23 ديسمبر، 2024 4:36 ص

ليلة على طريق الكاظمية..

ليلة على طريق الكاظمية..

في رحلة استغرقت بمقياس الدقائق وقت لا يتجاوز سبع ساعات، لكنها اختزلت مشاهد امتدت لنحو الف وثلاثمئة عام، وقلبت صفحات التاريخ وتجولت بين رسالة سماوية حقيقتها التمسك بالعقيدة وقابض على السلطة يرى في نسل النبوة تهديدا لعرشه وضياع لملكه، حتى كانت الدقائق تمر وكأننا نسمع خلال تنقلنا من منطقة إلى اخرى اصواتا تذكرنا بشخصية رسمت طريق التحرر وممارسة دورها في نصح “العباد” من داخل زنزانة سجلت اخر ايامه وانفاسه الاخيرة.

مسيرتنا المشوقة انطلقت بعد اقل من نصف ساعة على غروب شمس يوم الخميس، حيث اخترنا ركوب الطريق الرابط بين جنوب العاصمة بغداد وشمالها وتحديدا من منطقة الدورة باتجاه مدينة الكاظمية، والمناسبة كانت احياء ذكرى استشهاد الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)، وهو الإمام السابع عند الشيعة (الاثنا عشرية) وبشكل اوضح “المذهب الجعفري”، وحتى تكتمل طقوس تلك المناسبة فان المشاركين في احيائها يفضلون السير على الاقدام من جميع المحافظات وصولا لمرقد سابع الائمة في احدى ضواحي المدينة التي اقترن اسمها بلقبه “كاظم الغيض” فاصبحت الكاظمية، خطواتنا الاولى انطلقت بنشاط كبير ورغبة في اكتشاف وجوه السائرين معنا من مختلف المدن والمحافظات وحتى القرى، فبعضهم كانت تبدو عليه علامات التعب والارهاق لكنه يتمسك بالسير على الرغم من خطواته “البطيئة” واحيانا يلجأ لكتف زميل يرافقه في رحلته لاتخاذه وسيلة يستند عليها لاكمال طريقه، واخرون تتسارع خطواتهم وكأنهم في سباق نهايته ستكون جائزة ثمينة لمن يصل اولا.

تلك المشاهد لم تقتصر على الرجال فقط، فهناك النساء والاطفال من مختلف الاعمار بعضهم يسير إلى جانب والديه ويقفز بين خطوة واخرى وكأنه حصد ثمار انتظاره لمناسبة كان يخطط لها منذ زمن، بينما تتهامس النساء وهن يرتدين “العباءة” التي تغطيهن من اعلى الراس حتى اسفل القدمين بكلمات اكثرها بصوت “خافت” وما يصلنا منها لا يتعدى سوى رسائل تنبيه لاطفالهن او الطلب الاستراحة بين فترة واخرى، ومع طول مسيرنا تتوزع على جوانب الطريق “سرادق” تعرف خلال الزيارات الدينية “بالمواكب” مهمتها لا تقتصر على التذكير بالحادثة من خلال القصائد الحزينة عبر مكبرات الصوت، انما تشمل تقديم وجبات الطعام والشراب بمختلف الانواع والاشكال، فهنا من يقدم الطعام المشوي على الفحم وهناك من ينادي بصوت عال يجبرك على الاقتراب لتكتشف وجود وجبة طعام تختلف عن سابقتها حتى الفواكه تسجل حضورها، حيث يتسارع الاطفال الذين يزينون تلك المواكب بتقديمها بطريقة لا تخلو من “العاطفة”، ولعل اكثر ما يثير الاستغراب “توسل” اصحاب المواكب بالزائرين بطريقة قد تصل لاجبارك على التوقف رغما عنك لتناول الطعام والشراب، وهي ميزة استحقت بلادنا فيها المرتبة الاولى وحصدت الارقام المتقدمة بمقياس الكرم والضيافة.

تستمر تلك المشاهد التي حرم منها العراقيون لسنوات عديدة بسبب سياسات النظام السابق، وعادت للظهور مرة اخرى قبل نحو عشرين عاما، على طول الطريق وحتى الوصول لمرقد الإمام الكاظم الذي يضم ايضا ضريح نجله محمد الجواد (عليهما السلام)، في خدمة يقودها المواطنون من جهودهم واموالهم الخاصة وليس للدولة او الحكومات غير تامين الحماية من خلال الخطط المحكمة وانتشار عناصر القوات الامنية على شكل نقاط تفتيش او دوريات ثابتة ومتحركة، وهي جهود لا يمكن انكارها، إضافة لتسخير الجهد الخدمي والصحي الذي عادت ماتجده بالقرب من المواكب، وكأن ما تراه لوحة فنية رسمت بريشة فنان ماهر فالجميع يتقن واجباته وينفذها من دون ملل او شكوى، فرغم الخدمات التي تستمر لبعض الايام، ترى نشاطهم بتجدد بين ساعة واخرى، لكن اكثر ما يؤشر في “الزيارة الرجبية” كما تسمى، التنظيم الذي وصل هذه المرة لنشر الرايات وترتيبها بطريقة تختلف كثيرا عن السنوات السابقة التي كانت تسجل العديد من الملاحظات في اسلوب عرضها واماكن توزيعها، حتى انك تلاحظ اختفاء بعض اللافتات المكتوبة بعبارات يصنفها البعض بخانة “المستفزة” للاخرين او نوع من التضييق على الحريات، وهو ما يعكس حجم الاستفادة من “الهفوات” في المناسبات السابقة.

صحيح أن الجهات المسؤولة نجحت في تجاوز بعض أخطاء التنظيم خلال الزيارات السابقة ومنها مشكلة قطع الطرق التي تراجعت بشكل كبير قياسا بالسنوات الماضية، واستيعاب الاعداد الكبيرة للزائرين داخل مدينة الكاظمية والانسيابية الواضحة في اختيار نقاط الدخول والخروج، لكن ماحصل لا يعفيها من مسؤولية استمرار “الفوضى” بطريقة تفويج الزائرين لمناطقهم، وخاصة حينما تعلم بان الزائر العائد عليه قطع مسافة تتجاوز الثلاثة كيلومترات قبل الوصول لاقرب وسيلة نقل، والتي اقتصرت على سيارات الحمل (لوريات) وحافلات تابعة لوزارة النقل يتقاتل عليها الزائرون للحصول على فرصة للوقوف في الممرات، لغياب امكانية الجلوس على مقاعدها بسبب الزخم الكبير والارباك الذي يجبرك على دفع (500) دينار لتحضى بمكرمة التوصيل بباص حكومي من المفترض ان يكون مجانا بهكذا مناسبات.

الخلاصة:.. ان الاجواء الروحانية التي سجلتها مسيرتنا منذ اللحظات الأؤول للانطلاق وحتى المشهد الرئيسي عند ضريح الإمام موسى بن جعفر والاعداد المليونية المتجمعة على بوابته، لم تغير حلاوتها مرارة العودة وفوضتها، انما عكست صورة واقعية عن امكانية الاستفادة من جهود “عباد الله المساكين” لتحديد “الاخطاء” ونقاط الضعف التي يجب تجاوزها بتحركات حكومية تمنع تكرارها مستقبلا، كما قدمت خريطة مناسبة لتباين المستوى المعيشي للمواطنين وكيفية التعامل معها، لتكون خاتمتها برسالة تحذيرية عن امكانية قيام ثورة شعبية ضد الظلم في حال توفرت الظروف المناسبة… اخيرا… السؤال الذي لابد منه… هل ستستوعب السلطة من دروس الزيارات المليونية؟…