شكل سقوط الموصل بيد تنظيم الدولة الاسلامية والفصائل المسلحة حدثا فارقا ومنعطفا تاريخيا في المشهد السياسي العراقي ومثل انسحاب الجيش العراقي بدون قتال وانهيار معنويات جنوده صدمة للوعي الجماعي للعراقيين وظل السؤال الذي لايجد له اجابة ليومنا هذا هو كيفية انسحاب فرقتين عسكرتين يبلغ عدد مقاتليها 56 الف جندي أمام مسلحين قدرت التقارير عددهم ب5000 مسلح في أحسن الاحوال بدون قتال وماأعقب ذلك من انسحابات متتالية في محافظات كركوك وصلاح الدين وديالى والانبار بنفس الطريقة وذات الاسلوب وهو ماوضع علامات استفهام عديدة عن كيفية حصول ذلك في ظل وصول تعداد القوات الامنية الى مايزيد عن مليون مقاتل وبلوغ حجم الانفاق العسكري عليها الى 19.7 تريليون دينار وفق قانون الموازنة الاتحادية للعام 2013 اي بزيادة قدها 14.2 % مقارنة بالسنة المالية السابقة (وفق التقرير السنوي للمعهد الدولي لابحاث السلام في استكهولوم) وقد تضاعف الرقم خلال العام الجاري نظرا للظروف الراهنة وأزمة الانبار ورغم ذلك كانت نتائج أول مواجهة حقيقية خاضها الجيش ضد المجاميع المسلحة كارثية وتصل الى مرتبة النكسة الوطنية وهو ما أعترف به السيد رئيس الوزراء بذاته.
ان الاجابة الوحيدة التي حصلنا عليها من حكومة بغداد تتحدث عن مؤامرة كردية – نجيفية – بعثية – داعشية لتسليم الموصل ووضع يد الكرد على المناطق المتنازع عليها ممايعزز من الضغوط المفروضة على التحالف الوطني لتنحية المالكي من رئاسة الوزراء والقضاء على أحلامه بالولاية الثالثة ، والمعروف ان نظرية
المؤامرة هي أسهل الطرق للتملص من تحمل المسئولية والاقرار بالاخطاء ومعالجتها بغض النظر وجود المؤامرة من عدمها . ولان التاريخ يسجل لنا الاحداث والمواقف وحتى نكون دقيقين وأمناء أردنا ان نوضح مايلي :
ان شجاعة الجندي العراقي وبسالته وتضحيته هو أمر بديهي لاخلاف فيه لكن لغزا محيرا هو مادفع بهذا الجندي الغيور على وطنه (والذي شهد تراب الوطن بطولاته وعرفت أراضي فلسطين والاردن وسوريا ومصر وايران والكويت بأسه وشدته) ليلقي سلاحه وينسحب من أرض المعركة بدون قتال وهو مايخالف شرف الخدمة العسكرية ويمكننا هنا وبالعودة لسنوات سابقة أن نحدد بعض الاسباب التي أدت الى هذه النهاية المخجلة للجيش العراقي الجديد ومنها :-/
1- تم حل الجيش العراقي السابق بقرار من الحاكم المدني الامريكي بول بريمر الذي ما لبث أن أصدر أمرا باعادة تشكيل الجيش وفق رؤية جديدة وبأسلحة دفاعية وعدد محدود من الجنود والضباط حتى لايشكل العراق مرة أخرى خطرا على دول الجوار والسلم الدولي !!! متناسيا ان أي دولة في العالم بدون جيش قوي ومهني ستكون فريسة للاطماع والتدخلات الخارجية فما بالك اذا كانت هذه الدولة تقع في الشرق الاوسط احدى اكثر بقاع العالم سخونة بأحداثها المتلاحقة وتتسيدها ثلاث ذئاب هي اسرائيل وايران وتركيا وتنتج خمس الانتاج العالمي من الطاقة وتعتبر مقر مركز القيادة الامريكية الوسطى فكان هذا الامر بمثابة ارادة امريكية غربية في اضعاف الجيش العراقي وتحويله الى قوى أمن داخلي لمطاردة اللصوص والخارجين على القانون ويبدوا أن الامريكيين أرادوا عدم تكرار الخطأ الذي وقع فيه البريطانيون عند تأسيسهم للدولة العراقية الاولى عام 1921 عندما قاموا بتسليح وتدريب الجيش العراقي قبل أن يدفعوا الثمن غاليا عندما أنقض عليهم هذا الجيش في ثورة مايس عام 1941 في غمرة صراعهم ضد المانيا النازية في الحرب العالمية الثانية .
