إن وظيفة الإنسان في هذه الحياة الدنيا هي: تحقيق العبودية والدينونة لله تعالى كما أمر، وبالطريقة التي أمر بها، وحسب الضوابط والحدود التي وضعها، وأمر ألا يتجاوزها الناس وألا يتعدوها بأن يحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله ويعصوا الله فيما أمر ونهى ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ البقرة 229.
وليس على مزاج الإنسان وهواه، ولا حسب فهمه، وحسب رغبته، وشهواته.
فالله تعالى! حدد الغاية الأساسية من خلق العبيد كلهم – إنسهم وجنهم – فقال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾ الذاريات 56.
الهدف الأساسي من خلق العبيد
فالتذلل، والخضوع، والاستسلام للخالق، هو: هدف أساسي ورئيسي من خلق العبيد.. وفي تفسير الطبري يقول: (إلا ليقروا بالعبودة طوعا وكَرها).
وفي الوقت نفسه! ضمن الله تعالى للعبيد، بأنه من عمل منهم صالحاً، فسيجزيه خير الجزاء، وهو: الجنة وما أدراك ما الجنة..
ومن عمل سيئة ومخالفة لأمر الله، فسيكون قد جنى على نفسه، واستجلب سخط الله، وغضبه، وسيلقى جزاءه بالعدل المطلق الكامل، ولن يظلم الله أحداً من العبيد إطلاقاً ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيد﴾ فصلت 46.
المطلوب من الإنسان! أن يطيع الله ورسوله طاعة كاملة غير منقوصة، كما أمر الله تعالى ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ الأنفال 1.
ويبين سيد قطب رحمه الله ما هي متطلبات الإيمان بالله فيقول:
(والإيمان هو الإقرار لله – سبحانه – بهذه الخصائص. الألوهية، والملك، والسلطان . . . متفردا بها لا يشاركه فيها أحد. والإسلام هو الاستسلام والطاعة لمقتضيات هذه الخصائص. . هو إفراد الله – سبحانه – بالألوهية والربوبية والقوامة على الوجود كله – وحياة الناس ضمنا – والاعتراف بسلطانه الممثل في قدره؛ والممثل كذلك في شريعته. فمعنى الاستسلام لشريعة الله هو – قبل كل شيء – الاعتراف بألوهيته وربوبيته وقوامته وسلطانه.) في ظلال القرآن المائدة ص74.
وأن يتبع أحكامه كاملة في كل شؤون الحياة، ويسير على النهج الذي سار عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وألا يشذ خطوة واحدة، عما كانوا عليه، وألا يعصي الله ورسوله في أي أمر من أمور الحياة، وإلا فالعذاب الشديد يترصده ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ النساء 14.
ويعلق سيد قطب رحمه الله على هذه الآية فيقول: (تلك الفرائض، وتلك التشريعات، التي شرعها الله، مما يترتب على طاعة الله ورسوله فيها الجنة والخلود والفوز العظيم. كما يترتب على تعديها وعصيان الله ورسوله فيها النار والخلود والعذاب المهين.
(إن الأمر في هذا الدين – الإسلام – بل في دين الله كله منذ أن أرسل رسله للناس منذ فجر التاريخ. . إن الأمر في دين الله كله هو: لمن الألوهية في هذه الأرض? ولمن الربوبية على هؤلاء الناس?
(وعلى الإجابة عن هذا السؤال في صيغتيه هاتين، يترتب كل شيء في أمر هذا الدين. وكل شيء في أمر الناس أجمعين!
(لمن الألوهية? ولمن الربوبية?
(لله وحده – بلا شريك من خلقه – فهو الإيمان إذن، وهو الإسلام، وهو الدين.
(لشركاء من خلقه معه، أو لشركاء من خلقه دونه، فهو الشرك إذن أو الكفر المبين.
