الليل في مدينتي الموصل يكتسي هدوءاً وسكينة، حيث يخيم الظلام في انتظار ساعات الضوء الأولى عند قدوم الفجر. الأجساد المرهقة من عناء النهار وسهر منتصف الليل تستسلم إلى الفراش، مترقبةً بزوغ شمس يوم جديد. إنه يوم الخميس، اليوم المميز لدى العراقيين، كونه نهاية الأسبوع وبداية لقاءات العوائل وسهراتها المليئة بالود والعشاء المميز.
الهدوء يعم المكان، والشوارع شبه خالية من المارة، وكأنك تعيش في عالم آخر بعيد عن صخب السيارات وضوضاء النهار وازدحام الشوارع. ما أجمل الليل في مدينتي الموصل الحدباء، وما أروع طرقاتها حين تخلو من الزحام، فتبدو كالأزهار الربيعية المتفتحة، تنتظر أن تجمع قطرات الندى بين أوراقها وأغصانها.
الموصل، مدينة أم الربيعين، تعيش الآن ربيعها الثاني مع حلول فصل الخريف. أجواؤها تغيّرت وابتعدت عن حر الصيف اللاهب، فهي مدينة مميزة بربيعين في كل عام: ربيع في بدايته وربيع في نهايته. تنام مطمئنة على ضفاف دجلة، وجسورها الستة شبه خالية، في انتظار يوم جديد لتخاطب العابرين عليها:
”صباح الخير… صباح الياسمين… صباح النوارس التي تبدأ يومها مع شروق الشمس.”
وفي قلب الموصل، تتعانق مآذن المساجد مع أجراس الكنائس، لترسم لوحةً فريدة من التعايش والمحبة. فجامع النوري الكبير بمئذنته الحدباء التي صارت رمزاً للمدينة، يروي حكايات العصور الإسلامية المشرقة، فيما تقف كنيسة الطاهرة والكنائس الاخرى شامخات بشموخ الإيمان، تحكيان قصة المسيحيين الذين عاشوا جنباً إلى جنب مع إخوانهم المسلمين على مرّ القرون.
هنا، في الموصل، لم تكن المآذن والأجراس متنافرة، بل كانت نغماً واحداً يشدو بالسلام والسكينة. في شوارعها القديمة تسمع صوت المؤذن يرتفع من جامع قديم، يتبعه مباشرة صوت أجراس كنيسة قريبة، وكأنها رسالة سماوية بأن هذه الأرض وُجدت لتجمع ولا تُفرق، لتبني ولا تهدم.
الموصل مدينة جمعت الأديان والمذاهب كما تجمع الأم أبناءها، فكانت بحق عاصمةً للروح، ومهداً للحضارة، وجسراً للتواصل بين الشرق والغرب.
ما أجملكِ يا حدباء، وأنتِ ترتدين كل يوم حُلّة جديدة. وما أروع أسواقك الشعبية القديمة التي تضج بالحياة، إلى جانب المولات الحديثة التي تعكس تطور المدينة. في “سوق الميدان” تتجمع الناس، حيث يجدون كل الأكلات الشعبية التي تعكس تراث الموصل الأصيل. وليس بعيداً عن هناك، تصادف بيوتاً تراثية تعيدك إلى الماضي الجميل بما تحويه من تحف وأنتيكات نادرة.
أيتها المدينة العريقة… مدينة الأنبياء والأولياء، ومدينة الأدباء والشعراء. لقد تعلقنا بك حباً، وازداد هذا الحب جمالاً يوماً بعد يوم. يا عذراء دجلة وماؤه العذب، يا مدينة تتزين على مدار العام باللون الأخضر من غاباتك النضرة وهوائك النقي، البعيد عن ضجيج المصانع وتلوثها… ما أجملكِ يا موصل الحب والجمال!
واخيراً ألا يحق لقلمي أن يتفاخر بمدينته الجميلة؟
انت الموصل… ستبقين دائماً زهرة العراق وعروس دجلة.