18 ديسمبر، 2024 8:51 م

خرجت من الدار صباح يوم الخميس . ولهذا اليوم في الاسبوع وقع خاص على نفسي, حيث اشعر بنمل السعادة يدب في جسدي وروحي .. ربما لأنه اخر يوم في اسبوع العمل تليه الجمعة وفيها اترك جسدي يحتضنه الفراش , مسترخيا محررا من النهوض الصباحي الباكر الذي يفقدني الشعور بالحرية .. هكذا انا كسول وأحب النوم .. لم استطع تبين الصباح فالسماء ملبدة بالغيوم التي تنثُّ رذاذ المطر وكأنها انفاس البحر المتعب .. لم ينقطع المطر طوال الليل حتى زرع الارض بُركا مائية كأنها قطرات دموع على وجه عروس او كتلك المادة اللامعة التي تضعها النسوة للزينة .. اصبح شارعنا نهرا وهو ممتلئ بالمياه حتى الرصيف .. نظرت الى ساعتي النسائية الصغيرة فوجدتها تشير الى السادسة وخمس دقائق .. ركبت الرصيف واطلقت ساقيّ نحو ” المسطر ” موقف العمال وهناك في تلك المقهى الشعبي دسست جسدي وتناولت فطورا ثلاثة (اسياخ) من (التكة) كما هي العادة .. وقبل ان اخرج للعمل عَلَيّ ان اخبركم مختصرا لسيرتي الذاتية : أدعى حسين مرعي زياد . اعمل بناءاً وأجري اليومي خمسة وعشرون ديناراً عراقيا .. اما عمري فمن المستحيل تحديده بالضبط فأنا ولدت كما تقول أمي في عام الفيل , طبعا ليس فيل ابرهة الحبشي .. بل الفيل الذي احضره العجم ذات يوم الى قرية أمي . لا احد يستطيع ان يطابق عام الفيل هذا مع اي عام ميلادي او هجري .. ولكن ليس مهما هذا الامر لأنني عندما جئت الى مديرية النفوس كي احصل على شهادة ميلاد ,  قدّر عمري موظفُ السجل المدني بـ 18 عاما , اما لماذا 18 عاما فذلك حتى ادخل الجيش واشترك في الحرب التي لمّا تزل تطحن الآلاف في رُحاها .. ربما كان عمري اقل بكثير مما قدرني الموظف او ربما اكثر ولكنه وضعه هكذا كي يدفع بي الى الحرب اولا  او ربما ليجنبني عقوبة التخلف عن خدمة علم الزعيم .. عفوا .. عفوا .. لا ادري لماذا انساق وراء الحديث عن الحرب وأنسى أني أكتب لكم, وعليّ ان ابلغكم المهم فقط من حياتي .
كان أبي وأمي قد ماتا منذ زمن بعيد . وليس لي من عائلة غير شقيقة متزوجة من رجل غريب ولكنه يقيم قريبا من داري . لم تكن علاقتي به قوية لانه وشقيقتي مؤمنان وشديدا الالتزام بالعبادات والطقوس الدينية .. اما انا فالكل يعتقد انني رجل ملحد, حتى اصدقائي الذين كانوا معي ايام حرب الخليج الاولى . بعد ان هُزم زعيمنا فرض عليه المنتصر ان يسرحنا من الجيش نكاية به  فعمد الزعيم الى ان يشفي غله فينا حين اطلقنا الى الشوارع حفاة عراة عاطلين عن العمل في مدينة تتضور من الجوع والحاجة الى  الأعمال .. مع كل هذا استطعت الحصول على عمل في مشروع غير حكومي بعد ان تشفع وتوسط لي رجل عند رب العمل الذي يُعد من رجال الاله مردوخ . صرت ادخر اجار ايام اسبوع العمل لمساء يوم الخميس , اذ أذهب الى خمارة ادمنتها قبل ان ادمن الخمر , وهناك امارس طقوس الحرية المطلقة حين تنقطع صلتي بالعالم حتى وانا ارافق احدى المومسات الى بيتي فلا اكاد اعيها اذ تصبح امامي