كانـت الصحف هي البداية البعيدة لعصر المعلومات ، وأصبحت الصحافة احد أجنحة السلطة الثلاثة ـ القوة والثروة والمعرفة ـ ومع ظهور الإذاعة ثم التلفزيون انتقل عصر المعلومات الى مرحلة أخرى أكثر اتساعاً ، واصبح الإعلام جزءاً من السلطة لا يقل أهمية عن القوة والثروة ، ولكن تفجر عصر الاتصالات والمعلومات وظهور الموجة الثالثة من التطور الإنساني حسبما يرى خبراء المستقبليات ، جعل الإعلام هو الذراع الأقوى للسلطة ، الذي يزيد أو يضعف من عنصريها الآخرين القوة والثروة .
وقـد ظلت الصحافة هي العنصر الأقوى والأكثر ثباتاً ، وكلما ظهر تقدم تكنولوجي وتطورت إحدى وسائل الإعلام تساءل الناس عن مصير الصحافة ، لكن الواقع كان دائما لصالح الصحف التي لم تهزمها الإذاعة ولا التلفزيون … ومع ظهور الثورة الإعلامية والمعلوماتية الكبرى وظهور آلاف المحطات الفضائية وشبكات المعلومات ، أعاد التساؤل ليطل برأسه من جديد :- هـل يمكن أن تنقرض الصحافة والكلمة المكتوبة أمام وسائل الإعلام المرئية والمسموعة التي اقتحمت منازلنا واجتازت الحواجز اللغوية والجغرافية بل وحتى التعليمية ، خاصة وان الإعلام الفضائي أصبح ينافس الصحافة في متابعة الأحداث العالمية والإقليمية ، ويمتلك عدة ميزات تنافسية تجعله سابقة للصحافة أهمها : – إن البث الفضائي يصل الى الناس في كل مكان وزمان ، ويتلقاه المشاهد بشكل سلبي دون جهد باستثناء النظر والسماع ، كما إن هذا الإعلام ( المرئي ) يصل الى كل الفئات ويجتاز الحواجز الجغرافية ، وايضاً الحواجز الأُمية حيث لا يشترط القراءة والكتابة مثل الصحافة والكتاب ، في حين تشترط الصحافة درجة معينة من التعليم والثقافة هي أجادة القراءة كحد أدنى لدى المتلقي .
ولعـل هذه الميزات هي التي دفعت البعض الى القول بأن الصحافة تواجه منافسة شديدة ، وذهب المتشائمون الى ان الصحافة في سبيلها الى الانقراض مع غيرها من الثقافات المكتوبة ، وان الفضائيات سلبت الصحف سلطتها بما تقدمه من سرعة في تقديم الأحداث وتغطيتها لحظة بلحظة .
فـي مقابل ذلك يرى عدد آخر من خبراء الإعلام والصحافة إن ما يبدو من تراجع الصحافة في عصر الفضائيات هو عرض وهمي ، وان الصحافة لم ولن تفقد دورها الفاعل والرئيسي في تشكيل الرأي العام ، مثل الكتاب … وان الكلمة المكتوبة سوف تظل هي الأساس للمعلومة الموثوقة والمادة الإعلامية والثقافية ، كما إن الصحافة لها دائماً دورها في تقديم الأحداث بشكل موسع ، وتحليلها بشكل أكثر عمقاً من الفضائيات . والصحف تستفيد هي الأخرى من شبكات المعلومات بل من المحطات الفضائية نفسها ، سواء في الإعلان عن نفسها أو في كون الصحافة هي المادة الخام الأولى للعمل في الأعلام الفضائي ، حيث إن المادة المعدة للبرامج الإعلامية هي في الأساس مادة صحفية ، فضلاً عن كون كبار الصحفيين فـي العالم هم الذين يديرون ويشرفون على انجح المحطات التلفزيونية /الفضائية .
إن عصر المعلومات مثله مثل الإذاعة والتلفزيون ، سوف يساهم في تقوية دور الصحافة كوسيلة إعلام أكثر بتاتاً وتأثيراً ، وذلك لأن التقدم التكنولوجي في أدوات الاتصال ونقل المعلومات أفاد الصحف من حيث سرعة تلقي ونقل وتجهيز المادة الصحفية ، وتطوير المطابع التي أصبحت تعمل بالكومبيوتر والليزر وتستخدم الأقمار الصناعية ، مما يؤدي لخروج الصحف الى القارىء في وقت يقل عشرات المرات عما كان في السبعينات ، كما أصبحت الصحف تمتلك
مواقع على شبكات المعلومات تجعلها أكثر انتشاراً بين ملايين القراء الإضافيين ، فضلاً عن تطوير الصحف والمضمون من خلال توظيف الصورة والإخراج الصحفي ، من خلال توظيف التكنولوجيا وأساليب التصوير الحديثة التي تختصر الوقت والجهد … كل هذه عوامل تجعل من التقدم التكنولوجي والإعلامي ، وثورة المعلومات عناصر قوة للصحافة تضيف الى رصيدها وسلطتها وتأثيرها ولا تخصم منها .
