23 ديسمبر، 2024 10:50 ص

ليلة الخلفاء ليلة قتل الإمام موسى الكاظم”ع”

ليلة الخلفاء ليلة قتل الإمام موسى الكاظم”ع”

لما فجع العالم الشيعي بوفاة زعيمه الروحي العظيم الإمام الصادق “ع” رجع من بعده الى ولده الامام موسى “ع”، فقد بعثت جميع الاقطار التي تدين بالامامة وفودها إلى يثرب، فالتقت بالامام موسى الكاظم” ع”وآمنت بامامته وعقدت له الولاء والطاعة فقد وجدت فيه كل ما هو ماثل في أبيه من العلم والايمان والتقوى والصلاح، ومن الصفات الرفيعة التي لا توجد إلا عند من عصمه الله من الزلل، وطهره من الرجس، وأختاره لارشاد عباده الى سواء السبيل.
جلس “هارون اللارشيد” على اريكة الخلافة الإسلامية العظمى وهو السيد المطلق والحاكم المطاع قد استولى على جميع امكانيات الدولة ومقدرات المجتمع يهب لمن يشاء ويمنع عمن يشاء، تقمص الخلافة وهو في شرخ الشباب وعنفوانه، جاء اليه الملك عفواً بعد مؤامرة خطيرة اشتركت في تدبيرها أمه “الخيزران” و “يحيى البرمكي” فدبرا أمر اغتيال الخليفة “موسى الهادي” أخو “هارون”.

