23 ديسمبر، 2024 11:16 ص

ليس لدى الطائفيين من يٌحاورهم

ليس لدى الطائفيين من يٌحاورهم

جُبل الإنسان على حب المعرفة وحب الاستطلاع والاكتشاف, وسعى في البرية، وهادها وجبالها سهولها ووديانها، جاب فيافيها وقفارها. ارتوى من أنهارها وعانى الظمأ من صحاريها. لم يثنه شيء ولم توقفه البرية من هول مافيها من أخطار بل تمادى في سبر أغوارها وبحارها ووصل الى عمق مروجها, وابتكر وسائل الغوص ليعرف مافيها من عوالم، واكتشف مخلوقات لا حصر لها في أعماق البحار, بعد أن ساحَ في مجاهل الغابات القصية, ولم يثنه في نيل مرادهه أمر إلا لكي يعرف حقيقة ما حوله من عوالم تشاركه الحياة.

وخلص إلى أن ثلاثة أرباع الأرض هي من الماء, وأن مايشغله من أرض لا يتعدى ربعها, فأخذ منها أقصى مدى وكون عالمه الذي أسماه وطنا، فصار أوطانا وحدودا وعلّمها برايات, وسيجها بدعامات وراح يسعى الى رسم السيادات على الارض, ويٌوشم من فيها وما فيها, ليطلق أسماء على مواطنه ويسيّج عالمه, و ليتوقف عند عوالم نزوعه نحو الامتلاك بأقصى ما أوتي من قوة. فرض الهيمنه, بل راح يتسابق نحو مدّ بصره الى السماء, ليضع رايات على كواكب أخرى, وسمى نجوما وأفلاكاً بأسماء محددة, وهي التي لا سلطة له عليها سوى وقع بصره.

إنه تَسارعُ في الاستحواذ ورغبة في التملك, أفنى البشر عليها عمره, وتحقيقا لرغبات بدأت ولم تنته بل تمادى فيها البشر الى مدى لايمكن تصديقه، إلى الحد الذي جعل البشر يصنعون امتدادات لحواسهم الخمس, كي يروا أكثر ويتصنتوا أكثر ويتذوقوا بلذة مفرطة, ويستشعروا بمديات أوسع بل سعى الإنسان منذ أن أخضع الكوكب الى التبصر والاستشعار والتنبؤ بعالم خفي, يدور من حوله, علهّ يُدرك قدرات أخرى لم يرها من قبل, لكنه يستشعرها بمبتكرات تعطية قدرة لا يمتلكها جسده.

لقد نمّط البعض انتماءاته, وحدد مُدركاته بما لا يتعارض مع خصلةٍ جُبل الناس عليها, هي التوق الى المعرفة المطلقة بمحيطه, وخلاصة تجاربه, التي هي سلسة مراجعاته لخبرات سابقة هي منطلقات مراجعاته نحو خطوات أخرى تتعارض كل التعارض في رغبة التوقف, عند خبرة تاريخية واحدة, هي بالرجوع إليها والدوران حول الجماعة المرجعية الشريكة واعتبارها الأهم والأوفر حظا في الوجود, وسواها لا قيمة له, بل التعارض مع وجودها في اقتسام البيئة التي تشاركها الوجود والاحتراب معها رغبة في الاثبات -غير المبرر- بأنها الأصح والآخر الأقل صلاحا الى حد التعالي عليها وإلغاء وجودها تحت تفسيرات وأنماط سلوكية تتقاطع كل التقاطع مع مسعى مشاركة الإنسانية في سبر غور المجهول, برغبة الاكتشاف المعرفي الدائم, أن التقوقع في إطار فكر وتجربة الجماعة الواحدة يتعارض كل التعارض مع المدى الانساني الرحب, الذي يقُر أن البشر لم يصلوا بعد الى كل الحقيقة, لكنهم تاسوا بالمعرفة وتحولوا من آدميين الى إنسانيين بخبرة النمو العقلي والاكتشاف الأبدي, لكن سواهم من توقفوا ردحا حين ظنوا أن المعرفة تقف عند حدود الجماعة المعينة اّنى كانت, وبهذا تحدث التعارضات التي تَحد من الوصول الى الحقيقة.