ولعـل أهم عناصر قوة الصحافة إنها كلمة مكتوبة ثابته ، تهتم بالتعمق وتقديم تفاصيل الأحداث وتطرح الآراء المختلفة ، وان الكلمة المكتوبة أكثر دواماً من البرامج الفضائية التي تصل الى المشاهد وتنتقل بين الأحداث بشكل لا يمنحها قوة الثبات ، بل ان الصحافة هي احد المصادر الضرورية للعمل الإعلامي في التلفزيون وقبله الإذاعة ، حيث أن الصحف هي السباقة لنشر الأحداث المحلية ثم تبدأ الفضائيات في متابعتها .
والمتـابع لتاريخ الصحافة يكتشف إن القول بتراجعها أمام منافسة التقدم الإعلامي تكرر عدة مرات ، فعندما ظهرت الإذاعة أثيرت نفس التساؤلات عن مصير الصحافة ، ونفس الأمر مع ظهور التلفزيون والواقع إن الصحافة أصبحت أقوى وأوسع انتشاراً وتأثيراً من الإذاعة والتلفزيون اللذين لم يستطيعا زحزحة الكتاب مثلاً عن موقعه كأداة ثقافية ، وظلت الأعمال الأدبية بجوار السينما والدراما التلفزيونية ، فضلاً عن إن الكلمة المكتوبة هي المصدر الرئيسي لهذه الأنشطة الثقافية والإعلامية .
ويجـىء التساؤل عن مصير الصحافة إزاء تجارة المعلومات الرائجة الآن والتي تحتل نصف التجارة المتداولة في العالم .. نقول :- إن أكثر القضايا السياسية والمجتمعية سخونة يتم طرحها في الصحـف أولاً ، وإذا كانت الفضائيات تمتلك قدرة على الحركة وسرعة في نقل الأحداث ، فإن الصحافة ظلت في أوروبا والولايات المتحدة هي الأكثر تأثيراً . وتكشف دراسات الرأي العام عن أن الصحفي المؤثر الأكبر في الرأي العام بشكل يفوق الفضائيات ، خاصة وان القول بقدرة الإعلام الفضائي على اختراق الأسوار والحجب هو قول مردود عليه ، لأن الفضائيات تقدم ما يمكن تشبيهه بوجبات الأكل السريعة الإعلامية التي لا تغني عن الطعام الرئيسي وان كانت تتناسب مع العصر .
وجـاء طرح التساؤلات عن مصير الصحافة في عصر الإعلام الفضائي مع اندلاع حرب الخليج 1991 ، عندما كانت القنوات الفضائية تسبق الصحف في نقل الأحداث ، حيث تكون الفضائيات اسبق في نقلها ، حيث كانت الصحف تصدر عادة بينما تكون الأخبار الرئيسية قد تم بثها فضائياً ، مع ما يتعلق بها من تعليقات سريعة ، لكن خبراء الإعلام يؤكدون إن توزيع الصحف اليومية يتزايد مع كل حدث جلل ، لان الصحف عادة تقدم ما وراء الأحداث وتتوسع في نشر القصص والتفاصيل بما لا يتاح للفضائيات .
إن صحـفنا اليوم تواجه مأزقاً حقيقياً في عصر الفضائيات ، واعتقد إن الصحافة في المجتمعات المتحضرة نجحت في المنافسة مع الفضائيات ، وإنها وضعت الصحف في مأزق حقيقي في متابعة الأحداث العالمية والمحلية . لكن هذه المشكلة تواجهها الصحافة في الدول التي تفرض الرقابة على تدفق المعلومات ونشرها ـــ ومنها العراق ــ وفي الوقت الذي لا يمكن فيه السيطرة على الفضائيات أو منع انتشارها فأن الصحف تخضع لرقابة مكانية وزمانية تجعلها في سباق خاسر ، لكن الصحف في الدول المتقدمة نجحت في تطوير خدمتها ونشر التحليل والرأي والانفراد بمعلومات من شأنها أن تثبتها في المنافسة .
