من بين الصور المعيبة والمشينة في العرف الإنساني والأخلاق العامة، صور أضحت للأسف الشديد مألوفة لدى العراقيين، بعد أن استحالت الى طبائع وسلوكيات يتحلى بها أولياء أمور بلدهم، تلك هي صور الإخلاف بالوعد، والنكث بالعهد، والحنث بالقسم. ولو أردنا حصر الأشخاص الذين لازمتهم هذه الصور داخل إطار، لضاق بنا الإطار وانفلت من أيدينا الحصر والعد والحساب، فهم باتوا الأغلبية العظمى من رؤوس القيادة وجسدها وصولا الى ذيلها، حتى يخيل للناظر أن المناصب السياسية ودرجات المسؤولية، مشرعة حصرا للموارب والمواري والمرائي، فضلا عن المماطل والمسوف والمخادع، ومن غير هذه المؤهلات تبقى الوظائف القيادية شاغرة. والغريب أن كل هذي السلوكيات تشترك في تحقيق هدف واحد، هو السرقة، والسرقة هنا تتعدد أشكالها وصورها، فالمواطن مسروق من جوانبه كلها، والبلد مسروق من مفاصله جميعها، وتأريخ العراق وإرثه الحضاري مسروق، وحاضره قيد السرقة، أما مستقبله فلاأظن السراق سيتركون فيه شيئا يستحق عناء السرقة، فقد أتوا على الجمل بما حمل. واللافت للنظر أن هؤلاء جميعهم يدركون شين مايفعلونه، لكن الإصرار على القيام به بات دينهم وديدنهم! ولعلهم يرجون من بعد ولوغهم بما هم ماضون فيه، أن يعودوا الى رشدهم يوما، ويصلحون ما أفسدوه هم لاالدهر، يذكرني هذا برجل سئل يوما؛ ماأنت صانع في دينك؟ أجاب: أخرقه بالمعاصي وأرقعه بالاستغفار..!.
إن اثنتي عشرة سنة بالتمام والكمال، ليست يسيرة على من يعيش أيامها ولياليها الحبلى بالمصائب والنوائب، وهي تلد له كل حين ما لاطاقة له بحمله، إذ ما تمر عليه سنة إلا كما نقول بلهجتنا؛ (بألف ياعلي)..! فالثلاثون مليون إنسان وأكثر قليلا، يرزحون طيلة هذه المدة تحت وطأة الظلم والجور والقمع وشظف العيش، وأظن المفردات الأربعة الأخيرات ليست جديدة على العراقيين، فهي ذاتها التي لازمتهم إبان حكم المقبور صدام، أما الذين أعقبوه في مسك زمام البلد، فقد زادوا الحال سوءًا، ووضعوا (فوگ الحمل تعلاوه). فالظلم صار أضعافا مضاعفة، حتى غدا صفة لصيقة بالمنصب الحكومي والحزبي، وليس بمقدور من يعتليهما مجانبته أو أن يعف ويعدل، فحق عليه القول:
الظلم طبعك والعفاف تكلف
والطبع أقوى والتكلف أضعف
والجور أضحى خصلة تنمو وتزدهر طرديا مع تدرج المسؤول في وظيفته، فكلما توسعت رقعة الراعي ازداد تخليه عن رعيته، ونأى عن شرف المهنة، وصار شغله الشاغل مصلحته الخاصة والفئوية، رافعا شعار؛ (أنا ومن بعدي الطوفان).! والقمع هو الآخر لم يفنَ بفناء المقبور، بل بات الشعار الطاغي، وصوته أعلى من باقي الأصوات، ونهجه فوق نهج الديمقراطية المزعومة. أما شظف العيش، فقد أضحى سمة وعنوانا يُعرف بهما الثلاثون مليون نسمة، إلا من فتحت له خزائن وأبواب، ليس أولها المشاريع الوهمية والصفقات المريبة، كما ليس آخرها السرقات بأفانينها ودهاليزها، حتى صارت ثروات البلد وخيراته تتوزع برمتها على نسبة ضئيلة من السكان، كسرقات مبطنة تحت مسميات قانونية او إدارية. أما النسبة العظمى من السكان فنصيبها العوز والفاقة والبطالة، وهذا هو التهميش بعينه، وسعيد حظ من يسلم على ما كان يملكه من نزر يسير في بلده، قبل أن يستحوذ عليه السراق تحت غطاء المنصب او الجاه او النفوذ او الدين، فيحق في وصفه آنذاك بيت الأبوذية القائل؛
احطن طين فوك الطين قاطين
على الباك الخزينة ولبس قاطين
وينه الكال نبني البيت قاطين
شجاك وهدمت كوخي عليه