قبل أن يشتط الخيالُ ببعض الطيبين المستعجلين، والذين قد يظنون بالكاتب ظن الجاهلية، ويتهمونه بأنه حريص على بقاء بشار في الحكم، وأنه يدافع عنه، ولا يريد له أن يزول! نقول: لا يوجد على وجه الأرض امرؤ واحد – سواءٌ كان سورياً أو غير سوري عربياً أو أعجمياً مسلماً أو غير مسلم – فيه مثقالُ ذرةٍ من ضميرٍ، أو خُلُقٍ، أو قِيًمٍ إنسانية، وشاهد جزءاً بسيطاً من المجازر – كيماوية أو براميل متفجرة أو سواها – خلال عشر السنوات والنصف الماضية، يَرضى، أو يقبل بقاء بشار في كرسي الحكم، ولو لثانية واحدة! فكيف بمن عايش هذه الأحداث دقيقة بدقيقة، وكتب مئات المقالات الصارخة، الداعية إلى استئصال شأفته، واقتلاعه مع زبانيته من جذورهم؟!
إننا ندركُ، ونعي، ونعلمُ علمَ اليقين، مقدارَ الألمِ، والحُزنِ الشديدين، ومقدارَ اللوعةِ، والحُرْقةِ الملتهبةِ، التي تعتصرُ في قلوبِ قومنا، ومقدارَ الغيظِ، والحَنَقِ الكبيرين، اللذين يكتنفان صدورهم من بشار وجنوده، ومقدارَ البُغضِ والكراهيةِ له، ومقدارَ اللهفةِ والرغبةِ الجامحتين اللتين تكتنفان جوانحهم، للتخلص منه، بأسرع ما يمكن، وبأي طريقة كانت.
الطبيبُ الحاذقُ لا يُخفي عن المريضِ حقيقةَ مرضهِ مهما كانَ خَطيراً
ولكن! بما أن الكاتبَ طبيبٌ وجراحٌ منذ نصف قرن، فمن واجبه الطبي، والأدبي، والإنساني، أن يعرض للمريض بكل صدقٍ، وأمانةٍ، وشفافيةٍ، حالته المرضية بكل تفاصيلها، وجزئياتها، مهما كانت خطيرة، وسيئة، ومهما كانت صادمة، ومزعجة. لا يداهنُ، ولا يجاملُ على حساب صحة المريض، ولا يًكذبُ عليه، ولا يُخفي عنه حقيقة التشخيص الصحيح لمرضه، بذريعة أن هذه الأخبار، سوف تُزعج المريضَ، وتُحزنه، وتسيئه. وفي الوقت نفسه يعرض عليه، الدواءَ الناجع، ويشجعه على تناوله، مهما كان مُراً كالعلقم، أو كان يتطلب بترَ أحد أعضائه، أو إجراء عمل جراحي، أو استئصال أي جزء من جسده.
ومن أجل ذلك! حينما يتحدث الكاتبُ في الشأن العام، يجب عليه أن ينهج نفس النهج الطبي في تشخيص الحالة العامة للناس، ويعرضها كما هي، دون تجميلٍ، ولا بًهرجةٍ، ولا تزيينٍ. وأن يكون أميناً وصادقاً في نقل الصورة كما تنقلها آلة التصوير بالضبط، دون الاهتمام إن كان هذا النقل، سيرضى عنه الناسُ، أو لا يَرضون، أو يَسخطون، أو يَغضبون، أو يَحْنَقون على الكاتب، أو يَسبون أو يَشتمون.
فالحقيقةُ! بطبيعتها دائماً على مدار التاريخ، مُرَةٌ كالعلقم، لا تُرضي أكثرَ الناس – إلا قليلاً منهم – وتُغضبهم، وتُزعجهم، وتُؤلمهم، وتُنَغِّص عليهم عيشهم، وتُكدر صفوَ حياتهم. ولكن لا بد للمصلحين الصادقين، والأطباء المخلصين، من الإصرار على إبرازها، بشكل واضحٍ، وجَلِيٍ، ليس فيها غمغمةٌ، ولا مجاملةٌ، ولا مداهنةٌ، ولا مسايرةٌ لأهواء العوام، والدهماءِ، والرُّعَاعِ الذين لا يكادون يفقهون إلا قليلاً.