صحيـح إن الفضائيات تتابع الاحداث بسرعة لكن الصحف يمكنها تقديم ما يسمى ـ البحث في الأعماق أو الخلفيات ـ التي لا تقدمها الفضائيات ، بما يتيح للشخص شكلاً أكثر من المتابعة كما إن الفضائيات تقدم الأحداث المتغيرة بينما الصحف تقدم ما هو أكثر دواماً وجاذبية . وعموماً نجحت الصحافة العالمية في الصمود . أما بالنسبة للصحافة العراقية ، فما زالت تخضع لقيود كثيرة تحد من الحركة والكتابة ، مما يجعلها مقيدة وعاجزة عن ملاحقة الفضائيات . والواقع إن الرقابة لدينا ليست على الصحف فقط لكنها تمتد الى الفضائيات أيضاً ، مما يجعل الأعلام العراقي بشكل عام عاجزاً على الملاحقة والمنافسـة ، ويظل تابعاً لما يبثه الغرب ، ونجد المشاهد العراقي يغادر الفضائيات العراقية الى العربية والأوروبية ، خاصة في الأحداث الكبرى والأمر أكثر وضوحاً في الصحافة التي تعاني من محدودية الحركـة ، وتغل يديها عن نشر خلفيات الأحداث بينما الصحافة في المجتمعات المتقدمة لها حق الحصول على المعلومات ونشرها بدون حدود ، بالإضافة الى التحليل والتأصيل والانفراد بموضوعات محددة وتوسيع دوائر الخدمات الصحفية بشكل يجعلها قادرة على المنافسة .
إن صحـافتنا العراقية الآن ، يمكنها الاستفادة من قواعد البيانات التي تقدمها قنوات وشبكات المعلومات ، لكن ذلك يحتاج الى إمكانيات تقنية وبشرية ، وليس الى مجرد تكنولوجيا ، لأن الحاصل الآن توفر التكنولوجيا بينما تغيب الكوادر القادرة على تشغيلها واستخدامها . فلا يكفي ما تقدمه الصحف من صفحات ملونة ، الأهم هو تطوير أداء المهارات الصحفية ، بحيث يمكنها اقتحام أماكن الأحداث ونقلها بنفس السرعة ، وإذا ضربنا مثلاً بأي حدث عراقي كبير ، نجد جيشاً من مراسلي القنوات الفضائية وبجواره جيش من الصحفيين الأجانب ، بينما تغيب الصحف العراقية ، وتعتمد فيما تقدمه على ما تقدمه وتعرضه الفضائيات العالمية أو تنشره وكالات الأنباء وصحف أوروبا والولايات المتحدة ، وبالتالي تقع صحفنا العراقية في شرك التبعية لما يقدمه الآخر / المختلف .
ان عناصر العجز الإعلامي العراقي يتمثل في الاتي :
1. التقنيات المفروضة على الإعلام عموماً ، والصحافة بشكل خاص ، وأيضاً غياب الكوادر المدربة وعدم دعم الإمكانات المادية والبشرية ، وإذا كان ذلك ينطبق على الإعلام عموماً وأكدته أحداث عراقية كثيرة فإنه يظهر بوضوح في الصحافة التي تنشر الأحداث بعد أن تكون الفضائيات قد بثتها في حينها وقتلتها بحثاً .
والواقع ان قنوات التلفزيون والصحف المتقدمة تنفق على مراسليها كثيراً وتدعمهم بالإمكانات مما يجعلهم أكثر سرعة وتفوقاً ، بينما نحن نعاني المشكلة المزدوجة ، فإذا كانت الصحافة في الغرب نجحت في المنافسة مع فضائياتها ، فإن الصحافة عندنا ما تزال غير قادرة على ذلك لغياب العناصر اللازمة لنجاح عملها ، والحل هو ضرورة دعم الكوادر والعمل على تقديم كل ما يطورها بدلاً من اللهاث وراء الأحداث التي تحرقها قنوات التلفزيون أولاً بأول .
2. الإشكال هنا في هذه النقطة لا يتعلق بمنافسة صحفنا مع الفضائيات ، لكنه يتعلق بضعف في بنية الصحف نفسها . ليس بسبب قوة الفضائيات لكن بسبب غياب صناعة الصحافة العراقية ، بدليل إن الصحافة مزدهرة في كل أنحاء العالم المتقدم ، ولا تتأثر بتقدم الفضائيات ، بل إن الصحف هناك تحقق أرباحاً من التوزيع والإعلانات مقارنة بكافة القنوات الفضائية .
