23 ديسمبر، 2024 6:03 ص

صحيح أن منطلق كتابة أمين معلوف عن «ليون الإفريقي» كان افتتان كاتبنا اللبناني المعاصر، بسيرة وعبقرية ذلك السلف العربي الكبير، ودهشته أمام غرابة تقلبات حياته ومغامراته، لكن الدافع الأكثر حسماً كان إحساس أمين معلوف أن في إمكانه – وفي هذه الآونة العصيبة علينا بالذات – أن يستخدم حكاية ليون / حسن الوزان، مؤشراً إلى أن في إمكان العرب، جماعات ولكن أفراداً أيضا، أن يكونوا ذوي اثر في نهضة العالم، في الماضي، ولكن في الحاضر أيضا… وان في إمكان حكاية ليون هذه أن تقدم إلى العالم كله درساً في التسامح الإنساني وفي الحوار بين حملة الأديان السماوية. فكتاب «ليون الإفريقي» هو – في الدرجة الأولى – كتاب حوار وسلام وتسامح :
(مرجع غير معروف !)
قراءة انطباعية لرواية أمين معلوف “ليون الافريقي”: الرحالة العالمي الحكيم في مواجهة الشدائد والمحن !
يتميز أمين معلوف بقدرته الرائعة على الجمع بين حكمة الشرق وتقنية الغرب، وبعد أن تنتهي من قراءة روايته “ليون الإفريقي” والتمعن فيها، تشعر بأنه استخدم كالسينمائي البارع عدستين بمهارة فائقة :عين الطائر والعدسة المقربة ….فهو قادر على رؤية الأحداث ضمن شمولية تاريخية قدرية، وقادر على تمييز أدق التفاصيل ببهجتها وبشاعتها. وربما تكفي الصفحتان الأولى 9 والأخيرة 389 لتلخيص مجمل أحداث الرواية، ونبدأ بالصفحة الأخيرة : ” مآذن قمارت البيضاء ، أطلال قرطاجة الشامخة، إن النسيان بتربص بي في ظلالها، وباتجاهها يتحول مجرى حياتي بعد تعرضي لعدد من حوادث الغرق . خراب روما بعد نكبة القاهرة ، وحريق تومبكتو بعد سقوط غرناطة…ثم… لقد كنت في روما “ابن الإفريقي” وسوف تكون في إفريقيا “ابن الرومي” وأينما كنت فسيرغب بعضهم في التنقيب في جلدك وصلواتك ، فاحذر ان تدغدغ غريزتهم يا بني، وحاذر أن ترضخ لوطأة الجمهور ! ….ولا تتردد قط بالابتعاد إلى ما وراء جميع البحار، إلى ما وراء جميع النجوم والأوطان والمعتقدات”. وتكاد تكون الصفحة الأولى في الرواية (ص.9) تكملة طبيعية للصفحة الأخيرة، وهذه مهارة كتابية مشتقة من الأسلوب السينمائي في السرد، حيث تلقي الضوء على سمات الرحالة العالمي، الذي يتمتع بالمغامرة والمعرفة والزهد…”لقد عرف معصماي على التوالي دغدغات الحرير واهانات الصوف، ذهب الأمراء وأغلال العبيد..وأزاحت أصابعي آلاف الحجب ولونت شفتاي بحمرة الخجل آلاف العذارى، وشاهدت عيناي
احتضار مدن وفناء امبراطوريات”. ولسوف تسمع من فمي العربية والتركية والقشتالية والبربرية والعبرية واللاتينية والعامية الايطالية لأن جميع اللغات ملك يدي.ولكني لا انتمي إلى أي منها فأنا لله وللتراب، واليهما راجع في يوم قريب “!
