17 نوفمبر، 2024 7:43 م
Search
Close this search box.

ليلة في تلعفر

كان ذلك مساء السادس من كانون الاول 1995 .. وقتها كانت الشمس تنحدر نحو المغيب . أخالها كرة حمراء ، فيما نشرت رداء بذات اللون على جزر السحب الموزعة هنا وهناك . ومن حين لاخر كان قرص الشمس يختفي خلف تلال عديدة .
الركابي والعامري
في ذلك الوقت والتاريخ ، وحيث النسيم البارد يداعب الوجوه برفق ، كانت السيارة التي تقلنا تسرع متجهة نحو الغرب .. مدينة الموصل بقيت خلفنا .. والان نحن متجهون غرباً في سباق مع الشمس ، الاعلامي حسن الركابي يجلس خلف مقود السيارة ، والنسابة ثامر العامري يكرر الحديث حول أنساب العشائر .
والسيارة تنهب الطريق الاسفلتي ، كنت استعيد ما قرأته عن جغرافية هذه المدينة : تقع في القسم الغربي من مدينة الموصل . ويحدها من الشمال نهر دجلة .. تتميز أرضها بالتضاريس المتموجة .. ومناخها معتدل .. وهي غنية بالثروة الزراعية والحيوانية والمعدنية .
ويتكون اسمها من كلمتين : تل .. ومعناه معروف . و(أعفر) ومعناها : التراب . فتصبح دلالة الاسم ، عند الاحتكام للمدلول اللفظي ، تل التراب . وعندما شقت السيارة طريقها داخل المدينة كان (عداد) السيارة يشير الى الكيلومتر رقم (60) ، وكان لابد للوفد الزائر ان يقوم بجولة سريعة في المدينة ، فيما قمت بجولة مضافة حين عدت الى مصادري وفيها قرأت :
* ((تلعفر اسم مركب من لفظين ، التل .. و .. عفر ، فالتل معروف بدلالته ، و .. عفر .. هو التراب ، وقديماً كانت تلعفر تتموج بتلال التراب ، فجرت التسمية على هذه الصفة ، وهناك قرى في تلعفر يقترن اسم التل ببدايتها .. ومنها : تل الريم .. و … تل خضر .. وغيرها . وهو تأكيد على تموج ارض تلعفر . وقيل ان الاسم ارامي (تلله عبره) اي تل التراب .. )) .
سومر وبابل وأشور
* أهل تلعفر ينتابهم مرض المدن العريقة ، ففي كل قرية يتألق تاريخ الشهادة . وفي كل الازمنة دافع الاعافرة عن شرف القلعة . فقدموا ذهبهم ورؤساء بطونهم واقلام شعرائهم ، قدموها بنية ذلك العراقي الذي فيه جزء من سومر وبابل وآشور . فيه حرارة السيف الاسلامي وافكار عياض بن غنم الذي حرر الجزيرة الشمالية من الرجس وعقد المعسكرات الاجنبية . وكان يقدمون الى الارض بدون منة ، لانها – اي الارض – كانت تربى في أعماق الاعافرة الايمان ، فيزرعون بالايمان والقدر فيصلون الى تاريخ العراق . فسيجدون الوطن الذي تآلفوا فيه تراباَ ودماَ ودعاء .
اغلقت باب الذاكرة التاريخية مؤقتاَ .. والمدينة – رغم هذا الجو الشتوي – تعج بالنشاط غير عابئة بالليل الذي قدم كجيش مجلل بالسواد من خلف المرتفعات .. نحن الان في قلب التل المعفر بالتراب .. .
الشمس تودعنا
ومع وصولنا ، بدأ الظلام يزحف على أديم هذه الارض ، لقد ودعتنا الشمس وهي تجري خلف تلك التلال .. الوقت زاد على الساعة الخامسة مساء ، حين وقفت السيارة التي تقلنا في باب الدار التي قصدنا .. عندها كنا بمواجهى (التلعفري) !! .
