على عكس رئيسي الحكومتين المنقبضَين، شينزو أبي اليابانيّ وجاستين ترودو الكنديّ، انفجرت البهجة على وجه الإسرائيليّ بنيامين نتانياهو إبّان لقائه دونالد ترامب. فالأخير، بخفّته وتفاهته المعهودتين، أهدى الأوّل التخلّص من إلزام «حلّ الدولتين». وهو، بالطبع، لا يدري، ولا يعنيه أن يدري، أيّ تحدٍّ يطرحه على الإسرائيليّين حلّ الدولة الواحدة، أو الثنائيّة القوميّة، حيث يتساوى السكّان في الحقوق والواجبات.
أغلب الظنّ أنّ ترامب ونتانياهو يتّفقان على أنّ اللاحلّ أفضل الحلول. إنّه، للأوّل، من نتاجات الكسل ونقص التركيز اللذين يشبهانه. وهو، للثاني، حصيلة الجهد المداور والموارب الذي يُعرف به. وتوازن القوى القائم في المنطقة والعالم، وقد عزّزه الاستنكاف الأميركيّ، يسمح لهما بتمرير هذا اللاحلّ الذي يجتمع فيه الخبث والسينيكيّة وقصر النظر التاريخيّ إلى قدر معتبر من العنجهيّة العنصريّة. وبالطبع، هناك دائماً القسوة التي تحكم سعيدةً في ظلّ امتناع السياسة.
لكنّ المسألة، وعلى عكس ما يقال اليوم في بعض الأوساط الفلسطينيّة والعربيّة، ليست مجرّد إعلان بسيط عن واقع قائم. فهذا، فضلاً عن كونه تخلّياً عن التزام تاريخيّ ومبدئيّ، حدث له سياق وله تاريخ، وهو حتماً ليس محكوماً قَـبْليّاً بالموت، على ما تفترضه نظريّة «مؤامرة أوسلو».
فإسرائيليّاً، وإذا ما وضعنا الإنشاء الخطابيّ جانباً، سيكون من الصعب إغفال مقتل اسحق رابين أواسط التسعينات، كما لو أنّه حدث بلا دلالة أو معنى. ويصعب استطراداً ألاّ يُلحظ ذاك الانجراف الهويّاتيّ الإسرائيليّ، الدينيّ والقوميّ والقبَليّ، الذي سبق، ثمّ واكب، انجرافاً كونيّاً في الاتّجاه هذا. وقد كان واضحاً كيف انتقل المناخ الإسرائيليّ، السياسيّ والثقافيّ، من التداول بـ «ما بعد الصهيونيّة» وإبراز التناقض بين ديموقراطيّة الدولة ويهوديّتها إلى المطابقة بين هذين المعنيين اللذين لا يتطابقان.
وبدوره اندرج الحقّ الفلسطينيّ مبكراً وبقوّة في الوعي الهويّاتيّ. وهو، على هذه الطريق المديدة، لم يمتلك أيّ وعي أرفع. فمن «حماس» وإرهابها إلى السلطة وفسادها، وصولاً إلى افتراق غزّة عن الضفّة الغربيّة، راحت أوراق القوّة تتساقط ورقة ورقة. وعلى عكس الوعي الهويّاتيّ الإسرائيليّ، الذي حقّق مؤخّراً انتصاره الأكبر بوصول ترامب إلى البيت الأبيض، فإنّ الوعي الهويّاتيّ الفلسطينيّ مضى من ضعف إلى ضعف ومن تفتيت إلى تفتيت. لا بل كان الموقع التفاوضيّ أصلاً بالغ الاختلال، سيّما وقد وصلت منظّمة التحرير الفلسطينيّة إلى مدريد ثمّ أوسلو بالغة الإنهاك ومثخنة بجراح تعاقب على إنزالها بها غزو 1982 الإسرائيليّ ثمّ خصوصاً الحرب الأسديّة على ياسر عرفات وقراره الوطنيّ المستقلّ. وهذا كي لا نضيف الخلفيّة الأسبق ممثّلة بفشلين كبيرين: فشل الخيار الدوليّ مجسّداً في انهيار الحليف السوفياتيّ، وفشل الخيار العربيّ مجسّداً في هزيمة صدّام حسين بعد احتلاله الكويت. فحين استيقظت لاحقاً الشعوب العربيّة على قضاياها الوطنيّة، تقلّص الاهتمام بقضيّة فلسطين التي أريد لها أن تكون حاجباً لتلك القضايا.
لقد نجح ترامب ونتانياهو في دفع المقدّمات إلى نتائجها، وهذا ما كان ليكون حتميّاً لولا تلك المقدّمات، الإسرائيليّ منها والفلسطينيّ، حيث اختلط سوء التدبير بسوء الحظّ، وضعف الفرص المتاحة بعدم اقتناص ما توافر منها.
نقلا عن الحياة