كنز من الحكم والأقوال البليغة
الرواية زاخرة بالحكم والتعابير البليغة المعبرة ، والتي تنتشر في ثنايا التفاصيل كما البهارات المرشوشة على وجبة طعام شهية، حيث يقول “على المرء إذا كان غنيا بالذهب أو بالمعرفة، أن يراعي فقر الآخرين”، ويقول أحد الأطباء “ان المسلمين لم يضعفوا إلا يوم أظلمت عقولهم بفعل الصمت والخوف والخضوع “أليس ذلك حقيقة؟! وعن بؤس بقايا المسلمين في الأندلس الساقطة في يد الأسبان عام 1499 يقول “..أيها الإخوة، إننا هنا بحمد الله في دار الإسلام، ونحن نحمل فخر ديننا وكأنه تاج على رؤوسنا. فلنحذر إرهاق أولئك الذين يحملون دينهم كما تحمل الجمرة باليد “ثم ينتقل لعام 1502 ويخبرنا بحكمة بليغة تصلح لكل الأزمان: ” أنت يا من قرأ كثيرا من الكتب، ألا تعلم ما قالت أم في العصور الخوالي يوم مولد ابنها: لست أرجو لك أن تتمتع بالذكاء لأن عليك تسخيره لخدمة الأقوياء، ولكن أرجو لك حسن الطالع بأن يكون الأذكياء في خدمتك”… وهل يعني هذا القول إلا الانتصارالحتمي للسلطة على الذكاء، ثم ننتقل لحكمة اقتصادية في العام 1505 : ” لو قال لك احد أن البخل ابن الحاجة فقل له أنه مخطئ، إن الضرائب هي التي ولدت البخل”! ثم يخرج بنتيجة مفادها:”…في هذا البلد ثروات غير متوقعة، بيد أن الناس يخفونها ولا يسعون إلى تثميرها، فهم يخافون أن ينهبهم الحكام”، ولنضف في عصرنا الحالي فئات الفاسدين
المتربصين بالأموال العامة والخاصة لسرقتها وتخريب اقتصاد البلاد. ويصف عطش الصحراء القاتل ببراعة تشبه اللقطات السينمائية المعبرة قائلا: “…وفي اجدب جزء من تلك الصحراء ضريحان فوقهما شاهدة من الحجر نقش عليها كتابة مفادها انه يرقد في هذا المكان رجلان كان احدهما تاجرا غنيا مر من هنا وذاق عذاب العطش فاشترى من الآخر وهو قائد قافلة، طاسا بعشرة ألاف قطعة ذهبية، ولكن ما أن خطا البائع والشارب بضع خطوات حتى سقط كلاهما، والله وحده يقدر العيش والأرزاق”. وعن السياسة ودهاليزها يقول في عام الشريف الأعرج :”إذا كنت تريد التدخل في السياسة ومفاوضة الأمراء فعليك أن تتعلم الاستهانة بظواهر الأمور”،ثم عن البدو الرحل والتناقض في سلوكهم: “هناك مثل يقول إنهم يحملون في أيديهم على الدوام خنجرا إما لذبحك وإما لذبح الشاة لإكرام وفادتك !”.
بطش السلطان العثماني سليم
وعن الشوق للقاهرة وماء النيل يقول في عام 1514 :”…وأحسست بان تلك المدينة كانت مدينتي ،وشعرت لذلك برغد عامر،فما هي إلا بضعة أشهر حتى كنت قد أصبحت من أعيان القاهرة “، ثم ينتقل لوصف السلطان العثماني سليم وبطشه:”…ولم يكن قلبه يعرف الرحمة فقد جعل أعوانه يخنقون أشقاءه ويبيدون عائلاتهم، ثم يقول في فصل آخر:”وعندما كان يقبض على احد الأعيان ،كان يركب على حمار ووجهه إلى مؤخرته وعلى رأسه عمامة زرقاء وحول عنقه عدد من الجلاجل…وكان يطاف به بهذا الزي في الشوارع قبل أن يفصل رأسه ثم يعلق الرأس على عصا طويلة في حين يرمى بالجسد إلى الكلاب ، وكانت مئات العصي الطويلة قد زرعت في ارض كل مخيم من المخيمات العثمانية التي كان سليم يحب الطواف بها !” هذه التفاصيل الإجرامية تفيد كل هؤلاء الذين يحنون لإعادة الولاية العثمانية على ارض العرب! ثم ينتقل إلى التناقض العصي على الفهم :”…وكان السلطان قد شهد إعدام بعض الضباط ثم أمر بان يلقى بمئات الجثث التي فصلت رؤوسها
(نفس الممارسات الداعشية الوحشية العصرية التي نتعجب منها)…ثم انتقل إلى الحمام ليتطهر قبل الذهاب لصلاة المغرب في مسجد قريب من الميناء”! وعن مقاومة المماليك وسحق المقاومة يقول :”وكان “طومان باي” للقاهرة أجمل هدية ممكنة،كالنار المقدسة التي تنير ليل البطش الطويل،وبعد القبض عليه انقطع حبل الشنق مرتين قبل أن يشنق للمرة الثالثة وكأنه سارق خيول وضيع”.
