23 ديسمبر، 2024 3:06 م

مؤسساتنا البحثية ومعايير اختيار الخبير العلمي

مؤسساتنا البحثية ومعايير اختيار الخبير العلمي

تسعى اكثر المؤسسات البحثية في اغلب الدول المتحضرة الى ان تكون منبراً مستنيراً للحوار الفكري الجاد والمثمر حول القضايا المهمة التي تشغل بال اي مهتم ومثقف وصانع قرار ومتابع حصيف، تمثل همومهم واهتماماتهم..لذلك، يجب ان يكون بين هذه المؤسسات والمهتمين بامر انتاجها، عهد وميثاق، يكون دائماً لسان صدق يعبر عن العقل والحرية، باعتبارهما اداتين لبناء المستقبل، ووسيلتهما الى ذلك ان تكشف عن مواضع الداء وسلبياته المحبطة في حياتنا بجوانبها المتعددة، وكذلك نكشف عن تحديات تستفز الهمم لمواجهة تلك السلبيات وتجاوزها على نحو يدفعنا الى التزام نهج قويم في معالجة شؤوننا العامة.
واتساقاً مع سياسة اي مؤسسة بحثية في اثراء معرفتنا بحوار عقلاني خصب وخلاق، ان تقدم لقرائها موضوعات ذات مستوى علمي لا يقل عن مستوى اي قارئ نبيه لتكون مجالاً رحباً لمناقشة قضايانا ومشكلاتنا على هدى من الموضوعية العقلانية والنقدية وفي ضوء الجديد من معطيات البحث العلمي والواقع الحي وما يفرضه علينا من تحديات توجب مراجعة متجددة لرصيدنا وادوات عملنا.
ونحن ككتاب وباحثين اولاً وكقراء ثانياً، لا نعتبر ذلك دليلاً على اهمية وحيوية ما تحفل به نتاجات هذه المؤسسات من افكار ومواقف ورؤى فحسب وانما ايضا على حركة العقل العراقي وحيوية الكاتب/ الباحث/ رجل الدولة/ القارئ…. في هذه المرحلة الحرجة، حيث ثبت انه عقل رافض لكل ما احاطت به وسائل الاعلام الموجهة من الغث والتافه الساقط من الافكار والمواقف، عقل يفكر بعمق، ويبحث عن الكلمة الجادة، الموقف الصادق، الرؤية المجتهدة، بصرف النظر عن الاتفاق والاختلاف بينه وبينها.
فالحوار الحقيقي الذي يجب ان نسعى لاقامته بيننا- المؤسسة/ الباحث/ القارئ- حوار لا ينتهي بالضرورة الى اتفاق كامل في وجهات النظر ولكنه الحوار الذي يوضح الافكار ويعمق الرؤى ويدفع بالاجتهادات الى اقصى نتائجها المنطقية او يرشد المواقف حتى تمضي على طريقها الصائب الذي يحاول ان يقترب من الحقيقة دائماً.
لكن الذي يبدو للمتأمل في حياتنا العلمية/ الفكرية الراهنة، اننا نعود من حيث ندري او لا ندري بقصد قد يكون مبطناً –والله اعلم- او بدون قصد، الى نقطة الصفر، وليست هذه العودة كما قد يظهر لاول وهلة نتيجة لمراجعات فاحصة للتجارب التي مرت بنا، وتقييمات دقيقة لأسسها ومعطياتها ونتائجها، ولكنها اعادة لنفس التجربة او التجارب، انطلاقاً من نفس الاسس والمقدمات، وكأنه محتوم علينا كباحثين وكتّاب ان نظل ندور داخل محيط دائرة مغلقة.
