23 ديسمبر، 2024 5:23 ص

راه يخرج من الكوخ في الغبش يعتمر كوفيته السوداء وجهه الأليفة وسحنته الداكنة كنت أرى على وجهه ابتسامة خفيفة .. إنها تفصح عن طيبة مفرطة ..

بقيت أراقبه لفترة طويلة وهو يخرج من المنزل بعد صلات الفجر .. ولاحظت بعد فترة .. انه يبدو اكثر صمتاً ، و بدى ينفرد عن العائلة .. إن التغيير الذي حصل له كان مفاجئاً للجميع .. لكني أدركت داخلي انه يحمل سراً لا يبوح به لأحد ..
حينما كان يراني أدقق النظر بوجهه لأرى ذات الابتسامة الرقيقة ، وجدت انه يريد أن يخبرني عن أمر يؤرقه .. اقتربت منه
قائلاً :- هل حصل ما لا اعلم به ؟!
ضل مطرقاً والابتسامة لا تفارق شفتيه ، وقد أحنى رأسه وسمعت صوته الضعيف يخرج من بين أسنانه يقول :- نعم ..
– اخبرني يا أبي .. استدار بوجهه ليواجهني ، ولأول مرة المح في عينيه بريق مخيف وقال :-
– هل تكتم السر ؟!
– ما هو عهدك بي ؟!
– لا .. انه الأمر مختلف هذه المرة ..
كانت الشمس تميل نحو الغروب حين غادرنا البيت الطيني باتجاه الحقول المترامية، كان بيتنا يقع في الطرف البعيد للقرية وعلى مسافة ميلين كان الطريق العام يبدو بأسفلته الأسود يتلوى مثل أفعى باتجاه الشمال ..
ضل والدي محافظاً على صمته ونحن نقطع المبازل الملحية ، ولم اكن اسمع سوى صوت أقدامنا تدوس الأرض الرخوة والمنتفخة بهشاشة ، بسبب السباخ الذي أحالها إلى ارض جرداء ..

كان علينا حتى نصل الشارع العام ، أن نصعد على هضبة صغيرة تنحدر بهدوء ،فقد كانت تشكل كتفاً للمبزل الذي جفت مياهه وعلى بعد خطوات من نهاية الهضبة توقف والدي وهو يقول :- هنا ..
و أشار بإصبعه نحو قطعة ارض صغيرة ، نبتت فيها أجمة لعشب بري وأثل صحراوي ..
– ماذا يوجد هنا يا والدي العزيز ؟!
– هل تذكر الساعات التي اخرج فيها بعد صلاة الفجر ؟
– نعم ..
– لقد كنت المح ضوء ينبعث من هذا المكان .. !!
فكرت .. لابد أن مكروها حصل لأبي ، فقد عهدته رجلاً ريفياً طيبا لم يكن يفكر إلا بمساعدة الآخرين والذهاب إلى المسجد لأداء الصلوات .. ترى ما الذي حصل ؟! كي يجعل أبي يفكر بمثل هذا الأمر .. وتابع أبي كلامه قائلاً :-
– كان الضياء عالياً يبدو انه يصل إلى السماء لم اكن أدرك ما يرمي أليه في حديثه معي، لقد كان يحدثني باضطراب .. وشعرت انه قد أصيب بلوثة عقلية .. واستمر
– هنا بالضبط في هذا المربع الصغير تختلف جميع الأشياء .. انظر إلى ما حولك ، السباخ في كل مكان ، ألا هنا نبتت هذه الأعشاب أدركت انه يتكلم عن يقين رسخ في داخله ، فلابد انه رأى أشياء لم تكن لتبدو للآخرين بمثل هذه السهولة .. كنت اشعر انه يتكلم عن حلم راوده ، لكني أكتشفت في نبرات صوته انه يتحدث عن الحقيقة المجردة .. راح يخط على الأرض الجرداء بعصاه حول الأجمة الجاثمة وسط السباخ المنتشر في الأرجاء ..كانت الخطوط الواهية تنحفر في التراب الهش ، ورحت أراقبه بدون اكتراث .. وحينما رجعنا إلى الدار كان لا يزال صامتا ، و بدى انه يغور بتفكير عميق .. بدت أحواله تتغير وقد عاف الزاد ولم يعد يهتم بالزراعة. وفي إحدى المرات شاهدته يتشاجر مع أمي ،لقد كان يطلب منها أن تخرج النقود التي ادخرها لأجل الزراعة في الموسم القادم ..

