18 ديسمبر، 2024 7:19 م

لَكُمْ دستوركم … وَلِيَ وطنِ

لَكُمْ دستوركم … وَلِيَ وطنِ

فتح الملفات وأغلاقها أصبح الشغل الشاغل لماكنة الاعلام السياسي حيث تعددت وتداخلت الحلقات التي تدور حول المشاكل المتخمة التي رافقت السلطات الحكومية , فما أن يظهر الحدث على السطح حتى يستقطب الانظار ويظل يدور في أروقة الاعلام مراراً وتكراراً ويأخذ أشكالاً مختلفة من لقاءات وحوارات وتحليلات الى أن يصل درجة الاشباع وبعد ذلك يُركن الملف أو التحقيق الذي تُكلف به لجنة ما في الارشيف ويغلق ويهمش عليه ” حفظ ” ولايسجل أي أنجاز حقيقي ولو بنسبة نجاح معقولة يمكن من خلالها تحييد أوتقليل التأثيرات التي تظهر تباعاً نتيجة أهمال الملف وعدم أتخاذ القرار التشريعي أو القانوني أو المهني , ثم يخفت لمعانه ويتلاشى شيئا فشيئا ليظهر على السطح حدثاً أخر ليتصدر المشهد لتوجيه أنظار الجمهور وهكذا تجري المداورة بين الملفات لتبقى عالقة ولاتخرج من حالة المشكلة الى حالة الحل والانجاز , ولهذا نرى أن تلك الملفات قد تراكمت خلال السنوات السابقة والبحث فيها أصبح يستهلك الكثير من الوقت والجهد ويتسبب في أبطاء أو أيقاف أي برامج حكومية ” على قلتها ” من مواكبة الزمن المحدد لها لتقديم أي أنجاز مهما كان ضئيلاً .
البنية الاساسية للحكومة أتت من هيكلية طائفية حتى وأن كان ذلك ضمن سياقات دستورية والجميع يقر بذلك الواقع ولن تتغير تلك الهيكلية بمراجعة الدستور وهو الحدث المستجد على الساحة والسبب في ذلك أنها غيرت من اليات العمل السياسي وأصبحت تتقافز بتحالفات مغلفة بتسميات غريبة كالكتلة العابرة للطائفية وجبهة الاصلاح وسيظل الجوهر الحقيقي لها هو الحفاظ على المكاسب والمصالح والسلطة فقد أحتسبت الطبقة السياسية وبدقة أن الانتخابات القادمة لن تنقاد الى الشعارات الطائفية والترشيحات التي تعتمد في قياساتها الاسلام السياسي ولن تحصل على أي تأييد من السلطة الدينية , وخاصة بعد الفشل الذريع الذي نال ورقة التغيير الوزاري المسماة ” التكنوقراط ” بعد ما صاحبها الكثير من الجدل واللغط والاعتصامات وتعطيل مجلس النواب المعطل تماماً عن أي دور رقابي أو تشريعي لأصدار قوانين لها الاولوية القصوى فيما يحدث من صراعات وخروقات وتداعيات في المشهد السياسي والامني والاقتصادي وأنعكاساته على المشهد الشعبي , وكانت الرؤيا الأمثل للخروج من هذا المأزق هو بأشغال الماكنة الحكومية والرأي العام بموضوعة مراجعة وتعديل الدستور الذي سيكون على صادرة الاحداث لما تبقى من عمر الحكومة لأقناع القاعدة الشعبية بان الاصلاح قد بدأ فعلا من نقطة الانطلاق الاساسية وهو الدستور وذلك للتمهيد لأنتخابات مجالس المحافظات وأمكانية تأجيلها لتدمج مع الانتخابات العامة .