إن ظاهرة التعارف بين الجماعات والأقوام هي ميزة إنسانية تجعلنا مميزين عن غيرنا من المخلوقات وهي متأصلة بالخلق معيار التفوق فيها الإيمان بالخالق وفي جهد التعارف لا التقاطع في الوجود وهذا العمق المعرفي يُعطي للانسان ميزةً لم تصلها المخلوقات الأخرى, المتقاتلة دوماً مع بعضها كي تحافظ على وجودها, لكنها أوجدت في الآخر, نمطاً من العيش في عوالم صغيرة, وممالك تفصلُ بين أجناسها بالفطرة، لكن الأمرَ مختلفُ عند الإنسان الذي صقلته المعرفة وجعلته أكثر استعداداً للعيش بشراكة الأوطان, ووضعت قوانين المشتركات والفضاءات, التي يستخدمها, ولم تلغ حرية وخصلة الاختلاف التي تُميز وعيه عن سواه, لضمان ديمومة تفكيره بالتجدد وتعددية التذوق والاختيار بل الانتقاء.

“التنميطيون” وحدهم يطالبون بإلغاء حرية الاختيار, ويستشعرون أن “الطواف” حول فكرة محددة هي الهدف المرتجى ويعدون سوى ذلك تعارضا مع مبررات وجودهم, ويعدون المدارات الأخرى التي وصلتها الخبرة البشرية نوعاً من النكوص نحو الذات الأولى التي تخطتها المعرقة الإنسانية والتي أخرجت العقل البشري نحو رحاب الاكتشاف الإنساني وتخطت رحلة الآدمية الأولى, بعيدا الى بيئات معرفية لا تجعل من مجموعة الطواف الأولى مرجعية أزلية تدعوها العودة الى المثابة الأولى لنمط التفكير, لا الى الفكر الإنساني بمدياته الرحبة, وقد خَلص الى التمازج مع الآخر ومعرفة أفضل من الانكفاء على المعرفة الاولى, او الخبرة التي لم تكتمل بعد, مهما طالت مدتها.

إن ما تنتجه البشرية اليوم من تراكم تكنولوجي مذهل يجعلنا متيقنين أن ثمة تخطيا للمكتشف أو المخترع نحو الآخر الأجود, فلا بقاء للأفكار الواحدة عند ناصية طريق واحد، ولم تعد السواقي الضيقة قادرة على حبس مد متلقيات الإبداع البشري، إنها إلغاءات يومية للمبتكر بعد أن وضع العلم ببساطة معادلة 🙁 صف دراسي – مختبر – مصنع) بكل ما يعني ذلك من تعديل متواصل للنظريات المحتكمة بالنتائج المختبرية وقانون الفروض وتحققها, لتعديل صناعة المنتج, ولم يعد الاعتماد على جنس واحد من البشر في هذه المعادلة, بل الى استمزاج الخبرات من شتى بقاع الأرض كي تُفعّل المراحل المذكورة, إلى عملية إنتاجية مجدية تغري المستهلك من وجهة نظر اقتصادية وتتخطى الاعتماد على “مصفوفة بشرية” من نمط واحد, فلا جدوى للمنفعة البشرية, حين تريد أن تكون لها قيمة تفاعلية مع العصر وإيقاعه, والركون الى الخبرة الواحدة بل عانت من تمادي بعض المجتمعات والكيانات الجالسة على كنوز من مواد أولية مصدرة لتعتاش, وهي تلوك نفسها أو تجترها في حالة من وهم زائف لا قيمة لعطاء مبني على المنتج الواحد بل تتعدى ذلك الى التمادي بإحاطة نفسها بوهم آخر هو عقدة التفوق المزعوم.

