قبل أيام وفي الثاني عشر من هذا الشهر، احتفلت حكومة المنطقة الخضراء بما سمته مئوية الدولة العراقية ولا يعرف العراقيون ان هناك مناسبة معينة في هذا اليوم لان تتويج الملك فيصل الأول ملكا على العراق كان في يوم الثالث والعشرين من شهر آب عام 1921 وقبل ذلك وفي السادس عشر من شهر تموز عام 1921 أعلن المندوب السامي بيرسي كوكس قرار مجلس الوزراء العراقي بمناداة الأمير فيصل ملكا على العراق. ولم يصدر عن الحكومة أي تعليق عن سبب الاحتفال بهذا اليوم بالذات! كيف اختارت الحكومة هذا اليوم وما هو سبب ذلك؟ ام ان حكومة الخضراء تدار إدارة عشوائية واختيار هذا اليوم هو خطأ جديد يذكر بخطأ رئيس الوزراء السابق إبراهيم الجعفري الذي قال ان دجلة والفرات ينبعان من إيران؟
ومن الغريب ان يتم الاحتفال بهذه المئوية فجأة ودون ان يهيئ لها بشكل مناسب ومنظم وبترتيب يليق بالعراق وبتاريخه وحضارته كما تفعل الدول عادة وهي تحتفل بمثل هذه المناسبات. في مثل هذه المناسبات تشكل قبل عام على الأقل لجنة عليا للقيام بذلك وتسخر إمكانيات مادية وتحشد مؤسسات الدولة والمجتمع المدني للاحتفاء بهذه المناسبة ، في حين ان حكومة الخضراء قد اقتصرت على تنظيم بعض المراسيم البسيطة لتحتفل هي واحزابها داخل اسوار المنطقة بمعزل عن الشعب العراقي !
بهذا الشكل تم اعلان مئوية الدولة العراقية التي اقحمتها حكومة الاحتلال بغير مناسبتها عقب الانتخابات التي قاطعها الشعب بشكل كثيف وواسع هذه المرة وبصورة اشمل من انتخابات عام 2018. اما مضمون هذه المئوية فقد نشره الرئيس العراقي برهم صالح على شكل مقال على موقع الجزيرة نت، والاحرى به وبهذه “المناسبة” المهمة والتاريخية وبالأوضاع التي شهدها ويشهدها العراق مخاطبة الشعب العراقي أولا وبشكل مباشر لإظهار احترام الدولة ومكانتها ومكانة قيادتها واهلية الأشخاص الذين يحكموها وعلاقتهم بها وبالشعب، فالمئوية ليست مناسبة شهرية ولا سنوية ولها خصوصية ورمزية ولذلك تم الاحتفال بها لكن بهذه الطريقة التي اضحكت العراقيين؟ بدءا، يقدم الرئيس العراقي لمئوية الدولة العراقية مختزلا إياها
بثلاثة سطور فقط لتأتي الفكرة التي يريد طرحها وهي فكرة ” الحكم الرشيد ” الذي ساد خلال حكمه السابق وسيستمر ترسيخه مستقبلا عبر استعادة ثقة الشعب بالنظام السياسي مع تشكيل الحكومة الجديدة؟ للوهلة الأولى يبدو تعبير الحكم الرشيد توصيفا لبلد آخر وحكومة لا علاقة لها بحكومة المنطقة الخضراء المنزوية خوفا وراء الجدران الاسمنتية والتي حصدت هزيمة ساحقة في الانتخابات تحت سمع وبصر العالم ليفوز هو في المقاطعة وليس أحزاب عملية الاحتلال والمحاصصة الطائفية الغارقين في الفساد. بعدها يتطرق برهم صالح الى الكلام عن الدولة ويطالب بعدم المساس بها وانهاء التجاوز عليها واضعافها، وفي حين ان من يضعف الدولة ويتجاوز عليها هم اركان العملية السياسية أنفسهم. هكذا يكرر الرئيس العراقي بالنص وبنفس الطريقة ما قاله رئيس الوزراء المقال عادل عبد المهدي عندما اتهم ثوار تشرين بأنهم ضد الدولة ويريدون اسقاطها في حين ان الشعب العراقي خرج بالاحتجاجات وفي مقدمته شباب يريدون دولة حقيقية، قوية غير منتهكة تتمتع بالسيادة.