مثل الكأس أتجرعها لأزداد ابتعادا عن الواقع .. لم تربطني اية علاقة مع اية امرأة حتى أمي لم تكن علاقتي بها الا بابا للتقريع والخلاف , ولا اذكر من حديثها الا ذلك اللوم والتحذير والحديث الذي تكرره دائما وهي تقول (انت اشبه الناس بخالك اياد ولكنه كان كريما جدا) ثم تذكر حادثة اعطى فيها خالي هذا كل ما يملك الى امرأة متسولة دخلت عليهم ذات يوم مقهى بغدادي . خالي اياد لم يكن مثل ابي فأبي رجل تقي كريم لا يبات الدينار في بيته ولا يسبقه احد الى الجامع .. لذلك كانت امي تقدسه … اللعنة , اللعنة. لقد تأخرت عن العمل .. اخترت ثلاثة عمال وخرجنا معا . كان العمل صعبا ومربكا من اثر الامطار الغزيرة وهذا النث المستمر من الغيوم والريح الباردة ثم ان الماء الذي نعمل فيه يقطع الأصابع كما تقطعها السكين ألما . مع كل هذه المصاعب أتممت عملي بشكل آلي وكل ما كان يشغلني ويسكن جمجمتي هو الخمرة  والمومس التي سوف ترافقني الى الفراش واقضي حُثالة الليل معها . اليوم كنت صامتا ولم اتكلم وامزح مع العمال كما هي عادتي . كان ذلك لشدة انشغالي بما ستكون عليه هذه الليلة .. لم اكن هذا اليوم الرجل المرح, خفيف الدم والظل, كثير المزاح, كما يصفني معارفي واصدقائي .. تمنيت ان يكون هذا الجو الماطر البارد العاصف في يوم الجمعة حتى لا اراه,  فيوم الجمعة يوم استرخاء ولا أخرج من الدار بل أعود الى الفراش وأنام بعد ان اطلق المومس وادفع لها أجرها .
انتهى عمل يوم الخميس ودفعت للعمال الذين معي اجورهم ووضعت اجري في جيبي وعدت الى داري . تحممت وغيرت ملابس العمل بملابس نظيفة مُعدة خصيصا لمساء الخميس وحينها راودتني فكرة التوفير والادخار لا من اجل التوفير او الادخار وحسب بل من اجل شراء سيارة تقلني انا ومتعي الى اماكن تزيدني متعا . لم تبارحني الفكرة حتى خرجت من الدار… وانا اجمع واطرح واقسم في اجري وأعد الاشهر والسنين مراقبا المبلغ وهو ينموا . لم يخطر ببالي مدى قدرتي على ترك عادتي التي تعودتها للحصول على المتعة . اعادني الى الواقع تيار بارد من الريح وانا خارج الدار وعلى بعد خطوات قليلة رأيت خمسة اطفال نصف عراة ومعهم امرأة اسوأ حالا منهم.. ترفع يدها التي تترجف من البرد متسولة من المارة بينما البرد حاصر صوتها المبحوح .. فشققه داخل حنجرتها .. لقد شاهدت الكثير مثلها ولكن لم أتأثر بهم وأتعاطف معهم  بل, بلغ بي الصلف ذات مرة ان خطفت بعض ما استجداه متسول أعور تعبيرا عن كرهي لهم وانزعاجي منهم او ربما لأسباب لا ادركها, ولكني هذه المرة لمحت في وجه هذه المرأة ملامح أمي .. او هكذا احسست عند التدقيق في ملامحها.. وقفت صامتا امامها وانا ابحلق في وجهها مأخوذا بخيال يمر على خاطري.. ارى فيه امي وهي تعطي طعامها للقطة وتبقى هي تعاني الجوع والحّ عليّ حديثها عن خالي وأنه اكرم المتسول كل ما عنده وظل صوت أمي يكرر هذا الحديث.حتى شعرت بيدي تتحرك رغما عني وتدخل جيبي ثم تحمل الـ 120 دينارا وتضعها في يد المرأة المتسولة.