ونخرج من أجواء البطش وسفك الدماء لنخلص إلى حكمة شاملة عام 1519 : “…فجميع المدن قابلة للهلاك،وجميع الامبراطوريات ضاربة (لننظر لممارسات الامبراطورية الأمريكية القاهرة والطاغية) ،والعناية الإلهية لا تسبر أغوارها. وكان فيضان النيل ودورة النجوم وولادة صغار الجاموس الموسمية هي وحدها التي تشد من عزيمتي” ويتحدث كالفيلسوف الزاهد “وسوف تبقى هذه الأهرام طويلا بعد أن تندثر منازلنا وقصورنا ونندثر نحن..أفلا يعني أنها انفع الأشياء في عين الحي الباقي”، ويستطرد في عام العصاة (1516) :”ولكن ألا يخرج العنبر البحري من أحشاء الحوت”؟ ثم “ألا يقال أن الفريسة كثيرا ما تجذبها المخالب التي تتهيأ لتمزيقها”… أليس ذلك وصفا “فرويديا” للعلاقة “السادومازوشية ” بين الضحية والجلاد؟
القسطنطينية : عمائم الأتراك وقلنسوات المسيحيين !
ثم ينتقل لوصف القسطنطينية ” إنها مثقلة جدا بالتاريخ، وفي الأسواق ترى تراصف عمائم الأتراك مع قلنسوات المسيحيين بلا ضغينة أو بغضاء” ، ويصف بعض شوارعها بكثرة الضيق والوحل إلى حد أن علية القوم لا يستطيعون التجوال إلا محمولين على الظهور البشرية! وهو لا يكف طوال روايته الممتعة عن استعراض أحداث تلك الفترة كما يستعرض ناقدا أحداث مسرحية ساخرة مليئة بالمجد واليأس والمعاناة ، وحيث يتحكم السلاطين وأولي الأمر بمصائر عامة الناس وخاصتهم بالطريقة التي تروق لهم …حتى أن السلطان سليم دعا صاحب القاهرة إلى الانضمام إليه لمحاربة الهراطقة في حين أن السلطان العثماني كان قد عزم في الحقيقة على منازلة الأمبراطورية المملوكية… ويتحدث عن سلطان المماليك قانصوة بسخرية لاذعة ” وأما السلطان قانصوة فقد كان ولا ريب جنديا باسلا في أيام شبابه، وأما اليوم فليس ما يشغله غير العناية بأجفانه وغير سلب رعيته أموالهم”. ثم يعلن حسن بن محمد الوزان الملقب بليون الإفريقي حياديته المطلقة تجاه الأحداث، أو لنقل “لامبالاته الفلسفية”: “من أي طينة أنت لكي ترضى بفقد مدينة بعد أخرى ، بفقد وطن بعد آخر “…”ليست الحياة بين الأندلس التي غادرتها والجنة التي وعدتها غير رحلة وأنا لا اقصد أي مكان ولا اطمع في شيء ولا أتشبث بشيء ، وأنا مطمئن إلى شهوتي للعيش…”ويبقى بالرغم من ذلك متفائلا يبحث عن بصيص النور في ليل البطش والحقد والوحشية : لا اطلب قط من الله أن ينجيني القنوط ،
اطمئن… فعندما يتخلى الله عنك بيد يمسكك بالأخرى”، وهو لا يعدم وسيلة للتخلص ببراعة من أي مأزق يواجهه :”لا يكون الإنسان معدما قط ما دام في فمه لسان”! وعن قدرته على تجديد طاقته والبدء من جديد يقول: عندما يستطيع المرء أن يصبح غنيا في بلد ما فانه يسهل علية أن يصبح كذلك مرة أخرى في أي مكان جديد. ويلجا للصلاة لمعالجة البؤس والقنوط والإحباط “وعندما يسود الظلام والأرق والقنوط والصمت يحمي نفسه من الجنون باسترجاعه لعادة الصلاة خمس مرات في اليوم “.