إن المتتبع لتاريخ الصحافة في العراق يكتشف انها بدأت كبيرة وذات تأثير واسع . ففي عراق الخمسينات والستينات من القرن العشرين ، كان كبار الأدباء والكتاب يساهمون في صناعة ودعم الصحف … اغلبهم أصدرها واشرف عليها … كانت الصحف تقدم الخبر والتحقيق والتحليل والرأي الذي يصنع الرأي العام ويوجهه … أما الآن فإن الصحف لا تقدم أي نوع من التطور ، لا في الشكل ولا المضمون ، ولا بتقديم ما يفيد الرأي العام . لكن الحادث هو إن صحفنا تهتم بالدخول في معارك جانبية ، دون أن تقدم مادة مفيدة تساهم في تشكيل الرأي العام .
والأمـر في الغرب والولايات المتحدة مختلف ، فالصحف لديهم متقدمة لان صناعها يعرفون أن لديهم منافسين ، وانهم يقدمون صناعة صحفية ويحرصون على تقديم منتج يصمد أمام المنافسة . ونرى إن القنوات الفضائية هناك تساهم في انتشار الصحف عن طريق ما تقدمة من قراءات في موضوعاتها .
عموماً : إن عادة القراءة جزء من قيمة الإنسان ، وليس التلفزيون وسيلة للمنافسة بقدر ما هو دور مكمل لها . فالبرامج التي يتم تقديمها في الفضائيات بشكل متخصص تعتمد على الصحف والكتب التي تتناول هذه الموضوعات . وغذا جئنا الى المادة الصحفية المهمة التي تشكل الرأي العام ، فإن الصحف ما تزال هي مصدرها الرئيسي ، وحتى عندما تقدمها الفضائيات فإنها تعتمد على المادة الصحفية …. فضلاً عن إن الإذاعة والتلفزيون يمران على الأخبار والأحداث بسرعة بينما الصحف تتناولها بعمق ، كما ذكرت آنفاً .
3. تراجع قيمة الخبر الصحفي لدى اغلب صحفنا والمقصود بذلك هو الخبر أو التقرير الذي تبحث الصحف وراءه وتقوم بتحقيقه بمزيد من التفاصيل والمعلومات . هذا النوع من العمل الصحفي يكاد يكون اختفى . وتعتمد الصحف على ماتبثه وكالات الأنباء أو شبكات المعلومات ، دون بذل جهد حقيقي في الانفراد بأخبار خاصة ، وفي أزمان سابقة كانت مهمة الصحف هي التنافس في تقديم اكبر قدر من المادة الخبرية والمعلومات ، والتي تقوم على البحث والتحري ، وبذل الجهد وخلط المعلومة الخام بالرأي والتحليل وتحقيق الوقائع والأحداث بما يفيد الرأي العام ، وذا هو التحدي الحقيقي أمام الصحافة … وهو تحد لا يتصل بالفضائيات من قريب أو بعيد ، لان هذا النوع من الخبر أو التحقيق ليس من اهتمامات الفضائيات التي تهتم بالأحداث الشائعة بينما المجال مفتوح أمام الصحف في تقديم وتطوير عملها بشكل يخدم القارىء ، بل ويستفيد من التقدم التكنولوجي .
ستظـل للصحافة دورها ، والكلمة المكتوبة بشكل عام ستظل لها أهميتها وتأثيرها مهما توسعت الفضائيات ، وذلك لما تملكه الصحافة من ديمومة وقدرة على الغوص وراء أعماق الأحداث وتقديم التحليل والرأي ، والتوسع في البحث عن المعلومات وتقديمها ، وهذا طبعاً يرتبط بمناخ كل بلد على حدة ، ولا يمكن إنكار وضع الصحافة بوصفها مدونة مستمرة أمام البث الفضائي الذي يقدم الحدث بشكل سريع سرعان ما يغطي عليه حدث آخر ، وبالتالي فأن القارىء سيظل في حاجة الى المدونة ، ولا يمكن إنكار إن الصحافة والفضائيات كلاهما جزء من الإعلام ، وأصبحنا نرى الصحف تحرص على تقديم الصورة الصحفية كجزء من عملها ، والاهتمام بأشكال الإخراج الصحفي واستخدام الألوان والصور المجسمة ، وكلها عناصر لم تكن موجودة في بدايات الصحافة .
[email protected]