلك المؤسسة، التي سبقت نظيراتها بعقود من ناحية التأسيس والخبرة والعقيدة والروح القتالية، التي قل وجود مماثل لها في الجوار الإقليمي على أقل تقدير.
تساؤلات كثيرة تطرح حول واقعية هذا الإهتمام وخلفياته، بعيدا عن التشكيك في النوايا وخدش روح الاخلاص والوطنية، التي تحكيها منصات الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.
القراءة الدقيقة لمسيرة المؤسسة العسكرية العراقية، تضع المتابع أمام كم هائل من المبالغات في وصف أشياء لا لبس فيها كما يصف اشياء أخرى بما ليس لها، فالجيش ومنذ لحظات تأسيسه الأولى كان تابعا القرار السياسي الحاكم للبلاد، وهذا القرار قلما كان على وئام مع الحالة الإجتماعية العامة، وبالتالي اصبح الجيش هو الاداة الفاعلة والمؤثرة، لكسر أي إرادة رافضة للاداء السياسي على مدى عقود.
إن تحول المؤسسة العسكرية الى عصا يلوح بها الحاكم لتهديد خصومه متى شاء، أدى إلى انحرافها عن عقيدتها التى بنيت عليها وتم افراغها من مضمونها الذي طالما سوقت له أجهزة الإعلام التابعة للسلطة، وبهذا حصل بون شاسع بين الفعل والإدعاء، ناهيك عن الحروب العبثية التي زج بها المقاتل العراقي، وتسببت بخسارات لا تقدر بثمن سواء في الأرواح أو الممتلكات، يضاف لها محاولة إختزاله بلون طائفي معين ينسجم مع ميول الحكام.
الحديث عن المواقف السلبية والإشارة الى المراحل المأساوية، في دراسة اية ظاهرة لا يعني بالضرورة، نسف جميع محطاتها المشرقة التي تخللت مسيرة عملها، خصوصا تلك التي امتدت تجربتها سنوات طويلة كالمؤسسة العسكرية.
لقد كانت مشاركة الجيش العراقي في القضايا التي تهم الأمة، مثار فخر وإعجاب حين ساهم في الدفاع عن عروبة فلسطين، وصد العدوان الإسرائيلي عن الأراضي العربية، فيرى الناظر قبورا تضم رفاة الشهداء الذين سقطوا على ارض الشام، دفاعا عن قيم العروبة والإسلام، قبل ان تصادر من قبل الحكومات الخانعة والانظمة التي تسيرها الإرادة الأجنبية.
بعد زوال نظام البعث الذي يعتبر امتدادا لمنظومة الحكم الاستبدادي، الذي تصدرت المشهد السياسي بالقوة والإكراه، شهدت العقيدة العسكرية تحولا لافتا، اذ اصبح المقاتل يشعر بأنه يقوم بواجبه تلبية لحاجة مجتمعه ووطنه، الذي تكالبت عليه قوى الشر من كل حدب وصوب.
الوعي الاجتماعي هو الآخر شهد تطورا نسبيا حيال نظرته (للخاكي) مختلفة عن تلك التي يضمرها لمن يرتدي (الزيتوني)، اذ يرى في الجندي بعد ٢٠٠٣ هو ذلك الشاب القادم من الازقة التي تحملت معاناة الأيام وقسوة السنين، والذي يحمل عقيدة مغايرة لما كان عليه الحال قبل التغيير، يضاف إلى ذلك أن منتسبي المؤسسة العسكرية قد جعلوا من أنفسهم الدرع الحصينة لمواجهة مفخخات الحقد والإجرام، الذي تبنته القاعدة بمعونة بعض الذين لا يروق لهم هذا التلاحم بين العسكر والناس، ممن كانوا قادة لتلك المؤسسة والذين فقدوا الامتيازات والسلطة، ولم يتمكنوا من مغادرة عقد الماضي ولا يرون في أنفسهم الا أسيادا وما سواهم مواطنوا الدرجات التي تقع خارج نطاق التقييم!
ان تجربة المنازلة مع تنظيم داعش الإرهابي تعد بمثابة محطة اختبار، لمصداقية جميع الفعاليات الجماهيرية والرسمية المدنية والعسكرية، فلم يكن الجندي العراقي بمعزل عن هذا الامتحان الصعب، اذ اثبت فاعليته بالمعركة وتفاعله الإيجابي مع متطلباتها، خصوصا بعد الفتوى المباركة للمرجع الأعلى بضرورة التصدي لزمر الإرهاب، التي إستباحت بعض المدن العراقية.
يرى بعض المحللون أن اعتبار سنة صدور الفتوى وما بعدها من السنوات الى هذا اليوم هو التأسيس الحقيقي، بعيدا عن الذكرى المئوية للتأسيس.. نعم من الناحية التاريخية لا نقاش في ذلك، لكن من ناحية الاداء والفاعلية ونوعية المهام والإخلاص، في المواجهة وعزيمة التصدي ربما نجد رأيا مغايرا.
في السنوات الخمس الاخيرة من المئة سنة التي مرت على تأسيس الجيش، حصل ما لا يمكن العثور عليه في بطون الكتب، التي تتاولت سيرة الجيش العراقي بالبحث والتحليل.
اذ إنها المعركة الوحيدة التي وقف بها كل الشعب الى جنب قواته الأمنية، سواء في الدعم والاسناد والتعاطف والإشادة بالمنجز، ناهيك عمن حمل السلاح جنبا إلى جنب مع القوات المسلحة، يضاف إلى ذلك فتوى المرجعية التي أعطت الحافز للجندي، بضرورة الثبات وتحقيق النصر.. تلك المرجعية التي طالما شكلت هاجسا للانظمة الحاكمة ومؤسساتها التابعة، والتي كانت المؤسسة العسكرية احد اهم ادوات المراقبة والتنفيذ لاي خطة يراد بها اجتثاث المرجعية والسيطرة على حركة امتداداتها الجماهيرية، في ما سبق من عقود.