ويبدوا ان رغبة الامريكيين في تحجيم قوة الجيش العراقي قد تلاقت مع مصالح بعض القوى السياسية العراقية (الشيعية والكردية) والتي كانت تكن العداء الشديد لهذا الجيش وتخشى هي الاخرى من وجود جيش قوي وبعقيدة وطنية لايدين لهم بالولاء وسيكون سدا منيعا أمام أحلامهم باقامة نظام محاصصة طائفية وتقسيم المجتمع على أسس عرقية ومذهبية وهو ماتحقق فعلا في وقتنا الحالي (لايستثنى من اجماع السياسيين العراقيين على اضعاف الجيش رغبة السيد المالكي في الفترة الاخيرة بتسليح الجيش لتقوية دعائم حكمه واستهداف سكان المناطق المناوئة له).
2- كانت أحدى الاخطاء الفادحة التي ارتكبت أثناء بناء الجيش الجديد هو دمج مقاتلي الميليشيات وبعض الصحوات في فترة لاحقة بزعم ان لهؤلاء خبرة في قتال النظام السابق والقاعدة وكنوع من المكافأة لهم على مجهوداتهم دون أن تدرك القيادة السياسية بأن المكافأت لاتكون على حساب الوطن وأمن المواطن وأن المؤسسة العسكرية هي حكر على الضباط العسكريين ممن تخرجوا من كليات
الحرب والاركان ولهم تجارب قتالية في الحروب وليس مجرد عناصر تجيد فنون حرب العصابات وملتزمة بولاءاتها الحزبية والطائفية حيث كان يمكن شمول هؤلاء بالوظائف المدنية أو تكوين فرق خاصة منهم ومدربة تدريب حديث لقتال الشوارع والمدن ويتم الاستعانة بهم في المهمات الخاصة فقط .
3- تعتبر العقيدة العسكرية الوطنية لاي جيش أمرا أساسيا ومحوريا في بناء الجيوش النظامية الحديثة فبدون العقيدة الوطنية يفقد الجيش صفة حامي الوطن وحارس الشعب ليتحول الى قوة عسكرية طائفية أو عرقية ،ولما كانت الطائفية (أفة العراق الجديد) منتشرة في كل مفاصل الدولة العراقية دونما حساب أو رقيب فكان طبيعيا انتقال هذه العدوى الى المؤسسة العسكرية عبر ضباط الدمج خصوصا مع التزام الكتل السياسية بالخط الطائفي في ادارة شئون البلاد بل أن الامر من ذلك هو الباس الطائفية لباس الوطنية وايهام المنتسب (جندي أو ضابط) بأن تلفظه بالعبارات الطائفية أو رفعه رايات تمثل طائفة بعينها هي من حب الوطن بأعتبار هذه الطائفة تمثل اغلبية الشعب ،فترتب على ذلك قطيعة تامة بين الجيش والمواطنين في المناطق السنية عززتها التصرفات الطائفية لبعض منتسبيه وصعوبة التفريق بينه وبين الميليشيات التي تدخل تلك المناطق لتخطف وتقتل من أبنائها وهي ترتدي الزي العسكري الحكومي وتركب السيارات العسكرية الحكومية . وكان هذا السبب تحديدا سببا جوهريا في نكسة الموصل وماتلاها من أحداث حيث وجد الجيش العراقي نفسه غريبا في وطنه فيما تمتع مقاتلي داعش والفصائل المسلحة بالحاضنة الشعبية التي مكنتهم من تحقيق النصر.