(وأما إن تكن الألوهية والربوبية لله وحده، فهي الدينونة من العباد لله وحده. وهي العبودية من الناس لله وحده. وهي الطاعة من البشر لله وحده، وهي الأتباع لمنهج الله وحده بلا شريك. . فالله وحده هو الذي يختار للناس منهج حياتهم. والله وحده هو الذي يسن للناس شرائعهم. والله وحده هو الذي يضع للناس موازينهم وقيمهم وأوضاع حياتهم وأنظمة مجتمعاتهم. . وليس لغيره – أفرادا أو جماعات – شيء من هذا الحق.
(وأما أن تكن الألوهية أو الربوبية لأحد من خلق الله – شركة مع الله أو أصالة من دونه ! – فهي الدينونة من العباد لغير الله. وهي العبودية من الناس لغير الله. وهي الطاعة من البشر لغير الله. وذلك بالاتباع للمناهج والأنظمة والشرائع والقيم والموازين، التي يضعها ناس من البشر.
(وهذه هي الحقيقة التي ينبغي أن يتبينها الذين ينسبون أنفسهم إلى الإسلام في هذه الأرض، ليروا أين هم من هذا الإسلام، وأين حياتهم من هذا الدين!) ظلال القرآن النساء ص48-49.
إذاً! الهدف الأساسي لخلق العبيد هو: الطاعة الكاملة المطلقة لله تعالى دون أي اعتراض أو تبرم أو تململ أو تضجر أو مجادلة أو مناقشة أو احتجاج وأي تصرف من هذه التصرفات يُخرج الإنسان من دائرة الإيمان ويقذفه إلى دائرة الكفر وقد حسم الله هذا الأمر بقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا﴾ الأحزاب 36.
تحذير شديد لمن يخالف أمر الله
وهذا تحذير شديد اللهجة من الله تعالى، لمن يخالف أمره، ويعصيه، ويتنكب الطريق القويم الذي رسمه للمؤمنين ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ النور 63.
فما ينبغي لمن آمن بالله واليوم وأعلن أنه مسلم، إلا أن يخضع ويذعن ويستسلم للأوامر الربانية بشكل كامل، ويستجيب لما يدعو إليه الله والرسول، فإن في هذه الاستجابة، حياة هنيئة سعيدة له في الدنيا، ومسرة وراحة أبدية في الآخرة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ الأنفال 24.
إذن يجب على الإنسان أن يبذل كل جهده، وكل عمله، للفوز بجنات النعيم الخالدة الدائمة، وأن يسعى سعياً حثيثاً لإنقاذ نفسه من النار، والنجاة من عذابها، فإذا تحقق له ذلك، وأدخل الجنة ذات النعيم الخالد، التي يصور جزءاً صغيراً منها الحديث الصحيح عن سهل بن سعد الساعدي (مَوْضِعُ سَوْطٍ في الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وما فِيهَا).. فقد ظفر، وفاز بالحسنى، والسعادة الأبدية الخالدة.. لأن الحياة الدنيا، ليست إلا متعة مؤقتة، زائلة، تغر الإنسان بمظاهرها الخداعة، كما قال تعالى: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ آل عمران 185.
تحقيق النصر ليس مطلوباً من الإنسان
أما تحقيق النصر على الأعداء، والفوز عليهم بالغلبة، والتمكين.. فهذا ليس هو الهدف المطلوب من الإنسان. لأن النصر من عند الله تعالى، كما قال: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ آل عمران 126. وليس بقدرة الإنسان تحقيقه، فهو فوق استطاعته.
وقد قرر الله تعالى، وقضى، ألا يكلف الإنسان فوق طاقته ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا﴾ البقرة 286.
ولكن في الوقت نفسه! وبالرغم من أن الناصر هو الله وحده لا أحد سواه، إلا أنه قرر، وقدر أن النصر يتنزل على العباد من خلال عملهم، وطاعتهم للمولى عز وجل ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ محمد 7.
وهكذا! نجد أن الهدف الكبير للناس في هذه الحياة الدنيا، هو: تحقيق مراد الله، وطاعته في السراء والضراء، والعمل على نصر دين الله، والانتصار في الامتحان، والابتلاء التي قدره الله على البشر ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا﴾ الملك 2. وحينئذ فقط يتفضل الله بكرمه، وجوده، بإنزال النصر عليهم.