الساحة السورية المعارضة تخلو من قائدٍ بديلٍ لبشار
ومن هذا المنطلق! إذا ألقينا نظرة متفحصة على أحوال المعترضينَ، والمعارضينَ، والثائرينَ، على الساحة السورية، نجد أنها تُؤلمُ الصديقَ وتُحزنه، وتُسعدُ العدوَ وتُسره أيما سرور. وقد كانت روسيا القيصرية وغيرها من المهيمنين على الشأن السوري، يصرحون منذ بداية الثورة إلى ما يسمى المعارضة قبل تشكيل ما يسمى الائتلاف، وبعد تشكيله، بأنه ليس لديهم بديلٌ لبشار، وهم فعلاً صادقون، وإن كانوا هم الكاذبين.
وبالرغم من أن بشارَ! ليس له شخصية كريزمية – كما كانت شخصية عبد الناصر مثلاً – ذات جاذبية استثنائية، ولا شخصية ملهمة، أو مبدعة، ولا شخصية ذات استقلالية في الرأي، ولا ذات سيادة في الهيمنة والسيطرة على مقاليد الأمور في سورية، بل هو أقرب إلى الدمية، التي تُحركها من وراء ستار، جهات داخلية وخارجية عديدة.
والذين بيدهم زمام السيطرة على سورية، جعلوه كرمز أو دريئة ليلتف حوله مؤيدوه، وزبانيته، للمحافظة على نظام الحكم بيده ظاهرياً، وبيدهم باطنياً؛ لكي لا تنجحَ الثورةُ، بأي شكل من الأشكال، ولا يحصلَ الشعبُ على حريته، في اختيار من يحكمه؛ لما يشكلُ نجاحها من تحطيم، وتدمير للمشروع الصهيوصليبي الحريص على بقاء الاحتلال الصهيوني في المنطقة العربية إلى ما شاء الله.
فبالرغم من شخصية بشار الهزيلة، الضعيفة، الواهنة! إلا أن الشخصيات المتواجدة في الطرف الثائر، لهي أضعف، وأوهن. وكلها – إلا قليلاً منها – لا يعرف إلا العربدة في الكلام، والجعجعة الفارغة، والهذيان في الخطاب، والثرثرة التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع، والانصياع والخضوع التام لأوامر الجهات الأجنبية التي أبرزتهم إلى الوجود، بعد أن كانوا لا شيء.
وبالرغم من أن الثورة السورية! تُعتبر أعظم ثورة في العصر الحديث؛ لما قدمت من ثمن غالٍ ونفيسٍ من الدماء الطاهرة، والأرواح النقية، وشردت الملايين من البشر، في أصقاع الأرض المترامية الأطراف، إلا أنها كانت تفتقر إلى القائد المؤمن، الصادق، المخلص، المحنك، الماهر، الداهية، ذي النفس الأبية، والروح الشامخة إلى المعالي، والتي لا تقبل الخضوع، ولا الخنوع لأي جهة مهما كانت الإغراءات كبيرة، وقادرة على توجيه المقاتلين والمجاهدين نحو الهدف المطلوب، ولو اعترضت الدنيا كلها عليه، وتشكلت عشرات الفصائل الخاضعة للأجنبي، والمعارضة له، فإنه يستطيع بحنكته، ودهائه، أن يحيدها ويقضي عليها قضاءً مبرماً.
لا نجاح للثورة بدون وجود قائد
وبما أنه معروف تاريخياً، وعلمياً، وعملياً، ومنطقياً، عبر تاريخ البشرية منذ ولادتها، أنه لا يمكن لأي ثورة ضد الطغيان والاستبداد، أن تنجح بدون وجود قائد يقودها، ويوجه مقاتليها. فلا بد من وجود قائد حكيم للثورة السورية أيضاً.
