يُعدّ الأمن الغذائي من أهم الامور الاستراتيجية التي تؤثر على أمن واستقرار البلد اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وتولي الحكومات لهذا الملف كل الاهتمام والعناية لمحاولة تحقيقه وتوفيره لمواطنيها, ويعاني العراق منذ سنوات طويلة صعوبات كثيرة في الوصول الى الحد الأدنى من تحقيق الأمن الغذائي بسبب عوامل كثيرة ومختلفة منها سوء الأداء الحكومي وانتشار الفساد وعدم توفير الرعاية الكاملة للفلاح العراقي وانخفاض مناسيب المياه في نهري دجلة والفرات وقلة الأمطار في السنوات الماضية وغيرها من أسباب عديدة ساعدت على وجود خلل كبير في تحقيق هذا الملف الحيوي وخاصة فيما يخص محصولي الحنطة والشعير التي تعدّ أهم مكونات السلة الغذائية للعراق.
هذا العام استبشر العراقيون خيراً بما أنعم الله عليهم من وفرة كبيرة في الأمطار وارتفاع مناسيب المياه بشكل لم يحدث منذ سنوات طويلة فاستغل المزارعون هذه النعمة وزرعوا كل الأراضي الشاسعة في جميع انحاء العراق بمحصولي الحنطة والشعير والتي تعتمد زراعتها كما هو معروف بشكل أساسي على مياه الأمطار فاخضرت الحقول وامتلئت السنابل بالخير ونضجت وكبرت معها فرحة الفلاحين وعوائلهم وأملهم بموسم خير وبركة يعوضهم مواسم الجفاف التي طالت لسنوات عديدة وبدأت حملات الحصاد في جميع المحافظات العراقية ولكن الفرحة لم تكتمل حيث امتدت أيادٍ خفية لاتريد الخير للعراق ولشعبه فعملت على احراق آلاف الدوانم من مزارع وحقول الحنطة والشعير وفي محافظات عديدة ابتدأت بمحافظة صلاح الدين بكل أقضيتها ونواحيها ثم امتدت الى محافظة كركوك والأنبار والكوت وأخيراً الى محافظة نينوى في عمليات تخريبية منظمة حيث يتم اشعال عشرات الحرائق بوقت واحد حيث لم يمر يوم دون ان تطالعنا وسائل الاعلام ووكالات الانباء بحزمة من الاخبار عن حرائق جديدة في مناطق جديدة ، وجهود ” متميزة ” من الدفاع المدني في السيطرة على الحرائق ومنع انتشارها الى مناطق اوسع ، بعد ان التهمت النيران عشرات الالاف من الدوانم الزراعية ، حسب المصادر الحكومية . ونتيجة ضعف الامكانيات الحكومية في مجال اطفاء الحرائق ولسعة رقعتها فقد التهمت مساحات شاسعة من هذه الحقول والأكداس المحصودة والمهيئة للتسليم الى المخازن الحكومية, ولم يكتف الفاعلون بذلك بل وصلت جرأتهم الى اشعال الحرائق في محلات ومخازن الجملة المخصصة لبيع الطحين والحبوب مثل ماحدث في علوة جميلة في العاصمة بغداد والتي التهمت آلاف الأطنان من الطحين في هذه المخازن, ويقابل ذلك اجراءات حكومية متواضعة لاحتوائها ما أدى الى خسارات كبيرة للفلاحين والتجار وتهديد فعلي للأمن الغذائي العراقي.
المحزن في الأمر ان التحقيقات الحكومية واللجان المشكلة والتصريحات الرسمية المتضاربة لم تشف غليل المواطن العراقي ولا الفلاح العراق المنكوب ولم تحل المشكلة , حيث أعلن السيد رئيس مجلس الوزراء بأنها مجرد حرائق اعتيادية تحدث كل عام أما وزارة الداخلية فحاولت التخفيف من حدة المشكلة وان هذه الحرائق تحدث كل عام وقامت باستعراض أرقام الحقول المحروقة والمنقذة ونسبة المحروق للانتاج الكلي لايصال رسالة بأن الأمر بسيط ولايؤثر على السلة الغذائية للمواطن العراقي, فيما أصدرت وزارة التجارة بياناً طالبت فيه وزارة الداخلية وقيادة العمليات المشتركة بالتحرك لتعقب ” الجماعات الإرهابية وحماية أمن وممتلكات الفلاحين وتأمين الحقول”، معربة عن رفضها لـتعرضهم إلى ابتزاز العصابات الإرهابية” واتهمت لجنة الاقتصاد والاستثمار النيابية، جهات داخلية وخارجية لم تسمها، بالتآمر من أجل منع وصول العراق إلى الاكتفاء الذاتي من الحنطة، عن طريق افتعال الحرائق في حقولها.
ما أريد قوله بأن القضية خطيرة جداً وتمس البلد وأمنه الغذائي وهي ليست حوادث بسيطة واعتيادية كما يحاول البعض أن يصورها بل هي مؤامرة كبيرة ومدروسة بعناية لتدمير البلد واقتصاده وتقف خلفها جهات خارجية وداخلية لتنفيذ أجندة خبيثة لابقاء العراق ضعيفاً اقتصادياً ولمنعه من تحقيق عملية الاكتفاء الذاتي بكل الوسائل لأن هذا سيضرب مصالحهم الاقتصادية.
لذا يجب أن تكون اجراءات السلطتين التشريعية والتنفيذية على قدر المسؤولية وبشكل موازي للخطر ويجب أن تكون هناك لجان تحقيقية عالية المستوى تكشف الحقائق للرأي العام وتكشف عن الجهات التي تقف وراء هذه الأعمال الارهابية والكفّ عن المجاملات والمحاباة لهذا الطرف أو ذاك ودعوتي لكل سياسي عراقي يدعي الوطنية بأن يكون له موقف تاريخي في هذا العدوان الصارخ على العراق وشعبه وأمنه الغذائي ويقول كلمته الحق ويسجل موقفه الوطني بالدفاع عن العراق ومصالحه ضد هذه الجهات التي تريد تدمير البلد واضعافه, وعلى الحكومة أن تعمل باتخاذ الاجراءات الحقيقية والرادعة لايقاف هذا العدوان الكبير والاسراع بحماية اقتصادنا العراقي والعمل على تشكيل لجان نزيهة لتعويض الفلاحين عن الخسائر الكبيرة والفادحة التي لحقتهم وانقاذ العراق من هذه المؤامرة العدوانية.