4- مثل الفساد المالي والاداري سمة مشتركة بين كل الحكومات العراقية بعد الاحتلال وتجلت أثاره للعيان من خلال البطالة وانعدام فرص العمل والاستثمار والتنمية بسبب الفساد المستشري تارة والوضع الامني تارة اخرى كما بات التعيين الحكومي بحاجة لتزكية حزبية ومبلغ مالي ووسيط وهو أمر لاتمتلكه أغلب العوائل البسيطة والمتعففة التي أضطرت تحت ضغط العوز والحاجة والفقر لزج ابنائها في الجيش والشرطة بأعتبارها أسهل الطرق وأقلها تكلفة للحصول على رزق وقوت هذه العوائل ،فكانت النتيجة أندفاع مئات الالاف من الشباب الفقير والمهمش والمحروم خصوصا في الجنوب نحو الانخراط في الجيش والمؤسسات الامنية فغدت مفاهيم الخدمة العسكرية والامن القومي والدفاع عن العراق مجرد وظائف تمثل مورد رزق لهؤلاء الشباب دون ان يكون للفكر والحس الوطني اي علاقة بالموضوع وهو مالايعيب هؤلاء الشباب بقدر مايعيب الحكومة التي فشلت في توفير فرص العمل في مختلف المجالات لهذه الشريحة الاساسية من المجتمع وهو ماادركته مؤخرا ،فبناء الجيوش النظامية لايتم عبر اغراء الشباب المعدم بالمال والزج به في اتون المحرقة للدفاع عن العملية السياسية انما بتفعيل نظام الخدمة الالزامية مصنع الرجال والتجسيد العملي لمفاهيم الوحدة الوطنية والانتماء والانضباط والمهنية ووحدة المصي لبناء جيش مهني وقوي يكون سورا للوطن .
مهما قيل في ماحصل في الموصل فأن هناك أمورا ثابتة لاتقبل النقاش وهو وجود قيادات عسكرية فاسدة وغير كفوءة توفر لها الغطاء السياسي الحكومي طوال السنوات الماضية رغم فشلها المتكرر على قاعدة (أهل الثقة مقدمين على أهل الخبرة) فرت من أرض المعركة بأوامر وثمن لازلنا نجهلهما وهناك جنود بسطاء وجدوا أنفسهم فجأة بين مطرقة داعش وسندان قياداتهم المتأمرة ناهيك عن عدم ايمانهم بقيادتهم السياسية وبجدوى الحرب التي يخوضونها منذ 11 عام ضد الجماعات المسلحة دون بارقة حل سياسي أو حسم عسكري ، كل هذه العوامل وأكثر دفعت هؤلاء الشباب الباحثين عن لقمة عيش حلال في بلد طغى عليه الحرام على القاء السلاح والعودة الى أهاليهم .
أن هيكلة وزارتي الدفاع والداخلية وأستبعاد العناصر الفاسدة والفاشلة والميليشياوية وأستبدالها بالعناصر الوطنية المخلصة والاستعانة بخبرات وخدمات ضباط الجيش السابق (ممن لم تتلطخ أيديهم بدماء الابرياء ولم ينضموا لتنظيم الدولة الاسلامية ) وتحقيق التوازن على أسس وطنية وتصويب مسار الجيش والقوى الامنية بمواجهة التكفيريين والمتطرفين من السنة والشيعة على حد سواء حماية للوطن من الفتن والمؤامرات الخارجية ستكون كفيلة بأستعادة الثقة بين المواطن وجيشه واسترداد شرف العسكرية العراقية العتيدة التي دنست في نكسة الموصل 2014 كما دنست أثناء الغزو الامريكي للعراق عام 2003.