فالقائد للثورة، هو بمثابة الدماغ للإنسان، أو كالمحرك للسيارة، بدونه ستتعثر الثورة في سيرها، مهما قدمت من تضحيات كبيرة.
والتاريخ خير شاهد على ذلك، فالثورة البلشفية الشيوعية الحمراء، ما كانت لتنجح وتقضي على حكم القياصرة، لولا وجود لينين ثم ستالين. وكذلك الثورة الشيوعية الصينية، ما كان لها أن تنجح، لولا وجود ماوتسي تونغ. وكذلك الثورة الكوبية، حيث كان يقودها غيفارا ثم كاسترو، والفيتناميون ما كانوا لينتصروا على أمريكا، لولا وجود قائدهم هوشي منه.
ولكن الذي حصل للثورة السورية – مع كل أسف – أنها بعد أن وصلت إلى أوجها، وسيطرت على مساحات واسعة من سورية، تقدر بأكثر من 70% وكادت أن تسيطر على حلب، وكانت قريبة من دمشق، ومن قصر الحكم، إلا أن الأوامر الخارجية الأجنبية، جاءت للقادة الضعفاء، المهابيل، صغار الأحلام، المعينين من قبل تلك الجهات، للانسحاب من المناطق المحررة شيئاً فشيئاً، حتى انحصرت الفصائل المسلحة في إدلب فقط ، وبعض أجزاء من ريف حلب، وتفرق المقاتلون المخلصون، الصادقون الذين ليس لهم حيلة، ولا قدرة على مواجهة قادتهم المستسلمين للأجنبي، شذر مذر.
ولو كان يوجد لدى الثورة السورية قائد، أو حتى نصف قائد، يتمتع بالصفات المذكورة أعلاه، لما سمح لجنوده بالانسحاب من أي شبر تم السيطرة عليه، ولقاتل حتى النهاية.
ولكن قدر الله كان مفعولاً، وكان البلاء، والامتحان كبيراً لأهل سورية، ليغربلهم، ويصفيهم، وينقيهم من الأوساخ، والأدران، والأوشاب، كي يخرج جيلٌ مؤمنٌ، صادقٌ، يقاتل في سبيل الله بضراوة شديدة، لا يخشى لومة لائم.
السوريون لديهم إمكانياتٌ هائلةٌ إلا في القيادةِ
والعجيب والمدهش! أن قسماً غير قليل من السوريين، يتمتعون بكفاءات، وقدرات عالية، ويبدعون في مجالات الطب، والهندسة، والعلوم، والتجارة، ويتصفون بالنشاط، والحركة، والهمة العالية، في مجالات الحياة الدنيا أجمعها تقريباً، وأي بلدٍ يَحلون فيه، يحولونه إلى جناتٍ غناء، وروضاتٍ ذات بهجة، ويمدونه بملايين الدولارات، إلا إنهم – وللأسف العميق – فقراءُ، معدمون في مجال الفكر، والرأي، والسياسة، والقيادة، والريادة.
وبما أن هذا هو التوصيف الصحيح لواقع الثورة السورية، وبما أنه لا يوجد لدى الثوار حتى الآن، قائد بديل لبشار، وبما أنه لا يوجد لدينا مصانع لصنع القادة.
فالحل الوحيد والأوحد، هو تشكيل قيادة جماعية، تنبثق عن تشكيل كيان جديد، يختلف كل الاختلاف عن الكيانات الموجودة حالياً، والتي انتهت صلاحيتها، وأصبحت عبئاً على الثورة، بل ومدمرة ومخربة لها، وتقتات عليها.
والكيان الذي دعونا إليه، ولا نزال ندعو له، باسم (تجمعُ السوريينَ الأحرار) بالرغم من أنه قد يستغرق وقتاً طويلاً لتشكيله، إلا أنه هو الطريق الوحيد القادر، على انقاذ الثورة من سلبياتها، وتحقيق أهدافها في اقتلاع حكم بشار وزبانيته من جذورهم، وتحرير سورية من المحتلين.