ليس ذلك فحسب بل ان صالح يقترح عقد سياسي واجتماعي “لإنهاء دوامة الازمات” وهو نفس ما قام به أسلافه في الخضراء سابقا. اذ مع كل انتخابات يضاف عقدا آخر الى العقود الأخرى التي تتكدس في مكان ما من الخضراء دون ان يرى العراقيون فيها خدمة لهم وتطبيق جدي وحقيقي لحل أزماتهم . ورغم ان الرئيس هو حامي للدستور ويعتبر رئيسا لكل العراقيين بالتساوي دون تمييز عرقي او طائفي الا انه يخصص اهتماما منفردا، لأنه سبق له ان صوت على استقلال شمال العراق ، بشأن ما يسميه بالإشكالية الكردية مع بغداد التي رافقت تأسيس الدولة، والتي تعود أصلا الى ما قبل الحرب العالمية الأولى وتأسيس الدولة ، بينما العراق غارق في عدد لا يحصى من المشاكل الخطيرة والكبيرة المتجاهلة تماما مع سبق الإصرار والترصد وخاصة قضية الإرهاب التي يختزلها بتنظيم داعش فقط التي ظهرت قبل سنوات دون ان يتكلم عن الإرهاب الواسع والمنظم الذي نال من الشعب العراقي وأباد جزءا كبيرا من سكان مدنه ومحافظاته وهو التنظيم الذي أدخلته حكومة الخضراء بنفسها في عهد نوري المالكي للموصل وغيرها بهدف تدمير المدن العراقية وارساء خطط الاحتلال فيها.
ان الفساد الذي ينخر جسد العراق منذ ثمانية عشر عاما هو الفساد الذي تأسس مع غزو العراق واحتلاله وهو ليس ظاهرة فقط كما يسميها الرئيس صالح بل انها أساس بنيوي لتسيير العملية السياسية واحزابها وميليشياتها التي وضعها الاحتلال الأمريكي ويديرها مع الوكيل الإيراني، في هذه المئوية يتأكد العراقيون ان هذا الفساد هو اس الخراب والاساس الذي تم وضعه وتنفيذه لتدمير الدولة العراقية وتشظية النسيج العراقي الاجتماعي وتفجير نواة المجتمع والاسرة حتى لا يبقى بلد اسمه العراق ولا شعب اسمه الشعب العراقي. ليس ذلك فحسب بل ان الفساد أصبح السمة الغالبة في تعامل الأحزاب وميليشياتها فكل شيء يخضع للعرض والطلب وللسمسرة من أصغر امر الى مناصب الرئاسات وبطريقة علنية فلم يعد هناك من أحد سواء في الأحزاب او في ميليشياتها لدية حدود قانونية ولا حتى رادع نفسي للتعامل به. لقد حولت أحزاب العملية السياسية كلها دون استثناء وميلشياتها المرتزقة الدولة الى بورصة لجني الأموال والاغتناء غير المشروع والنهب المنظم لثروات العراق والعراقيين ، وبدت العملية السياسية بورصة وليس دولة ورئاسات لبلد مثل العراق تحرسها بنادق ميليشيات الأحزاب التي تجبي بشكل علني الأموال في صالات القمار والملاهي وغيرها وتتاجر بكل شيء وبما لا يمكن حتي تخيله اذ يبدع اتباع المحتلين بتجاوز سادتهم ليثبتوا تفوقهم وقدراتهم ان يصبحوا بنفس مستواهم في جني الأموال وتكديسها والحصول على صفقات ومشاريع وشركات تدر المليارات في العراق وفي العالم.
ان غزو العراق وتدميره وتحويله لدولة تابعة للإمبراطورية الآفلة للتراجع هو الحدث الأخطر والأكثر جسامه في تاريخ العراق وانشاء دولته الحديثة الذي يجب ان يكون في قلب الاحتفاء بمئويه الدولة اليوم. لذا يبدو ان احتفال عملية الاحتلال السياسية بهذه المناسبة في غير وقتها وعلى عجالة ما هو في الحقيقة الا مناسبة وفرصة تجارية ومالية تغتنم لتدوير نفس الأحزاب للحكومة المقبلة التي جاءت مع الغزو والاحتلال والتي ورغم ثورة تشرين والاحتجاجات المستمرة منذ عام 2011 وما دفعه الشعب العراقي من اثمان باهضه لتحرير العراق لم تتخلى عن الدور التخريبي للعراق ولدولته ولمجتمعه بل هي مستمرة على نفس الدرب تخدع وتخادع العراقيين.
في كل لحظة تاريخية عصيبة ثار العراقيون بكل اطيافهم بهدف الدفاع عن ارضهم وبلدهم ووجودهم وكانوا دائما على الموعد الصحيح لقلب موازين القوى على ارض الواقع وهو ما سيحصل عاجلا ام اجلا لكي يعود العراق لأهله وشعبه ليبنوا بأياديهم نظام عصري ديمقراطي وتعددي حقيقي يليق بتاريخه كما طالب به ثوار تشرين.