23 ديسمبر، 2024 9:27 ص

ليتني كنت راعي غنم

ليتني كنت راعي غنم

أذكر في صباي، أن أبي كان يواظب على اقتناء الخراف، نربيها بضعة أسابيع في الحديقة الخلفية الصغيرة بمنزلنا، ليقدّمها أبي قرباناً لله؛ حالـَما يعود أحد أخوتي سالماً من (الجبهة). كان أبي مغرماً بـ(إبراهيم الخليل) عليه السلام، ويحلو له أن يسميه (أبانا إبراهيم)؛ كما يطلق عليه إخوتنا اليهود في تقاليدهم، وأن يقلّد نهجه؛ ليس في القرابين فحسب، بل في حبه للأغنام أيضاً، إذ يدّعي أبي أن معظم الأنبياء كانوا رعاة غنم في صباهم. ما حدا به إلى أن يعلّمني أصول الرعي؛ ويلقنني بعض الإشارات والأصوات الخاصة بتربية الغنم.

يعضّد رأي أبي، المشهدُ الإنساني الراقي الذي نقله (مصطفى العقاد) في رائعته (الرسالة)، وهو وإن جاء في صيغة فنية ارتآها المخرج، إلا أنها لم تبتعد كثيراً عن النص التاريخي. ذلك حين أراد (عمرو بن العاص) أن ينتقص من شأن النبي (محمد) صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ فازدرى بين يدي (النجاشي): “عرفناه يتيماً يرعى الغنم”، لكن الأخير رد عليه بأنفة: “والمسيح كان نجاراً في أرض الجليل”. ابتسم أبي بزهو واختلس النظر إلي، ونحن نشاهد الرسالة معاً في التلفاز؛ مطلع عام هجري.

هذه العقلية المتعالية التي حملها عمرو، وكثيرون أمثاله، هي العقلية التي فنـّدها الدكتور (علي الوردي) في تحليل شخصية الفرد العراقي، وهنا أستدرك أن المقصود بالعراقي لدى الوردي هو العربي المنحدر من البادية. بنى الوردي نظريته على ثلاثة محاور، أحدها أن الفرد يعاني من (التناشز التراثي)، ما يعني – بتبسيط – أن الفرد ينمو من جانب معين، ويبقى مضمحلاً من جانب آخر. وفي مثالنا نجد أن عمرو برغم يقينه بصدق النبي محمد وأمانته، إلا أنه ما انفك يعزف على وتر مهنة النبي في صباه، لاسيما وأن عمرو لم يمتهن شيئاً في صباه، إذ كان من أبناء الطبقة المخملية.

(المهنة)، اشتقها لسان العرب من (المهانة)، فالعربي البدوي الفذ لا يمارس مهنة تهينه، بل يستل سيفه باحثاً عن طعام وملبس ومضجع. أما الذي يقطر جبينه عرقاً نزيهاً في مهنته؛ لينال رزقه ورزق عياله، فذلك في المقاييس البدوية ليس (رجلاً).

ربما أراد (عمر الفاروق) أن يؤدب عمرو، حين شكاه إليه مواطن مصري جلده ابن عمرو؛ لا لشيء إلا لأن فرس المصري سبقت فرس ابن عمرو في سباق. بعد أن اقتص الفاروق من ابن عمرو بدُرّته، وجلا الدرّة على صلعة عمرو؛ بحجة أن الابن فعل فعلته بسلطان أبيه، أمر الأخير بأن يرعى الغنم مدة شهر، وقال له مقولته الشهيرة: “لئن أفلحت في رعي الغنم، ائتمناك على رعي الأمم”، ولعَمري إن الفاروق انتقم للنبي من عمرو حينها. ولمّا كان عمرو يرعى الغنم – عقوبةً – ظل يردد للناس: “كنت في

صباي أزرّ الحرير بالذهب، بينما عمر وأبوه الخطـّاب يبيعان الحطب”. ها هو يؤكد نظرية التناشز التراثي، بعد أن أسلم، وحَسُن إسلامه!

لا زلنا – كغالبية مطلقة – نعاني من التناشز، فما إن يرتقي شخص في منصب ما، حتى نبحث في ماضيه؛ ماذا كان يعمل. ونحن لا نقلل من شأن من سرق، لأنه (رجل شجاع/ سبع)، لكننا نستهين برجال عملوا بكد؛ وإن كانوا رموزاً سياسية؛ فنطلق عليهم ألقاباً بذيئة مثل (أبو الثلج)، (أبو السبح)، (أبو الكباب) و(راعي الغنم)، وما إلى ذلك، في محاولة منا إلى إرضاء أنفسنا المريضة، التي لم تتمكن من بلوغ ما بلغوه هؤلاء، فنقنع أنفسنا أننا أفضل منهم لأننا لم نمتهن مهنهم يوماً ما.

حكى (صدام حسين) لكاتب سيرته (أمير اسكندر) قائلاً: “… كنت في طفولتي أبيع البطيخ – الرقي باللهجة العراقية – في القطار المار بتكريت، في طريقه من الموصل إلى بغداد؛ كي أطعم أسرتي”. السؤال هنا، من كان يجرؤ أن يذكر ما اعترف به صدام ووثقه؟ لا زلت مؤمناً، إننا شعب يساس بيد من حديد.