نجحا في وضع ذلك المخطط والقضاء عليه بسرعة هائلة لم يطلع عليها أي أحد من أعضاء البلاط حتى هارون لم يعلم بذلك فقد كان معتقلا قد خفيت عليه جميع الامور، وبعد تنفيذ المؤامرة والقضاء على الهادي وتركه جثة هامدة في قصره أسرع يحيى الى السجن فأقبل نحو الرشيد وكان نائماً فأيقضه فاستفاق مرعوباً فقال له يحيى: (قم يا أمير المؤمنين).
فنهره الرشيد وعليه آثار الغضب قائلاً له:( كم تروعني اعجاباً منك بخلافتي وأنت تعلم حالي عند هذا الرجل فأن بلغه هذا فما يكون أمري عنده)؟ فابتسم له يحيى وقال له:( لقد مات الهادي وهذا خاتمه، وبالباب وزيره الحراني).
نهض الرشيد وقد استولى عليه السرور فاتجه من فوره الى القصر الذي سجيت فيه جثة أخيه، فاطلع على الأمر وأقام ليلته هناك وكانت ليلة تأريخية حفلت بأحداث خطيرة فقد خرج هارون فيها من سجنه، وبويع له بالخلافة، وبُشر بغلام من جاريته الفارسية- مراجل- فسماه عبدالله وهو الذي عرف بالمأمون، وقالوا في تلك الليلة “إنها ليلة الخلفاء” مات فيها خليفة وبويع خليفة، وولد خليفة.
عند انبلاج الصبح قام هارون فصلى على جثمان أخيه ودفنه في بستان قصره، و توافدت وجوه بغداد وشخصياتها، وغص القصر الأبيض بجماهير الناس على اختلاف طبقاتهم، وبعد أن ألقى الكاتب يوسف بن القاسم خطابه، دعا الناس إلى مبايعة هارون، فبادر الناس الى البيعة واعلان الرضا به وتم كل شيء في القصر الأبيص.
بعدها توجه هارون فوراً الى بغداد عاصمته ولما قرب منها استقبلته الجماهير بالهتافات وعلت زغاريد النساء من شرفات القصور، بعد ذلك عقد عقد اجتماعاً حضرته الساسة وكبار الشخصيات فاستدعى يحيى البرمكي فلما مثل أمامه قلده منصب رئاسة الوزراء وأعطاه الخاتم وقال له:
( يا أبتي أنت أجلستني هذا المجلس ببركة رأيك وحسن تدبيرك، وقد قلدتك أمر الرعية، وأخرجته من عنقي إليك فاحكم بما ترى، واستعمل من شئت، وأعزل من رأيت، فأني غير ناظر معك في شيء) وتناول يحيى خاتم الوزارة واسندت اليه جميع السلطات التنفيذية والإدارية، وفوضت اليه مقدرات الدولة من دون أن يستشير أو يراجع أحداً فيما يعمله، وانصرف هارون الى التلذذ بجميع متع الحياة من العزف والغناء والتندر بمجالسة الظرفاء.
من أهم الأسباب التي دعت هارون الى اعتقال الإمام موسى بن جعفر “ع” وحبسه ومن ثم اغتياله بالسم، هو الوشاية به من قبل يحيى البرمكي، فقد أوغر صدر هارون وأثار كوامن حقده على الإمام، فقد قال له: أنه يطالب بالخلافة، وتجبى اليه الأموال، والسبب الذي دفع يحيى البرمكي الى الوشاية، هو أن هارون اللارشيد قد جعل ولي عهده “محمد بن زبيدة” عند جعفر بن محمد بن الأشعث، فساء ذلك يحيى وأحاطت به هواجس مريرة، وخاف أن تنقضي دولته ودولة ولده إذا أفضى الأمر الى محمد، وأن زمام الدولة سيكون بيد جعفر، وكان يحيى قد عرف ميوله واتجاهه نحو العلويين وانه يذهب الى إمامة موسى “ع” فسعى للإطاحة بجعفر وزوال نعمته، والوشاية بالإمام موسى “ع” بكافة السبل.
صدر الأمر من “هارون السفيه”بالقاء القبض على الإمام، فالقت الشرطة عليه القبض وهو قائم يصلي لربه عند رأس جده النبي” ص”فقطعوا عليه صلاته ولم يمهلوه من أتمامها، ولم يحترم هارون قداسة القبر، فهتك حرمته، ولم يحترم الصلاة التي هي أقدس عبادة في الإسلام، ولما خاف هارون من وقوع الفتنة وحدوث الاضطراب، أمر بتهيأة قبتين فأوعز بحمل إحديهما الكوفة والأخرى الى البصرة ليوهم أمر الامام ويخفي عليهم خبر اعتقاله بأي مكان، وكان الإمام في القبة التي اتجهت إلى البصرة، فحبسه عند عيسى بن أبي جعفر.
بعد مضي مدة من الزمن، وصلت أوامر هارون الى عيسى بن أبي جعفر بأغتيال الإمام، فأعتذر من تنفيذ الأمر، فأمره بحمله الى بغداد، ولما وصل الامام بغداد أمر هارون بأعتقاله عند الفضل بن الربيع وحبسه في بيته، وما زال الإمام “ع” ينقل من سجن الى سجن حتى أنتهى به المطاف إلى سجن الوغد الأثيم السندي بن شاهك، فقد جهد في ارهاقه وتنكيله، وبالغ في أذاه، والتضييق عليه في مأكله ومشربه، وتكبيله بالقيود، وما رآه إلا سبه وشتمه، وأمر هارون جلاده السندي أن يضييق عليه، وأن يقيده بثلاثين رطلا من الحديد، ويقفل الباب في وجهه، ولا يدعه يخرج إلا للوضوء.
لقد عانى الامام أقسى الوان الخطوب والتنكيل، فتكبيل بالقيود، وتضييق شديد، وأذى مرهق، وبعد ما صب عليه هارون السفيه جميع النكبات الموجعة دس إليه سماً فاتكاً، فقضى عليه، ومضى لربه شهيداً سعيداً.
بقى الامام ثلاثة أيام لم يواري جثمانه المقدس، فتارة موضوع في قاعة السجن قد أجرت عليه الشرطة التحقيق في حادثة وفاته، وأخرى ملقى على جسر الرصافة تتفرج عليه المارة، كل ذلك للاستهانة به، والتوهين بمركزه، والحط من كرامته، والتشهير به، لقد ملئ هارون قلوب الشيعة بالحقد والحنق، وتركهم يرددون ذلك الأعتداء الصارخ على كرامة إمامهم في جميع مراحل التاريخ.

اقول: من نتائج وآثار ليلة الخلفاء أنها جاءت بهارون خليفة، وبيحيى البرمكي رئيساً للوزراء، فالأول أمر بقتل الإمام موسى “عليه السلام”، والثاني وشى به.
________________________________________

تنويه: ما كتبته في هذا المقال في الأعم الأغلب منقول من كتاب ” حياة الإمام موسى بن جعفر ج 1وج2″ للمحقق الشيخ باقر شريف القرشي “طاب ثراه”، والذي أعتمد المؤلف فيه على عشرات المصادر التأريخية من السنة والشيعة.