كنا قد أكملنا الخدمة العسكرية وبلغنا من العمر ما بلغنا وشرعنا بحياتنا العملية وتزوجنا وأصبح لنا بيت وأطفال. كانت الحياة صعبة للغاية بسبب الحصار العجيب الذي كان قد فرض على الشعب العراقي. رغم غلاء المعيشة، كان النظام البعثي يستدعي مواليدنا إلى الالتحاق بالخدمة العسكرية الاحتياط. دعي مواليدي للالتحاق بالخدمة الاحتياط عام 2000 ولمدة شهر واحد. بعد ذلك اكتشف النظام أن الشهر الواحد قليل، فمدت الفترة إلى الشهرين وقد استدعينا من جديد سنة 2001.
تم سوقي إلى الفيلق الخامس في الموصل ومن هناك تم نقلي إلى كتيبة المخابرة/1 والتي مقرها في منطقة العدنانية وسط الموصل وكركوك. لا نعرف المغزى من هذه الخدمة التي تؤذينا للغاية، فنحن بحاجة إلى العمل والكسب لسد احتياجات عوائلنا. النظام يقول بأننا نستعد لتحرير القدس قريباً، لكنني لم أكن أشاهد أي بادرة تشير إلى ذلك. كنا نلبي طلب الوطن كل مرة ونحن نلتحق بالمعسكرات النائية حتى لا نغضب الوطن والتخلف عن ذلك قد يؤدي بنا إلى الهاوية تماماً. السجن والتعذيب والموت بطلقة الرحمة كان جزاء من لا يلبي نداء هذا الوطن. هكذا التحقت بكتيبة المخابرة وقدمت أوراقي إلى قلم الكتيبة.
المكان ناءٍ ولا توجد مدينة قريبة علينا والفصل شتاء والبرد قارس. العقيد فاروق آمر الوحدة ونحن بإنتظار أن تقدم أوراقنا إليه. استغرق الانتظار امام باب قلم الوحدة طويلا. عددنا قارب العشرة والسيد الآمر ما زال في غرفته ولم يخرج لاستقبالنا حتى ساعات المساء. مسؤول القلم أخبرنا بأن السيد الآمر قد أرسل أسماءنا إلى القيادة ونحن ننتظر أمرهم في الالتحاق.
شيء من الغرابة ينتابني وأنا أنتظر في الفناء البارد. ماذا ينتظر الآمر يا ترى؟ فالقيادة هي من أرسلتنا إلى هنا ونحن لم نحط من السماء بطبيعة الحال. حاولنا لقاء الآمر لكننا لم نفلح بذلك. ما نريده الآن هو أن نوضع في أحد الملاجئ العسكرية مع جنود الوحدة ونحمي أنفسنا من البرد الشديد. لا أحد يجيب على تساؤلاتنا ولا أحد يترحم علينا. تقدمت ساعات الليل والسماء ملبدة بالغيوم والأمطار تنزل شيئاً فشيئاً. ما بالنا أن نفعل نحن الآن بعد أن علمنا أن السيد الآمر قد خلد إلى النوم.
أحد الجنود الاحتياط من أمثالي اقترح أن نحتمي من هبوب الرياح خلف التلة المصطنعة حول المعسكر. كانت فكرة جيدة راقت لنا جميعاً. هربنا إلى التلة ونحن نحمل في أيدينا حقائبنا الصغيرة بعد أن نفد ما فيها من مأكل ومشرب.
اعتلينا التلة، وجدنا الكلاب السائبة قد احتمت هناك قبلنا. ليس لنا مفر إلاّ أن نزاحم الكلاب السائبة وأن نحمي أنفسنا من هبوب الرياح الثلجية. البرد قد نال من الكلاب أيضاً حتى أصبحوا لا يحركون ساكناً حتى الصباح. كنت أتطلع إليهم وأنا أضع حقيبتي على صدري عسى أن أحصل على شيء من الدفء.
الغريب في الأمر أن الكلاب كانت ألطف من الموجودين في هذا المعسكر الذين لم تأخذهم فينا رأفة طوال الليل. بدأ ضوء الشمس يتسلل وينهي ظلام الليل الدامس. مع الضياء الأول خرجنا من هذه الصومعة لنقف من جديد أمام باب غرفة الآمر. لا بد أن نلتقي الآمر وإلاّ فإننا لن نستطيع على تحمل الليلة الماضية من جديد ولا نستطيع عليه صبراً بعد استنفذنا جميع قوانا.
تمكن أحدنا من الدخول إلى غرفة الآمر للتحدث إليه. ننظر إلى باب الغرفة منتظرين خروج هذا الصديق بحل يفيدنا به. خرج هذا الصديق وكانت وجهته إلى باب المعسكر. عجباً ما خطبه أين ذهب هذا دون أن يتحدث إلينا. إنه يسير دون النظر إلى الوراء حتى. ثم دخل الثاني والثالث حتى جاء دوري. تبين أن السيد الآمر يطلب المال مقابل الراحة. ومن يدفع يذهب إلى بيته والأمر لا علاقة له بموافقة القيادة وما ادّعوه بالأمس.
بعد أن عنينا ما عانيناه في الليلة الماضية ونحن بين الكلاب السائبة، فمن المؤكد أننا سندفع كل ما نملك في سبيل الخلاص وعدم تكرار المبيت مع الكلاب. خرجت أنا أيضاً متتبعاً خطوات الذين سبقوني نحو الباب لأعود بعد يومين وأنا أحمل ما طلبه مني السيد الآمر.
هكذا فإن ترغيم المقابل على الرضوخ يتطلب الضغوط وبث الخوف والترهيب. وهكذا هي الانظمة التي تطبق هذا المبدأ على شعوبها لغرض المطاوعة وتمرير المخططات ونهب الثروات. إنها سياسة التخويف التي نخوض غمارها ونحن نخرج من مأزق حتى ندخل بآخر أشد منه.