ومن المفيد القول أنني كنت على اتصال هاتفي معه في الليلة التي سبقت وصولنا .. وعندما أغلقنا طرفي الخط الهاتفي ، كانت الجولة – بكافة محاورها – قد تم ترتيبها .. وكانت المحطة الاولى في هذه الجولة هي ديوان الشخصية الادبية المعروفة (المحامي علي الشيخ ابراهيم التلعفري) .. وبعد طرقات خفيفة على الباب كنا بمواجهة تلك الشخصية .. .
وسرعان ما انتظم الديوان .. وبدأ يكبر مثل كرة الثلج .. كانت نواة الديوان (الاستاذ علي ونجله حيدر) .. والوفد القادم من بغداد .. وتقاطر حضار مجلس التلعفري ، أبو أسعد (قائمقام متقاعد) .. بينما (النسابة ثامر العامري) ينتحي جانباً يستدر المعلومات – بصعوبة بالغة – عن الانساب العربية لسكان هذه المدينة .. .
الأديب علي الشيخ ابراهيم
وبدأت بحوار (التلعفري) الذي صاهر قبيلة (بني لام) بزواجه من احدى بناتها .. وتحت عنوان (صفحة من أيام عمري) قرأت ما كتبه الاديب (علي الشيخ ابراهيم) :
* ولدت في تلعفر في الثاني من مايس 1935 من عائلة ذات ثقافة صوفية – دينية ، سميت (عليا) تيمناً بأسم جدي (الشيخ علي بن ملا محمد) ، الذي توفى سنة 1921 بعد ان ساهم ببعض وقائع
ثورة العشرين في منطقة تلعفر ، تعلمت الابجدية وختمت القرآن في زمن قياسي على يد المرحوم : ملا أحمد . وعن هذا الطريق تعلمت القراءة والكتابة قبل التحاقي – عام 1947 – بمدرسة (تلعفر الثانية) . وكان ميلي شديداً نحو قواعد اللغة العربية ، لان المرحوم والدي كثيراً ما كان يردد على مسامعي : ان الذي يجيد (النحو والصرف) يقدر على ضبط قراءة القرآن الكريم وتجويده .
* في (متوسطة تلعفر) كان (علي التلعفري) مثال الطالب المجد ، ولعل أبرز حدث ثقافي صادفه آنذاك ، ان ادارة المدرسة ، قررت اصدار نشرة جدارية ثقافية فوقع الاختيار عليه ليكون رئيس اللجنة الثقافية التي تولت اصدارها تحت اسم (القبس) . يومها كتب الطالب (علي) افتتاحيتها .. والتي جاء فيها : القبس .. وما أدراك ما القبس ؟ انها نور مقتبس .. الخ . وكان واضحاً ان ثقافته الدينية تكمن وراء هذا النوع من الاسلوب الادبي المبكر .
باحث في فنون الفلكلور
* سألته ، وكان السؤال قفزة في التسلسل التاريخي لهذا الحوار . جاء في (موسوعة أعلام العراق في القرن العشرين) للباحث حميد المطبعي ، وصفك (باحث في فنون الفلكلور) .. فما هي خلفيات هذا الوصف ؟ .
* أجابني بهدوء وصوت يسمع بصعوبة : (المطبعي) على صواب في ذلك ، فقد كتبت سلسلة من الابحاث الفلكلورية في الاعوام المبتدئة من عام 1969 وحتى عام 1980 في مجلة التراث
الشعبي ، وكتبت كذلك عن الموسيقى الشعبية والازياء الشعبية في مجلة اتحاد الادباء التركمان (صوت الاتحاد) عام 1970 .
* ومجدداً وضعت الحوار على سكة (الجانب الاجتماعي) .. .
* قال لي ، بأسترسال ينم عن ذاكرة حية : تحت ظرف مالي يتصف بالقساوة ، التحقت باعدادية الشرطة ببغداد عام (1954 – 1955) فكنت أولا في صفي خلال سنوات الدراسة حتى تم تعييني كمفوض للشرطة ، تلته فترة التحقت فيها بالصف الخامس في (ثانوية النضال) فحصلت على شهادتها ، ثم التحقت عام 1959 بكلية الحقوق (القانون والسياسة) بعد ان انقطعت علاقتي بالشرطة بصورة نهائية .
