23 ديسمبر، 2024 4:34 م

ارتفعت بالآونة الأخيرة في عموم أرجاء الوطن أصوات للمطالبة بتأسيس جمعيات للدفاع عن حقوق المرضى وحمايتهم وتعالت الصيحات من ارتفاع الأخطاء الطبية وتدني مستوى خدمات الأطباء المقدمة سواء في المؤسسات الحكومية أو العيادات الخاصة والتسبب في إلحاق الأضرار الصحية والنفسية والمعنوية للمواطنين وأصبحت الصورة الذهنية المنطبعة في الأذهان عنهم تقترن باللامبالاة والعبث بأرواح المواطنين والجشع وانعدام الإنسانية .
وفي المقابل نرى المشهد من جانب آخر .. اعتصامات ومطالبات من قبل الأطباء بعدم المساءلة والمحاسبة عن ما يعتبرونه أخطاء غير مقصودة والمطالبة بسن قانون لحماية الأطباء ..!!
نتساءل : من يحمى من من ؟ 
فالأمر كما يبدو ليس ضجة إعلامية مؤقتة ثم تتوارى كما يتوارى غيرها من مشاكل المجتمع ، فالمشكلة واضحة ولا يمكن إخفاؤها أو التستر عليها ، فالإساءة للمريض والممارسات الخاطئة للأطباء أصبحت ظاهرة ومشكلة مجتمع وليست مشكلة أفراد و مأساة وضعت وزارة الصحة في مأزق كبير  ..فرغم ما تبذله الوزارة من جهود لتحسين الواقع الصحي إلا أن ما نراه من ارتفاع في أعداد ضحايا الأخطاء الطبية المرتكبة في المؤسسات الصحية الحكومية و في جميع محافظات الوطن وارتفاع نسبة الوفيات نتيجة التشخيص الخاطئ أو التأخر في إجراء التدابير الإسعافية أو العلاجية اللازمة و التسبب بالعوق الكلي أو الجزئي ووصولها إلى حد العاهات المستديمة نتيجة للأخطاء الغير مقصودة كما يدعي الأطباء  ..أثر سلبا على باقي مكونات النظام الصحي وعرقلة النهوض به .
إن عدم جدية الأطباء  في إعطاء العمل في القطاع الحكومي الأهمية والتركيز اللازمين تعد نقطة ضعف أساسية أدت إلى سوء إدارة النظام الصحي   … مما افقد المواطن الثقة في الخدمات الطبية والصحية المقدمة من قبل وزارة الصحة ووضعها في ورطة وجعلها تتكبد خسائر مالية كبيرة بإرسالها  العديد من ضحايا الإهمال واللامبالاة  إلى العلاج بالخارج و تحملها لأخطاء الأطباء المتكررة  والتي غالبا ما يرتكب جزء منها في عياداتهم الخاصة وكأنها أسست لتكون امتدادا لعيادات الأطباء الخاصة وليس كيان حكومي مستقل يقع على عاتقه مسئولية حفظ وحماية صحة المواطنين .
فالخلل أصبح واضحا في أداء الوزارة حيث أن نجاح أي مؤسسة يقاس بمدى رضى العملاء عن الخدمة المقدمة ، فاستهانة الأطباء بمراجعي المؤسسات الصحية الحكومية وعدم التزام الأطباء بأداء واجبات ومهام عملهم بالصورة المطلوبة و افتقادهم للعلاقات الإنسانية داخل المؤسسة الصحية وعدم تواجد اغلبهم في الوقت والمكان المناسبين أصبحت عائقا أمام تحقيق أي تقدم ملموس في خدمات وزارة الصحة .
ووقوع الأطباء في أخطاء لا يمكن تداركها يعد انتهاكا لكرامة المريض الإنسان وتعدي على حقه في الحصول على الرعاية الصحية اللازمة فالرعاية الصحية حق اجتماعي لكل أفراد المجتمع يتطلب تخطيطا دقيقا ووقفة جادة وأمر غير مقبول وغير مسموح لأي كان أن يستهين به ولا يحق لأي مسئول أو صاحب قرار أن يجامل الأطباء فيه على حساب مصلحة المريض والتغاضي عن إساءتهم الواضحة للمواطن ..فهذا  أمر يجب التوقف عنده والحذر منه  ،  فلا بد أن يعلم الجميع أن أبناء الطبقة الوسطى هم الطريق إلى الاستقرار السياسي والاجتماعي وعليهم الانتباه إذا كانت رسائل ما يدور حولهم من أحداث إقليمية  لم تصل إلى إدراكهم بعد .
