نتكئ أنا وعائلتي الى أحلام العودة، من مطار العاصمة الهولندية أمستردام، ونشوة السعادة تعطر خواطرنا بنفحات من ريح الجنة وريحانها العبق، في سفرة عطلة العيد، بين باريس وامستردام، متجهين الى تركيا؛ كي نعود منها الى وطن، يغلق ذراعية متحرزا بالضد، من لهفة أبنائه.
في العاشرة من ليلة ١٦- 1٧ تموز الماضية، تزامن موعد عودتنا بالطيران التركي، مع اعلان الإنقلاب العسكري على حكومة اردوغان الاسلامية.
حطت الطائرة في الساعة 12,5 على ارض المطار، وكل شيء طبيعي.. نزلنا متأملين شاشة الرحلات، فإذا تشير الى تاخير والغاء الرحلات كافة؛ الامر الذي بعث على التساؤل.. متوجها الى أقرب الواقفين؛ فوجدته ايرانيا مسرورا، لاحت تباشير التشفي على ملامح وجهه، وهو يخبرني بزهو: “انقلاب عسكري على اردوغان”.
إنفجارات وعويل
شخصيا، لا يهمني من يحكم تركيا.. عسكر أم إسلاميون، لكن لا احب العسكر؛ حاملا عقدة العراق الذي فتحت عليه بوابات جهنم؛ جراء تهافت الجيش على السلطة؛ فهم سبب البلاء.. ما يهمني هم زوجة.. ام، وإبنتي.. شابة في ريعان مطلع العشرينيات من عمرها، لم تعش من الدنيا سوى دلال منير حداد، على مدى السنوات الأربع الاخيرة، وولد مسكين، في العاشرة، من مقبل عمره.
تناهت الى مسامعنا أصوات انفجارات قرب المطار، فتعالى عويل النساء وصياح الاطفال، وإهتزت الارض مائدة تحت أقدامنا.. إهتزت وربت، تخلخل ثبات الشجاعة، قلقا على العائلة؛ فثمة فرق بين خوف الرجال ورعدة الجبناء.
ركضت زوجتي وابنتي وعراقية تحمل طفلتها.. عرفت أنها طالبة.. تدرس مع زوجها في اسبانيا، قادمة الى الحلة؛ لقضاء العطلة بين أهلها!
المشكلة التي عقدت الموقف، تكمن في أن زوجها إصطحب طفلهما الآخر، مبتعدا قبل هبة الذعر التي تسببت الانفجارات بها، فطاش لبها هلعا عليهما.. إبنها محمد، بعمر ابني محمد الباقر.. صرخت باعلى صوتها: “وليدي حمودي” فابكت الجميع وقطعت انفاسنا، قلقا على زوجها وولدهما، ونحن نتخطى خوفنا.. نصبرها لحين عودتهما، بعد ساعات سالمين، بحمد الله؛ فالتكافل يصبح أخويا أثناء المحن.
حرب ولاءات
تجلت كينونة الموقف الوطني، بشكلة الإجتماعي؛ فإتضح أن المواطن التركي، يؤمن بالديمقراطية، وليس بشخص أردوغان، بل معظمهم مستفز من سياسته.. رافضا لها، لكن الشارع التركي، لم يشأ أن يحكمه العسكر، بالإنسلاخ من الشرعية الدستورية، إنتقالا الى الشرعية الثورية، من خلال الإنقلاب.. الشعب التركي قطع الطريق على طغاة الخاكي وفوهة البندقية؛ كي لا تجرهم الى الويلات التي جرتها انقلابات العسكر على العراق ومصر!
فالانفجارات كانت حصيلة مواجهات العسكر والموالين لاوردوغان، مع ميل شعبي لصالح الديمقراطية، المتمثلة بأردوغان، حتى لو تباينت رؤاهم مع سياسته؛ بإعتبار صناديق الاقتراع حكما فيصلا، بين تفاوت الآراء، فضلا عن إنضمام الشرطة الى الشعب، دعما للديمقراطية، وليس حبا بأردوغان، الذي لا يستسيغون حكمه.
لوعة العراق
أبرز ما لفت نظري، انفعالات القائمين على المطار من موظفين اتراك، قلقين على الوطن.. لا يعبأون بأي إنتماء سواه، تركوا المطار، وقد هرب الجميع، لم تبقَ الا قلة من البشر،…
إلتأم شملنا، إحتماء ببعض.. عائلتي والعائلة الحلاوية، آنفة الذكر، وكويتي وسعودي وكندي، إنتشلتهم طائرات، جاءت خصيصا لهم، من بلدانهم، بعد إتصال سريع من سفاراتهم في تركيا.
حين بقينا وحدنا وقد أهملتنا حكومتنا في لظى الجحيم، أدركت سر إنفصام عرى الوطنية لدى الفرد العراقي؛ إذ يشعر أنه وحده إزاء نداء تهديد مطلق يتربص به: “أنة الذيب وآكلهم.. لا أم لنا فتحمينا” بل لم يكتفِ العراق بخذلان أبنائه، وقت يحتاجونه، إنما غالبا ما ينكل بهم!
إتصلت بي النائبة السابقة عامرة البلداوي.. الله يحفظها، واخرون من وزارة النقل، لكن كل المهاتفات مع السفير العراقي لم تأتِ بفائدة، فمواطننا رخيص على المسؤولين، لهذا لم نلمس من السفير، أية مساعدة.. لم يبالِ بنا؛ إنما أهملنا نهبا للخوف في غربة، كان ينبغي ان يكون هو بيتنا واهلنا وعشيرتنا فيها.. وا خيبتاه.. كنا اكثر من ٣٠٠ عراقي فقط من بغداد، لم تعنَ بنا حكومتنا، من دون رعايا الدول الأخرى، التي بعثت طائرات، من أجل نفر ونفرين، إطمأن السفير عليهم بنفسه، بينما وطننا يتركنا مهملين وسفيرنا لا شأن له بنا.. هذا هو العراق.
والمصيبة ان السيد، في اليوم التالي، نشر فيديو يعرض انجازاته الوهمية، في مساعدة العراقيين.. إنهم ابطال من ورق…
بالمقابل السيدة البلداوي، اتصلت بوزارة النقل، والوزير وعد بارسال طيارة، لكنه لم يرسل ولا بايسكل، فيما اشكر السيد حيدر الدجيلي.. مدير التسويق في الشركة الوكيلة للطيران التركي، اثبت بانه عراقي اصيل، متواصلا معي في كل دقيقة، بشكل شخصي، وليس بتكليف حكومي.. نعم الاخ ونعم الصديق، أدى دورا لا ينسى.
الحكومات العراقية منذ تاسيس الدولة، في 23 آب 1921، أرخص ما في البلاد، هو الانسان، بل عرض الكويتي عليّ الذهاب معه.. انا وعائلتي، قائلا بانه سيكلم السفير الكويتي في انقرة بذلك، خاصة وأنني على معرفة شخصية بسعادته، إلا أنني شكرته، رابطا مصيري بابناء شعبي.
عدنا في اليوم التالي، وأنا ما أزال تحت قسم لن أحنث به: “لا ادخل تركيا بعد اليوم”! ولا اعرف، أعاتب من لتجاهل العراق أبناءه، يتلظون في جحيم لهب براكين العالم، المتفجرة من حولهم، لكنني أثناء الكتابة “حنثت” لأنني ملزم بالسفر الى تركية بواجب لا فكاك منه، ما جعلني أقسم حانثا، أحمل النقيضين، في قرار واحد.