ان الخطورة الكبيرة الطاغية الآن في اغلب مؤسساتنا البحثية، هي وجود (نفر) على رأس ادارتها لا علاقة لهم بالفكر والابداع والابتكار، لا من قريب ولا من بعيد، ادعياء معرفة، يشكلون عبئاً بغباواتهم على مجتمعات هذه المؤسسات وعلى الآدمية التي يحملون بالخطأ بطاقة الانتماء اليها. بوجود مثل هذا (النفر) بلغ الامر باكثر كتابنا وباحثينا احجموا عن الكتابة والبحث والمشاركة بنشاطات هذه المؤسسات، احتراما لانفسهم واعتزازاً بانتاجهم العلمي. لان لمهنة الكتابة/ البحث فروضها ومنطقها، ونصيحتي لهذا (النفر) الذي يتعاطى مع (ذوات) علمية ارفع مستوى منهم بالتأكيد ان يتعاملوا معهم باسلوب مشفوع بالكياسة والعلمية، باسلوب فيه التصرف الذكي الذي يغذي العلاقة بين الطرفين ولا ينال من الكرامة ولا ينشيء حقداً.
صحيح، ان احداً لا يمكنه ان يزعم العصمة الا ان بامكاننا تحقيق الممكن وتوظيف قسم من غير الممكن، في سبيل ان نحافظ على مصداقية هذه المؤسسات. والمصداقية، وخاصة العلمية، هي عماد اي عمل علمي امام الكاتب/ الاكاديمي/ القارئ، والضمير المهني، والوطن، الذي يطالبنا بواجبات كثيرة اقلها ان نكون صادقين وموضوعيين.
فالثقة التي يمنحها الباحث لمؤسسة علمية/ بحثية لا يجوز ان تكون يوماً مادة تفريط وتبديل بل يجب ان تكون سنداً للمواجهة ولتأكيد فعل وعمق مادتها في العقول والقناعات. تلك قواعد التعامل السليم الذي يجب ان يقوم بين المؤسسة العلمية والآخر الذي يعطيها ثقته وهو ما يلزمها.
والمادة العلمية الجيدة المقدمة لهذه المؤسسة تفرض نفسها وليست بحاجة الى من يرفعها الى مرتبة الجودة لتكون ذات قيمة. فالجودة هي المقياس في عملية التقويم، والمعرفة ليست بضاعة كاسدة بحاجة الى من يروج لها. وعندما تتولد لدينا مقدرة علمية عالية ينبغي ان نهبها اقصى قدر من حرية التعبير حتى ولو مست ما هو راسخ في نفوسنا او في قناعاتنا. والسبب، ان هذه القدرة ليست ملقاة على قارعة الطريق وباستطاعة اي كان ان يكونها ولا يمكن لأي كان ان يتجاهلها او لا يعترف بها مهما كان موقفه الفكري منها، لاننا امام خلق واعجاز لا ينكره الا من يظن انه يراهن على غباء المتلقي او يظن انه ليست له القدرة على الاستيعاب.
ان اطلاق التقييمات من قبل مسؤولي هذه المؤسسات او من قبل من (يتملق) لهم اعضاء هيئاتها العلمية من دون اساس او مقياس، امر مرفوض. فلابد من ضابط متفق عليه اومأخوذ به عند عدد من ذوي الخبرة العلمية والرأي السديد. فما هي المقاييس التي اتبعتها اغلب مؤسساتنا البحثية في تقييم النتاجات العلمية المقدمة لها؟
اننا اذا ما اردنا الرقي بمستوى انتاج هذه المؤسسات عبر قنواتها العامة والاختصاصية، فان الواجب يقتضي الاهتمام بالتقويم الحصيف الموضوعي المتجرد من عنصر التملق والمجاملة والمسايرة لرأي رئيس المؤسسة.