تابعته عند الأصيل وهو يمضي نحو البقعة التي بقي يتردد عليها فوجدته يرسم مربع على الأرض .. وحينما فوجئ بي قال :-
– سأبني هنا مقام ..
– لمن يا والدي ؟!
– للعلويات ..
– أية علويات ؟
– رمقني بنظرة شعرت معها انه يظنني ابله .. ومضى يستمر بعمله وفي الأيام التالية بدى منهمكا بالذهاب إلى المدينة ، لقد احضر معه عاملان من عمال البناء وجرار زراعي امتلئت عربته بمواد البناء ، وفي الموقع المحدد شرع بالبناء .. وخلال عدة أيام اكتمل بناء غرفة يحيط بها السباخ من كل جانب سوى طريق الجرار نحو الشارع العام ..
لقد كثر اللغط في القرية الوادعة ، وبدا الفلاحين يسألون أبي عن سبب بناءه الغرفة ، فيما بقي هو يسرد لهم حكايته عن النور الساطع الذي رآه ، لقد بدا انهم يصدقون روايته فقد اشتهر بينهم بالورع والعبادة .. كان البعض يحمل بعض الأمتعة من بيته ليفرشوا الأرضية .. فيما بقي أبي يمضي أياما وليالي مقيما في المقام الذي بناه .. و بدءت اسمع الحكايا الغريبة لنساء وعجائز مريضات قد شفين بعد زيارتهن لمرقد ( العلويات ) كانت الأمور تجري بشكل عجيب ، فيما تغير سلوك والدي ، بعد أن أطال لحيته معتمراً كوفية خضراء .. صار اكثر صرامة وقد تغيرت لهجته ، فيما كان المريدين يتوافدون نحو المقام الذي طلي بلون أخضر داكن و ارتفعت الأعلام المختلفة الألوان على البناية الصغيرة .. وكانت لطخات الحناء تبدو في كل زاوية من زوايا الغرفة التي انتصب داخلها قبر وهمي وقد غطي بخرقه خضراء أيضا .. وملئت الجو برائحة البخور وماء الورد ، كان كل شيء ينبئ بقدسية جليلة تبعث على

القشعريرة .. لم أكن أجرؤ على الحديث مع أبي ، لقد كان يعيش في ملكوت خاص لا يمكن النفاذ أليه ..
و بقيت النسوة القرويات يجلبن نذورهن لأبي الذي لابد انه كان قد اعد مكاناً يخبئ به النذور .. و أحيانا يجلسن قبالته ويسردن له تفاصيل مشاكلهن مع أزواجهن وربما إهمالهن من رجالهن الذين دائما يتزوجون من امرأة ثانية .. احتجت كثيراً أن أتكلم مع أبي الذي كان مشغولاً بالنسوة المحيطات به .. وهو لا يكترث لوجودي حينما يمازح الصغيرات منهن ..
وفي فترة الظهيرة وما بعدها بقليل كان المرقد يخلو من الزائرين .
تمدد أبي على قفاه بمواجهة الباب الموارب ، وحينما دخلت ظل يحدق بي حتى جلست بمواجهة القبر فاستدار نحوي قائلاً :-
– غدا سآخذ بعض الرجال ، ونذهب لخطبة امرأة ..
– لمن الخطبة .. ؟
– وبصوت واضح وصريح وقد استدار نحو جانبه الأيمن سمعته يقول :- لي
– لك يا أبي ..؟!
– نعم لي .. هل تعترض على ذلك ؟
قال ذلك بحزم وقد اعتدل بجلسته .. وأردف .. هل لديك مشكلة في ذلك ؟!
– لكن يا والدي .. وبدون أن اكمل عبارتي صرخ في وجهي وهو يشتمني :- اخرس .. ابن ……
كان كل شيء يوحي بأنه تغير فعلاً ، حتى انه في الأيام التالية كان يفكر في بناء دار له بجوار المرقد ..
والدتي .. أيتها المسكينة ستحل عليكِ ضرة ، ودائماً كنت أسمعك تقولين :-
الضرة مرة ولو كانت جرة !!

وإزاء ما كنت أعاينه من اضطراب شخصية أبى الذي استحال إلى شخص آخر ، وتوافد الناس للتبرك من الغرفة التي بناها والدي .
فكرت أن اذهب إلى عالم ديني في المدينة المجاورة لعلي أجد تفسيراً لما يحدث ..
تبسم الجل الوقور في وجهي ، بينما بقيت محدقاً بملامحه التي فتنتني وببساطته في الحديث معي عن المشكلة التي أعاني منها قائلاً :-
لا تحزن يا ولدي ، انه ما يحصل في البقعة التي حل بها والدك ، لا يبـعد أن تكون مـأوى
للجن !!