تخيّل وأنت أمام مشهد من تراجيديا العصر في مجزرة لا مثيل لها في تأريخ الكورد منذ نشأتهم وهي تعزف سمفونية حزينة تترنح على أوتار معزوفتها أرواح الشهداء ثم ترفرف بأجنحة من نور تباعاً لتصعد الى عنان السماء في منظر يحبس الأنفاس ويدمع المٌقل ويعصر الأفئدة لتشتكي الى بارئها : بأي ذنب قتلنا ؟ , نعم إنها مقبرة حلبجة الشهيدة والتي دفن فيها رفات أكثر من خمسة الآف شخص بين طفل وإمرأة وشيخ طاعن في السن قضوا حتفهم في أقل من عشرين دقيقة بالسلاح الكيمياوي الفتاك الذي إستخدمه النظام الدكتاتوري المقبور في قصف المدينة , وقتلوا دون ذنب سوى إنتمائهم للقومية الكوردية , حيث كان الهجوم الغادرعلى مدينة حلبجة من الأحداث التأريخية التي لا يمكن أن ينساها الكورد على مر السنين , علماً حصل الهجوم الكيمياوي في آواخر أيام حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران في السادس عشر من آذار عام 1988والكورد حينها يستعدون للإحتفال بأعياد نوروز والخلاص من الظلم , تاركاً وراءه الاف الجثث الهامدة والمرمية على الطرقات وفي شرفات المنازل وفي أوضاع مختلفة كانوا منهمكين بمزاولة أعمالهم غير محتسبين لما سيحل بهم , حيث أسفرالهجوم الجبان عن إستشهاد ما بين 3200-5000 من سكانها على الفور وأصابة ما يقارب7000 -10000 وأغلبهم من المدنيين العزل في سابقة خطيرة لخرق مبادىء حقوق الإنسان والتي باتت لا تتعدى حبراً على ورق للإستهلاك الإعلامي ويتغنى بها تجار الحروب ومن يتاجر بأرواح المواطنين الأبرياء , وبعد أكثر من ربع قرن على المذبحة لم تنقشع حالة الرعب بين السكان المحليين بعد , فما زالت بقايا غاز الخردل الذي أستخدم موجود في المخابئ التي كان يحتمي بداخلها المواطنين خلال أعمال القصف آنذاك وإكتشف ذلك من خلال أعمال الحفر والبناء مؤخراً .
بالرغم من بشاعة منظرالقصف الكيماوي على حلبجة وخلوها من الجانب الإنساني وإنعدام الضمير إلّا أنها أحدثت التفاته في الرأي العام العالمي والرسمي بإتجاه القضية الكوردية هذا بحد ذاته يعتبر واحد من طبائع ومفارقات العصرنة اللا ديمقراطية , حيث عرف العالم الكورد بشكل أكبر بعد هذه المأساة اللاإنسانية وإدانة على وحشية مرتكبيها , ولكنها لم تخدم الشعب الكوردي بالشكل المطلوب فبعد إحدى وثلاثين عاماً والجريمة المحرّمة دولياً عالقة في أذهان الكورد , ولم يستدع ذلك أن يتحرك ضمير العالم للحد من إرتكاب هكذا أعمال إجرامية والتي ترتقي الى مستوى الإبادة الجماعية , وظل يثير سؤالاً ويردده الكثيرون , ماذا عن القوانين التي تمنع إستخدام هذه الأسلحة لا بل وتحظرها ؟ , أم أصبح العالم المتمدن سوقاً لرواج هذا النوع من السلاح الفتاك حتى تتسابق الدول على إمتلاكه بحجة وأخرى ضاربين بحقوق الإنسان عرض الحائط .
وحسناً فعلت المحكمة الجنائية العليا بإصدار أحكامها النهائية بحق المتهمين في قضية قصف مدينة حلبجة الشهيدة بالأسلحة الكيماوية , حيث شارك وفد من اقليم كوردستان في جلسة الحكم النهائية بحضور وزير شؤون الشهداء والمؤنفلين إنصافاً بحق الشهداء الذين وقعوا ضحية الهجوم الغادر حيث لا يضيع حق وراءه مطالب , ويذكر أن مدينة حلبجة تاتي في إحصائيات وزارة الصحة لكل عام على قمة قائمة المناطق التي أصيب أبناؤها بمرض السرطان وحتى الان هناك أعداد كبيرة من الأطفال حديثي الولادة يعانون من تشوهات ولادية.
فهذا غيض من فيض المآسي التي تعرض لها الكورد على مدى سنوات من ظلم الأنظمة الدكتاتورية ذات الطابع الشوفيني المقيت ليحطم الشعب الكوردي بذلك الرقم القياسي لشعب مؤمن بالديمقراطية ويعشق السلام في تحمله لشتى أنواع الظلم عبر تأريخه المفعم بالنضال من أجل نيل حقوقه المشروعة في الأستقلال .