والتقويم الحصيف يجب ان يتضمن الوصف والتفسير والتحليل والاستنتاج حتى تخلق ذوقاً عاماً قادراً على التمييز بين الغث والسمين، بين الجيد والرديء، بين الاصيل والمبتكر، بين الجمود والابداع. ولكن، هل نستطيع ان نختار المقوم العلمي المناسب الذي يقدر على التقويم المنصف وفق معيار علمي موضوعي بعيد عن الانحياز والتملق الاسترزاقي؟
ان المشكلة التي نواجهها في اغلب مؤسساتنا العلمية هذه، متعددة الابعاد، وآية ذلك، ان التقويم الاستنزافي المتملق منحاز، لان الاحكام او احكامه التقويمية في مجالات النقد والتحليل انما هي نتاج الرأي الخاص للمقوم، لان الحكم التقويمي يمثل وعي الخبير وادراكه في مجال الموضوع المراد تقويمه، ولا يكون الحكم موضوعياً متجرداً عن انحياز المقوم الا اذا تمكن المقوم من ابعاده عن اتجاهاته، ومقاصده وتطلعاته الشخصية بصورة واعية حتى يصبح دوره مثل دور شاهد العيان الامين الذي لا يقول سوى ما رآه بأم عينيه بدون اضافات او تشذيب، فهو يجمع على ابانة قوة الدراسة ونقاط ضعفها، اتساقها وتناقضها، جودتها او رداءتها بكل امانة.
ولكن (بعض) مقومي مؤسساتنا العلمية المعنية للأسف يخضعون لتأثير تملقاتهم وعقدهم النفسية بسبب امتلاكهم عقلية تقليدية متخلفة ازاء علمية الآخر المتقدمة والمتطورة، وقد يكونون مدفوعين بدوافع باتت مكشوفة بواطنها ولا تنطلي حتى على السذج. وبذلك يختلفون عن اولئك الذين يحرصون على اسمائهم ومكانتهم في درجة انحيازهم العلمية، فانهم يتجهون نحو مهارة الاداء متبعين المنهجية السليمة والفرضية الصحيحة للعمل العلمي الذي لا يرقى له شك، الربط والاستنتاج المنطقيين، دقة التعبير ووضوحه، التوصل الى استنتاجات ومقترحات ذات علاقة بالموضوع، ومن ثم يصدرون احكاماً، بحيث تصيب اهدافها بحكمة واتزان من اجل تعزيز البحث عن الحقيقة وتقديم الدراسة الافضل للقراء، وبشهادة واضحة لا لبس ولا غموض ولا ابهام فيها، ولا يرقى لها الشك، والاسترزاقية التملقية.
والمقوم الحصيف يحذر الف مرة من الاسراف في التخصيص والتعميم، وهو حريص على فهم المعاني التي اوردها منتج العمل العلمي، سواء مؤلف او مترجم، يقلبه ذات اليمين وذات اليسار لكي يتأكد مما ينطوي عليه من مضامين خفية او مضامين فضفاضة من جهة نظر القارئ في الثقافة التي هو فيها. فالمقوم العلمي يبذل جهده في محاولة منه لاستخلاص ما يقوله كاتب الدراسة لكي يتمكن من تقدير القيمة العلمية والادبية لها واصدار حكمه بشأنها.
ان على الهيئات العلمية في مؤسساتنا البحثية، الحرص على تقديم الافضل والاحدث لقراء مطبوعاتها، وعليها ان تحرص على استقطاب كبار الكتّاب والعلماء والباحثين والمترجمين ممن يمتلكون ناصية المعرفة والمشهود لهم بوافر الثقافة او بالمصنفات العلمية.
ان هؤلاء لا يحتاجون الى من يقوّم نتاجاتهم العلمية الا اذا كانت تعالج اموراً مثيرة او غير محسومة من الجوانب السياسية والفكرية، عندئذ تسعى وبالاتفاق مع كتابها او مترجميها الى التعديل او الحذف حتى تتوافق المادة العلمية مع الاتجاه المقبول.
ان مفهوم التقويم يتضمن معنى قطعياً في المعاجم، وان قرار المقّوم اذا كان سلبياً وفق عقده النفسية وميوله التملقية/ الاسترزاقية قد يحرم القراء من دراسة علمية مفيدة للقارئ، فضلاً عما يلحق بكاتبها او بمترجمها الاحباط من وجود مثل هكذا مقوم وبالتالي عدم التعامل مع مثل هكذا مؤسسة.
