منذ نصف قرن وإبراهيم خليل العلّاف يكتب التاريخ بوعي المؤرخ، وحرارة المثقف، ووفاء العراقي لرموزه وأحداثه. في جامعة الموصل عُرف أستاذاً للتاريخ الحديث، يفتح أمام طلابه نوافذ على العالم، ويُشعرهم أن دراسة الماضي ليست ترفاً أكاديمياً، بل مفتاح لفهم الحاضر وصياغة المستقبل.
لكن الرجل لم يتوقف عند حدود القاعة الجامعية أو الكتاب المطبوع، بل مضى إلى فضاء مفتوح على الجميع: الفيسبوك. وهناك صنع من صفحته ما يشبه أرشيفاً حيّاً، يتدفّق يومياً بذكريات وشهادات عن شخصيات وأحداث محلية وعربية وعالمية. يكتب عن ممثلة عالمية رحلت قبل عقود، أو عن سياسي عربي اغتيل في لحظة فارقة، أو عن فنان عراقي أغنى الوجدان الجمعي، فيعيدهم إلى الحاضر كأنهم لم يغادروا.
العلّاف يذكّرنا دائماً أن فعل “الاستذكار” ليس مجرد دعاء بالرحمة، بل حياة ثانية يمنحها الإنسان لمن يستحق أن يبقى. بهذا المعنى، يصبح استدعاء الرموز ضرباً من الخلود الرمزي، يوازي ما تحدث عنه كلكامش في ملحمة الخلود، وما جاء في كتاب الله: “علم يُنتفع به، وولد صالح يدعو له، وصدقة جارية”.
ما يلفت النظر في كتاباته أنها لا تتوقف عند حدود السرد، بل تنطوي على بعد فلسفي وفكري، يحوّل كل ذكرى إلى درس في معنى الحياة والموت، والذاكرة والنسيان. إنغريد برغمان عنده ليست مجرد ممثلة، بل رمز إنساني عالمي يظل حيّاً ما دامت آثارها حاضرة في الوجدان. وهزاع المجالي ليس رئيس وزراء عابراً في تاريخ الأردن، بل شاهد على مرحلة سياسية تركت أثرها في الوعي العربي.
بهذا الأسلوب، يقدّم العلّاف درساً عملياً في وظيفة المؤرخ: أن يصون الذاكرة من الغياب، وأن يحوّل المعرفة الأكاديمية إلى وعي شعبي متداول. صفحته في الفيسبوك كتاب مفتوح على مدار الساعة، فيها من الصرامة العلمية ما يعكس تكوينه الجامعي، وفيه من العاطفة ما يشي بولاء عميق للإنسان ورسالته.
إبراهيم العلّاف، المؤرخ المتمرس الذي لم يتقاعد من مسؤوليته، يكتب كل يوم ليذكّرنا أن التاريخ لا يُدفن مع أصحابه، بل يبقى ما دام هناك من يدوّنه ويستحضره. ومنشوراته ليست تحديثات عابرة، بل نصوص تضيء الذاكرة، وتمنحها معنى جديداً في مواجهة النسيان. إنّه نموذج للمثقف العضوي الذي جعل من الكتابة اليومية نوعاً من الصدقة الجارية، ومن الحضور الرقمي امتداداً لرسالة أكاديمية لم تنقطع.