موسم زيارة الاربعين يستغرق تقريباً ثلاثة اسابيع اذ تنطلق المسيرة المليونية الزاحفة من مختلف مدن العراق بإتجاه كربلاء المقدسة حيث مرقد سيد الشهداء الامام الحسين(ع). اولى المحافظات التي تنطلق منها المسيرة هي البصرة الفيحاء بحكم بعدها عن كربلاء فيحث السائرون(المشاية) الخطى صوب كربلاء مبكراً ثم تليها مدينة العمارة فالناصرية فبقية مدن الجنوب والوسط ثم ديالى فبغداد وهكذا بقية المدن حيث تلتقي جميعاً يوم العشرين من صفر في كربلاء. ملايين من العراقيين والعرب والعجم تعج بهم طرقات المدن العراقية في مسيرة هي الاكبر من نوعها في المنطقة وربما العالم بإسره, تجد فيها كل اصناف الناس, رجالاً ونساءاً واطفالاً وشباباً, معوقين وغيرهم الكل يصدح بذكر الله وبحب الحسين, لايهابون حراً ولابرداً, ولا تهديداً ولاخوفاً, وطنوا انفسهم على التضحية تأسياً بصاحب الذكرى الامام الحسين واهل بيته الذين تم سبيهم بعد استشهاده.
ما يلفت النظر في هذا التجمع المليوني الممتد على رقعة جغرافية واسعة ومدة زمنية تعد بالليالي والايام هو الروح والاخلاق العالية التي يتمتع بها الجميع, واعني بالجميع (المشاية) والخدم اي اصحاب المواكب الذين يخدمون الزائرين السائرين الى كربلاء. يجهد اصحاب المواكب على تقديم افضل ما لديهم من خدمات للزائرين لاتفارق افواههم كلمة (مولاي خادمك), التواضع صفة تلازم الجميع, الكلمة الطيبة لاتفارق شفاههم, النية الصادقة والاخلاص بالعمل صفة الخدم والزائرين على حد سواء, التعاون المنقطع النظير, روح العفو والتسامح والتسامي, صدق الحديث, وحسن الخُلق امورٌ تلازم الجميع, اذا ماصادف انك اخطأت سهواً بحق شخص ما فإنه هو من يسارع الى الاعتذار منك ويطلب العفو, بإختصار شديد في مسيرة الاربعين يعيش العراقيون طقوساً ملائكية, تبدأ بالالتزام بالعبادات والفرائض اليومية, مروراً بالاخلاص بالعمل, وليس انتهاءاً بحسن السلوك والاريحية والاخلاق العالية والتصرفات المنضبطة. لاغش, لاخداع , لانفاق , لاكذب, لااعتداء, لاتدليس, لاتخاذل, ولا تهافت على الدنيا وملذاتها, الكل متوجه الى السماء يطلب عفوها ورحمتها بشفاعة الحسين. حينما انظر الى حال العراقيين في ايام زيارة الاربعين اتذكر قوله تعالى” لارفث ولافسوق ولاجدال في الحج” نعم واي حج اعظم من زيارة قبلة الاحرار, امام الثائرين, وسيد الشهداء من الاولين والاخرين. واذا كان حج الاسلام اي الحج لمكة تكليفاً شرعياً واجباً على المستطيع, فإن حج الثائرين واعني به الحج الى كربلاء يكون تطوعاً لا إلزاماً ويقوم به المستطيع وغير المستطيع حباً بالحسين. حج مكة هو حج العبادة, اما حج كربلاء فهم حج العقيدة وحج المباديء والقيم, قيم الثورة والحرية والعدالة, وكما هو في حج مكة, فأن في حج الحسين وكربلاء منافع يشهدها الناس ايضاً ولعلني لا اجانب الحقيقة حينما اقول ان في حج كربلاء يشهد الناس منافع لهم ربما تفوق منافع حج مكة. ففي حج مكة يشتري الحاج الخدمات من مأكل ومشرب ومسكن ومنام شراءاً اما في حج كربلاء فإن كل هذه الامور تقدم مجاناً تقرباً الى الله وهنا نتعلم الدرس الاول ان الحياة عطاءٌ وكرمٌ وسخاءٌ فيتعلم خادم الحسين على البذل والعطاء من دون مقابل, لكنك في مكة لاتجد من يهب لك الطعام او المسكن او اي خدمة صغيرة او كبيرة دون مقابل اي حج مكة فيه منافع تجارية بالدرجة الاساسية بالنسبة لأهل مكة فقط, اما في حج كربلاء فالمنافع اخلاقية روحية للزائر القادم من العراق وخارجه ولمن يقدم الخدمات من اصحاب المواكب فحج كربلاء مدرسة يتعلم فيها الزائر والخادم على حد سواء دروس البذل والتفاني والاخلاص والعطاء وهو الدرس الكبير الذي اراد مولانا الحسين تعليمنا اياه يوم جاد بنفسه وبعياله واصحابه والجود بالنفس اسمى غاية الجود.
من منافع حج كربلاء تعلم الصبر. الصبر على الخدمة خدمة السائرين, والصبر على تحمل وعثاء السير الى مدينة كربلاء في ظروف جوية متقلبة تارة بالحر واخرى في البرد, اصحاب المواكب من الخدام يوطنون انفسهم على تحمل طلبات الزائرين ويلبونها لهم بكل طيب خاطر من دون تأفف او انزعاج, والصبر للزائرين الذين يوطنون انفسهم على تحمل مشاق السفر والمشي لمسافات تصل مئات الكيلومترات. ومن هنا اتوقع ان الخادم اذا كان موظفاً او مسؤولاً في الدولة فسيتعلم من خدمة الزائرين تحمل الطلبات وطول النفس مع المواطنين المراجعين له في الايام العادية, وتسهيل معاملاتهم, وقضاء حوائجهم,والتحدث اليهم بالكلام الطيب وبتواضع كما يفعل مع الزائرين في مسيرة الاربعين.
العراقيون يتحولون طوال مدة زيارة الاربعين الى اشباه ملائكة بإعمالهم وسلوكياتهم واخلاقهم. اتمنى ان تطول ايام زيارة الاربعين لتشمل كل ايام العراقيين حتى نراهم بنفس الخلق والسلوك وهو الدرس الذي علينا جميعاً تعلمه من زيارة العشرين من صفر ومسيرة الاربعين, فسلوك المؤمن كما افهم كلُ لايتجزأ, فلا يمكن للمؤمن ان يكون صادقاً ومخلصاً ومعطاءاً, ومتعاوناً ومتواضعاً ومسامحاً, وغافراً في ايام معينة, ثم يخالف سلوكه هذا في باقي الايام, لانه ان فعل ذلك وقع في شرك النفاق والرياء والعياذ بالله. لتكن ايام زيارة الاربعين منطلقاً لنا نحن العراقيين لتطهير نفوسنا, وللتراحم بيننا, وللاخلاص لشعبنا ولبلدنا الذي هو اليوم بأمس الحاجة الى المخلصين والصادقين, بعد ان نهبه الفاسدون والسارقون.
[email protected]