رئيس اتحاد الأدباء التركمان
* يضيف التلعفري : حالت الظروف بيني وبين اكمال دراستي القانونية حيث عدت اليها سنة 1968 ، فنلت في العام التالي شهادة (البكالوريوس في القانون) .
ولكن رغم تواضعه الجم ، ورغم بعض الثغرات التي تحتاج الى ما يمليها في ما ذكر من معلومات ، فأن الوسط الثقافي العراقي يتذكر ان (المحامي علي الشيخ ابراهيم التلعفري) كان اول رئيس لـ (اتحاد الادباء التركمان) في بداية تكوينه بعد 17 تموز 1968 . كما عمل نائباً لرئيس الاتحاد لعدة سنوات بعد رجوعه الى مدينة تلعفر لممارسة المحاماة .
التلعفري يهتم – بصورة خاصة – في (ثورة العشرين) ويقول : أنه يعتز بالبحث فيها والكتابة عنها . كما يهتم بتاريخ العراق الحديث ، وبالادب التركماني . وعلى الرغم من تحصيله الاكاديمي (القانون) فانه
يميل الى الدراسات الادبية والتاريخية والتراثية . وقلما ينشر في مجال (الدراسات القانونية) وكل ما قام به في هذا الجانب بضع مقالات نشرت في حينها .
* وعندما سألته عن اعماله الادبية الجاهزة للطبع ..
* قال التلعفري : لدي المخطوطات التالية وهي جاهزة للطبع : ثورة العشرين التحررية .. الشعارات والاهداف – من مأثورات التركمان الشعبية – الرؤى الثورية للثقافة التركمانية بعد 17 تموز 1968 – من مأثورات تلعفر الشعبية – رحلة نقدية في بطون الكتب – الواقع الموضوعي للهوسات الشعبية ، لكن ما ذكره ليس سوى جزء من عطائه الادبي .
المربع الذهبي
يقيم التلعفري – الان – بشكل دائمي في تلعفر . وله من الاولاد خمسة ، ولازال – كما يقول – يمارس المحاماة مهنة المشاق والتعب . اولاده بالتسلسل : حسن – حيدر – حسين – حكمت . وهم من أُمَّيْن : أم تلعفرية .. و .. الثانية بغدادية من بني لام . ويقول : ان له خمس بنات بعضهن موظفات .
الساعات تمر سريعاً ، والليل قد انتصف ، ورغم تعبنا حيث غادرنا بغداد مبكرين ، فقد كنا مستعدين للمطاولة في السهر حباً في الحديث ، ورغبة بالاستزادة .. فيما لاحظت ان (الديوان) يتوزع صدارته ما يمكن ان نسميه (المربع الذهبي) .. ونعني به المربع واضلاعه المحامي علي الشيخ ابراهيم التلعفري .. و .. السيد علي الموسوي (ابو حسين) .. و
.. الحاج فاضل حسين قدو .. و .. علي عبد الله (أبو طلال) هؤلاء الاربعة هم أضلاع (المربع الذهبي) المعروف في تلعفر .
* استمر الحديث وتشعب ، رغم ان نهره الرئيسي كان : أنساب أهل تلعفر وعروبيته وعراقيتهم الصميمة .. وتحس ا ن اهلها قد كسبوا جولة الصراع مع مزيفي التاريخ اولئك الذين ظلموا الحقيقة .. وتلعفر وتاريخها .. .
صباحاً ، وبعد ليلة مضى اكثرها في الحوار والاستماع ، غادرنا تلعفر تلك المدينة التي انسجمت – بوعي وادراك – مع هويتها الوطنية العراقية .. فيما ودعنا المحامي علي الشيخ ابراهيم ونجله حيدر ، بعد ضيافة كريمة لم نفاجأ بها .. .
ودعنا أهل تلعفر وفي النفس رغبة بالعودة اليها .

أحدث المقالات