لا شك ان المرأة اعتقدت انني سكرانا.. وبينما انا اعود الى الدار مسرعا رأيت المرأة تترك المكان اسرع مني.. اظنها خائفة بأن اعود واسترجع المبلغ منها بينما كنت انا خائفا من هذا ايضا .. وصلت الدار مرتبكا فأسرعت واخرجت سجادة أمي المتروكة فوق – الدولاب –  ونفضت عنها غبار السنين.. ثم توضأت وصليت وشرعت اقرأ آيات من القرآن الذي اخرجته من صندوقه الصغير الذي وضعته امي فيه قبل وفاتها بيوم واحد .. انتابني شعور غريب شعرت اني مأخوذ مأسور ومقيد بأحاسيس دينية لم اعرفها من قبل.. وبقيت اقرأ القرآن حتى الساعة التاسعة ثم وجدتني راغبا في صلة رحمي حيث سعيت الى دار شقيقتي زائرا ومتفقداً لها ولأطفالها ولزوجها وانا الذي لم ادخل دارها منذ خمس سنوات .. قضيت تلك الليلة رجلا صالحا بعيدا عن  الشيطان والرغبات قريبا من الله .. ونهضت صباح الجمعة وذهبت الى الجامع أصلي الفجر ولأول مرة ارى صباح الجمعة منذ سنين.
مر يوم الجمعة يوما مفعما بالأحاديث الودية والاختلاط مع ابناء وأهل محلتنا في الشارع والمقهى .. ثم صليت الظهر في الجامع ايضا (صلاة الجمعة) فانقلبت المتعة المطلقة الى عبادة مطلقة في هذا اليوم وانقلب النوم الى يقظة ونشاط حتى شرع اسبوع العمل بالبدء وكما هو كل اسبوع اوفر عشرين دينارا من اجري واصرف خمسة دنانير بقيت هكذا حتى الخميس, ساكنا اتجنب التفكير في مساء الخميس خوفا من اتخاذ قرار ما , فأنا أتأرجح بين الرغبة والشهوة من جهة وبين الانعتاق منهما من جهة اخرى .. في الساعات الأخيرة من يوم الخميس عاد اليّ احساسي القديم بقوة , حتى أنني احتقرت نفسي واسبوعي المنصرم واصبح الدين عندي خرافة يؤمن بها المغفلون  فقط .. هكذا اطبق عليّ هذا الشعور حتى سد كل المنافذ والطرق واستعبدني عند المغرب فأخذني الى الخمارة بدل الجامع .. على باب الخمارة رأيت ابليس يهزأ مني ساخراً مما اغضبني ودفعني الى ان اعطي كل ما عندي من النقود الى المتسول (فرهود) ثم انطلقت عائدا الى البيت وتركت فرهود وحده , فهو مشلول الساقين منذ بداية الحرب الاولى .. تركت فرهود مع آلامه وقلقه وخوفه وشرعت قدماي تلتهم الرصيف بينما عقلي ومشاعري وافكاري في صراع مرير ومعركة تبدو انها الأخيرة .. شرعت اشعر بالندم والخيبة والاحتقار لنفسي وفكري .. احسست اني مغفل تافه احمق .. فآثرت عند وصولي الدار ان انام خلاصا من هذا الصراع.. ولكني لم استطع فطلبت لنفسي سلوانا ولم اجده الا بالذهاب الى دار شقيقتي علّ الأطفال ببراءتهم ولطفهم يساعدوني على الخروج من هذا الضيق النفسي .. وجدت الدار مغلقة ولم اجد غير القفز من على السور بُداً للدخول..  لم اجد احدا داخل الدار.. ولكن القفز من على السور اورثني الشعور والرغبة بالسرقة.. أنها دار شقيقتي.. هكذا صرخت بنفسي ولكن لم استطع الرجوع الى ذاتي الحقيقية.. حطمت الصندوق واخذت منه نقودا تكفي لسهرة هذه الليلة.. كأي خميس من قبل .. في الحانة وعلى نفس الطاولة التي جلست عليها رأيت فرهود سكرانا وقد ظهر عليه البذخ من صرف مال حلال اعطيته انا ايّاه  بينما اجلس انا الى جانبه اتناول الحرام بمال حرام . على باب الحانة وجدتها امرأة بيضاء طويلة فمها شهواني ولكن عينيها غائرتان في محجريهما.. وقفت امامها دقائق  أحدق فيها . رأيتُ زوجها الذي زاره صاروخ قاذفة فاستقر في صدره ليخرجها هي من ذلك الصدر للأبد .. كان هذا اليوم يدعى شيخ الحواسم في الحرب الاولى والأخيرة. التي انهت سلالة حروب نيرون وضيعت التاج والعرش وهذا السواد الأعمى .