الوجه المشرق للإسلام
ولا تشح حكمته بعد انتقاله إلى روما عاصمة الأمبراطورية المسيحية ، فهو يقول في عام القديس انجلو (1519 ):”وكثيرا ما تتم اجل الأعمال لأسوأ الأسباب ،وأسوأ الأعمال لأجل الأسباب ” محاولا أن يظهر الوجه المشرق للإسلام أمام البابا :”فطالما كان الخلفاء هم الحكام كانت دار الإسلام تتألق ثقافة، وكان الدين يتحكم بوداعة في أمور هذه الدنيا ” ، ثم لا تغفل ملاحظاته اليقظة عن رصد أي سلوك تاريخي رفيع ، وان كان ذلك لم يمنعه من ملاحظة حماقات روما البابوية: فنمط حياة الأساقفة يكلف مبالغ طائلة ، لذا فقد شرعوا ببيع المناصب الكهنوتية ، ولما كان ذلك لا يكفي أبدا فقد أخذوا يبيعون الرأفة للألمان ! وقد أثرت كل هذه الأحداث المتناقضة في ذهن ليون، فأدت لاختلاط الأمر عليه : لم أكن ادري كيف أفكر ؟ فقد كان الخير والشر والصدق والكذب والجمال والعفن مختلطة جدا في ذهني! ألا يحدث ذلك الآن في حالتنا ومجتمعاتنا وأمورنا بسبب التناقضات والتدخلات الدولية والسعي المهووس للمناصب والكراسي والسلطان ، حتى أن الأمر قد أصبح مربكا وغامضا في أذهان العامة وحتى النخبة فتداخل الخير والشر مع العمالة والوطنية وكادت “الطاسة أن تضيع” وخاصة مع تشويش الإعلام المأجور والفضائيات المشبوهة !
نهاية الفروسية والحروب المشرفة !
ثم ينتقل ليرصد الصدى الأول لدخول البنادق في الحروب الحديثة فيقول في عام المرتزقة الألمان (1527) : ” أهذه هي الحرب في أيامنا؟ إن أشجع الفرسان قد يقتله من بعيد نافخ مزمار بهذه البنادق اللعينة… إنها نهاية الفروسية والحروب المشرفة !” وماذا كان سيقول لو عاصر كافة صنوف الأسلحة العصرية من طائرات وصواريخ وقنابل ودبابات ومدافع وبنادق التي تحقق الدمار والموت للخصم بواسطة كبسة زر لا غير! ويصف القتل والتنكيل والاغتصاب قائلا :” واقسم بالله العظيم الذي جعلني أجوب الدنيا الواسعة، بالله الذي جعلني أعيش عذاب القاهرة كما عشت عذاب غرناطة، أنني لم أقارب هذا القدر من الوحشية،هذا القدر من الحقد، هذا القدر من الاندفاع الدموي وهذا القدر من المتعة بالذبح والتدمير والتدنيس، فهل اصدق إذا قلت أن راهبات قد اغتصبهن على مذابح الكنائس مرتزقة يضجون بالضحك قبل أن يخنقوهن ! وان مخططات المكتبات قد غدت بالات كبيرة أقيمت للفرح وأخذ الجنود يرقصون حولها، ومن حسن حظ ليون انه لم يعهد المآسي والحروب وكافة صنوف التنكيل والتعذيب والاغتصاب التي مورست خلال الخمسة قرون الماضية، وكما قال البابا بندكتوس السادس عشر بأن الحضارة الغربية (بل والإنسانية ) قد ضلت طريقها وباتت تتخبط بسبب الابتعاد عن الله، كما استطرد بان العالم بجميع موارده غير قادر على إنارة طريق الإنسانية لتتمكن من توجيه مسيرتها!
وأتفاءل قائلا : ربما تكون الإنسانية أخيرا قد قاربت رحلتها الطويلة استعدادا للخروج من النفق المظلم باتجاه فجر إنساني مشرق جديد وخلاق.
[email protected]