ان المقوم العلمي الجيد هو الذي يمتلك حساً مرهفاً نحو مختلف جوانب الثقافة ويكون ملماً في مجال اختصاصه المعرفي ومشهوداً له في كذا جانب حتى يتمكن من كشف التعقيد الذي تطرحه الدراسة او تتناوله بالبحث والتحليل، ومن ثم الكشف عن جواهر الدراسة ممثلا بغاية الكاتب وكيفية توصله اليها او نفيها.
والصدق يشكل شرطاً لازماً للمقوم، لان وظيفته بالاساس الكشف عن الافاق العلمية وتتبع خطوات البحث واتساق مفرداته وترابطها ومدى اهتمام الباحث بالمعرفة والذوق في الثقافة المعنية التي يكتب لها. ويتطلب التقويم الصحيح للدراسة ايضاً، التفسير والشرح والمناقشة، وهذا يتطلب مقوماً يمتلك نواحي المعرفة والنضج حتى لا يشط في قراره نتيجة جهله المعرفي او نتيجة انحيازه او انفعاله. وكلما كانت شخصية المقوم اكثر اتزاناً كلما كان حكمه اكثر ملائمة لاذواق القراء واكثر مصداقية وثباتاً.
ان على مؤسساتنا البحثية ان تكون حصيفة في انتقائها للمقوم والخبير العلميين، وان تبعد العناصر الانفعالية والعدائية وان تطالب بقية المقومين بوضع المعايير التي تكفل التمييز بين الدراسة الافضل والاسوأ، الاكثر ملائمة وغير الملائمة، ومن اهم المعايير التي يتعين على المقومين اعتمادها هي:
1- وضوح العبارات وترابطها، ويتضمن ذلك الكشف عن الاخطاء والتناقض.
2- الايجاز والدقة، ويتضمن الكشف عن التكرار والاطناب غير المبرر.
3- الاتساق والثبات في المنهجية والتوثيق.
4- الاقتناع بأهمية الدراسة ودرجة ملائمتها للثقافة العامة.
5- المصداقية.
6- الاداء الجديد او المقترحات العلمية الممكنة التطبيق التي توصل اليها الباحث.
7- مراعاة الذوق العام وحاجة القراء.
8- الاسلوب ومدى قدرة الباحث على اثارة اهتمام القراء.
الحقيقة، ان المقوم لا يستطيع تغيير شخصيات الآخرين واعمالهم الا بتكثيف حدة شخصيته وحرصه على درجة علميتها ومكانتها في المجتمع. ولما كان التقويم يتضمن التفسير والتحليل والتوصيف والتقدير والاستنتاج، فان على المقوم ان يبعد انحيازاته ما استطاع الى ذلك سبيلاً خلال عملية التقويم التي يكلف بها وبخلافه فان قراراته ستكون خاطئة بحق الباحثين والكتّاب والمترجمين وكذلك القراء. فالتقويم الملتزم يعكس حاجة العقل ونقاء احساس النقد، وهو ناتج عن عقل شفاف حريص على نشر المعرفة بعفة متجردة. واما التقويم المنحاز فهو نتاج عقلية اسيرة لذات مريضة اومغلقة لا تأبه لترجيح الاعمال المعرفية بحسب ما تستحقه من تقدير ولا تسعى الى الرقي بالذوق الجماهيري او اغنائه، فالدافع الذي يحكم هذا المقوم هنا هو دافع غريزي عدواني.
وعلى اساس ما تقدم… ارى ان واجب مؤسساتنا البحثية ان تشخص المقومين الذين لا يصدرون احكاماً موضوعية راجحة وتبعدهم عن مسؤولية عظمية كهذه. والا تقع في اشكالات ومطبات. يكفي عدم مشاركة اصحاب العلاقة في نشاطاتها العلمية وعدم اقبال القراء على اقتناء مطبوعاتها.
[email protected]