لقد خسرت بعض المجتمعات البشرية كثيرا من جهدها, وأكلت من جرف مجدها حين ركنت الى فكرة المفاضلة بين البشر، ولجأت الى خيار الصراع مع المجتمعات النظيرة معيارا لتفوقها وأضحت تنحو إليه للتعبير عن ذاتها، لتبت تفوقا وهميا في إطار منحى التجنيس، والتجنيس هنا نمط زائف من الفكر الذي يتعارض مع العلم ومنطق العصر والإنسانية كذلك, الذي بات فيه الإنسان قدرة وفكرة تساهم في خلق الوجود دون إلغاء للخصوصية حين تكون فاعلة لا مجرد ادعاءات أو وهم بالتفوق على الآخر.

لقد أضحى اولئك الذين يضعوننا في قالب “عقد تجنيسية”, سوف لن تعطيهم مبررا لفرض أتاوة تسّير الناس كما يحلوا لهم, الإنسانية تخطت قناعاتهم الى رحاب الفكر الحر الذي يسري في أثير مفتوح, والمعيار منتج صنعه إنسان لربما قد جاء من باحث من مومبي يدرس في كندا ويبيع براءة اختراعه في أمريكا أو اليابان , ليربح الملايين لقد سقطت أسيجة تملك البلدان والأفكار معا, وأضحت المثل والقيم مرتبطة بالانظمة الكفؤة التي ترسم سعادات الناس على وفق معيار الكفاءة الذي يُعين الناس على الانتاجية المقتدرة.

معادلة سوق الناس بالعصي لتسييرهم, أضحت لا تصلح حتى للدواب, التي تعلمت احترام مربيها في المحميات الطبيعية, بل تأنست مع اولئك الموظفين الذين يقدمون لها طعاما منتظما, ولم تعد البشرية تقبل أن يدور الثور في الساقية, كي يسقي الحقل بوجود “ماتور” صغير بإمكانه أن يصعد المياه الى أعلى, ولم تقبل منظمات حماية الحيوان, أن تمتهن “كرامة الثيران” بهذه الوظيفة المهينة لقدراتها ولم تعد منظمات حماية البيئة تسمح بقتل الفيلة والنمور وسواها، ليسلخ جلدها ويتحول الى مفارش يجلس عليها الأثرياء, ولم تعد النسوة يتباهين بعيون الثعالب وهي تتدلى من على أكتافهن لوجود من يقاضيهن في الحفلات العامة’بدعوى انتهاك حقوق الثعالب؟!
إنها معادلة جديدة لا ترحم “الطوافين” حول ذواتهم كي يمارسوا عُقد الأفضليات, وفرض الصحيح – كما يعتقدون- على الآخرين أو الإيحاء بأنهم يمتلكون كل الحقيقة أوهم المجموعة الناجية دون غيرها, من وجهة نظرهم في عالم أضحى شاشة وتتقاسم فيه البشرية الأدوار.

إن التجنيس الطائفي هو “تقزيم” لفكر المجموعة, حيث نبذته البشرية من زمان وهو “تقزيم” لوعي الناس وإمكانية إسهامهم في المنتج البشري وهو انغلاق يتعارض مع الفتوحات البشرية لمجاهل الأرض وسبر غور بحارها ومحيطاتها وهو رغبات من أفراد يصادرون وعي المجاميع كي يتسيدوا عليهم بعد أن أفلسوا من قدرة الإسهام في المنتج الدولي العام, فكرا وعلما وصناعة واقتصادا وتسّيدوا على الضعاف من الناس مستغلين حاجاتهم وجهلهم وأميتهم, الوعي اليوم لا يحتمل “التجنيس” والأحادية في التفكير أو ادعاء امتلاك الحقيقة واحتكارها, والدين أيضا لا يحتمل الانغلاق والشعوب تسعى للعيش في وضع آمن, وتعامل كفؤ مع المتغير الدولي وتبادل الخبرات لن يتم إلا من خلال التفاعل الإيجابي الذي يجعل من القوة عنصرا خادما للبشرية لا صادما لها .