قراءة أولية لذلك الكتيب الصغير المسمى بالدستور يعطينا مؤشراً واضحاً بأنه كُتب من شخصيات تضع المصالح في مقدمة أولوياتها والسلطة كانت هي الهدف حتى وأن لبسوا أقنعة المذهبية والقومية والمظلومية والجهادية , وأنعكس ذلك على الفقرات التي تضمنها الدستور فبدلا من التركيز على تأسيس دولة ذو نظام يُدير شكل الحكم فيها وألامعان في آلياته ومساراته نرى أن فقرات الدستور وكأنها فصلت لترسيخ مفاهيم المكونات والأنقسام البنيوي للمجتمع وكان الاجدر بهم أظهار المشتركات التي توحد الشعب ضمن تشريعات الحقوق والواجبات التي تُؤطر بالقوانين تباعاً , ومن ثم تشريع وتفعيل قانون أدارة الدولة الذي ينظم الصلاحيات والمسؤوليات والواجبات في كافة مرافق الدولة ومفاصلها من أصغر مستخدم عندها الى أكبرهم منصبا , و الجميع أخذ ينظر للدستور كوثيقة تضمن له الحق بتمثيل المكون الذي ينتمي اليه ليأخذ حيزاً من السلطة وكأنه قد أستورث ذلك شرعاً أو عرفاً , وهذا السبب الحقيقي في الأنهيار والفشل الذي أكتنفته العملية السياسية والتي مسخت أي مشروع لدولة عراقية , فما الضير في عدم تمثيل أي طائفة أو قومية أو أقلية مادامت الحقوق والواجبات المنصوص عليها دستورياً تطبق على الجميع وتكون مسؤولية الجميع , فلا فرق بين عراقي وعراقي ألا بالقانون , وهكذا كُتب الدستور بصفحات كانت بصمة مفهوم المكونات واضحة عليها , كحرية ممارسة الشعائر الدينية التي عبرت حدود المعقول أو الفقرات التي تعطي الحق لتأسيس الاقاليم تبعاً لما كان مفروضا على أرض الواقع , وكثير غيرها وبذلك فشلت كل المسارات التي أنطلقت من الدستور كقاعدة بنيوية أساسية لها وهذا من الاسباب التي أوصلتنا الى تلك الرثاثة من البناء والانتاج .
وعملية تعديل الدستور ماهي ألا ورقة أستعراضية أستحضارية أنتخابية الهدف منها تغليف العملية السياسية الحالية بمكوناتها الحالية بأثواب أصلاحية بعد تنامي المطالبات الشعبية بذلك , والهدف هو أبقاءها ضمن السلطة لتوفير الغطاء الواقي من المساءلة القانونية جراء كل هذه المشاهد من الخراب , المشكلة هي أن القاعدة التي ستنطلق منها القاعدة التي تدرس وتُهيئ وتحلل البيانات اللازمة لعملية التعديل هي نفس القاعدة بشخوصها ورموزها وزعاماتها التي وصلت الى ما وصلت الية بطرق لايمكن ربطها بروح القانون ولا الدستور , وهي نفسها التي سوف تتحالف مع بعضها البعض وهي نفسها التي ستتخذ من التعديل المرتقب وسيلة الغاية منها ترسيخ الكيانات وبقاءها ضمن مغريات السلطة ومغانمها , ليس المهم فعلا أن يكون الدستور في التصور المثالي الذي يصفه البعض بالقدسية , فهو بتجرده ُ واقعياً ليس الا كتيب يتضمن فقرات تنظيمية جامعة لتيسيير الحياة السياسية والتي نراها اليوم وقد شارفت على الاحتضار , ولابد أن يعي الجميع أن
الدستور حتى وأن بُدلَ بالكامل فسيظل في طياته المادية ما لم يُنفخ فيه بروحٍ وطنية خالصة تلبس ثوب عراقيتها وأن كانت لها أي خصوصية دينية أو مذهبية أو عرقية , هذا الذي سيعطي الدستور الحياة التي تضمن لكل فرد عراقي التعايش السلمي في أطار الحقوق والواجبات وتحت مظلة قوانين تكون فاعلة وتطبق بمسؤولية عالية , وعلى كل فرد من الشعب أن يتحمل واجباته الشرعية الملقاة علية وأن يطالب باستقلالية التعديل وبعيداً تماماً عن المتربصين بالمناصب والمتشبثين فيها وان يطلق من أعماقه صرخة مدوية يأيها السياسيون ” لَكُمْ دستوركم … وَلِيَ وطنِ ” .