 إن تشتت المريض بين مراجعة عدد من الأطباء واختلاف التشخيص المعطى له وسيره في متاهات ودوامة الأطباء بدون الوقوع على العلة واختفاء التواصل الفعال بين الطبيب والمريض لعدم الاهتمام بتخصيص الوقت الكافي للاستشارة الطبية للوصول إلى التشخيص السليم ومعرفة التفاصيل وأبعاد المشكلة الصحية والنفسية التي يعاني منها المريض ..مؤشرات ضعف وانحراف عن آداب و سلوكيات المهنة ..ومن البديهي أنه إذا لم يكن التشخيص سليما فان ذلك يتبعه معالجة غير صحيحة والتي لو ركز الطبيب قليلا وأعطى المراجع الاهتمام والوقت الكافيين لوقع على الأسباب الحقيقية .. وقد تكون أسبابا بسيطة مما جعلنا سخرية لأطباء الخارج لان اغلب المواطنون باتوا يلجئون إلى علاج مرضاهم بالخارج …وهذا عبء جديد يضاف على كاهلهم .
إن تعالي الأطباء على المرضى  أعماهم عن  معرفة حقيقة ما يعانونه من أمراض ، فما تحمله نفوس اغلبهم من الكبر والتعالي إلى حد الاستنكاف والعزوف عن لبس صدرية المهنة التي هي وسام شرف  لما تحمله تلك المهنة الإنسانية من معاني سامية ونبيلة أمر يؤكد اضطرابا واضحا في نفوس بعضهم ويرميهم بعيدا عن شكر ما وهبهم الله من نعمة في إمكانية خدمة وإنقاذ حياة البشر ، وانحرافهم عن الأخلاقيات والسلوكيات المطلوبة في ممارسة المهنة وشعورهم بأنهم فوق القانون يجعل الحاجة ملحة لتشريع قوانين صارمة لوضعهم في قوالب تتوافق مع أهداف وزارة الصحة .
إن تدني مستوى علمية الأطباء ومهنيتهم بات واضحا في ظل تراجع مخرجات كليات الطب ..فهل يعقل أن بلدا فيه ثمانية عشر محافظة يكون عدد كليات الطب فيه أكثر من عشرون كلية طب فضلا عن الكليات الأهلية  ..فما هو مستوى الأستاذ العلمي ليكون عليه مستوى الطالب ؟ إن كليات الطب هي مكمن المشكلة وبحاجة إلى إعادة تقييم ودمج .
أن الضرورة تستدعي المطالبة بفصل القطاعين الخاص والعام ، واللجوء إلى استقطاب الأطباء من خارج العراق أمر لا ضير فيه لسد الاحتياجات لاسيما في ظل عدم توفر اختصاصات دقيقة ونادرة وتتلاءم مع توجهات العصر في التخصص الدقيق بدل ما نراه من مهازل في لوحات الدلالة لعيادات أطبائنا .
إن النظام الصحي يحتاج إلى إعادة توجيه في اتجاهات أكثر ملاءمة لاحتياجات المجتمع الصحية ، فنوعا ما أصبح لدى المواطن إمكانات للبحث عن فرص العلاج في القطاع الخاص ويقابله امتلاك الكثير من الأطباء  القدرة المالية لتمكنه من الاتجاه إلى القطاع الخاص بعد ثرائهم الفاحش على حساب صحة وسلامة المواطنين علاوة على ما تخصصه لهم وزارة الصحة من أجور مرتفعة ومخصصات وتوفير قطع أراضي أو دور سكنية والعديد من المكتسبات الأخرى… وهذا ما يراه الكثير الحل الأمثل لوزارة الصحة للخروج من مأزقها في ظل قصورها الواضح في السيطرة على قطاع الأطباء وضعف مستوى الخدمات الطبية المقدمة وخاصة  النسائية والطارئة وضعف أداء العيادات الاستشارية و صعوبة انصياع حتى  المقيمين منهم للأوامر الإدارية وتعطيلهم للعديد من البرامج الحيوية الموضوعة لخدمة المرضى لعدم تواجد آلهة العصر الجديد  واستهانتهم بالعمل في ظل ضعف الرقابة والمحاسبة .
وأصبح من المسلم به أن تحسين الواقع الصحي لا يتم إلا نتيجة لإرادة سياسية قوية وتضافر الجهود وتنسيقها بين المواطن والرقابة والمسئول و بين أصحاب القرار ووسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني وكافة  الأطراف المعنية لإصدار التشريعات والقوانين والحلول العاجلة وأهمها تشريع قانون المساءلة الطبية و العمل على فصل القطاع الخاص عن العام وتخيير الطبيب بين العمل في أحدهما ودمج كليات الطب وأهمية النظر إلى الموضوع من جانب إنساني كونه احد متطلبات المرحلة الجديدة في التعامل مع المواطن من منطلق احترام حقه في الصحة أو على أقل تقدير بقائه حيا  .