كعادتي هذا المساء انعزلْتُ في غرفتي مع حاسوبي مُستغلّةً هدوء الليل و صفاء الذهن لأُباشرَ كتابة موضوعٍ جديد .. نادتني والدتي ككُلِّ ليلةٍ “يا ريم .. تعالي يا ابنتي شاركينا السمر إشتقنا لأحاديثك و دعاباتك” لكنّي لم أَرُدّ مع أني سمعت اسمي جيداً ، لم أشأ قطع سلسلة أفكاري و في طبيعة الحال ستتفهّم والدتي كما أبي و أُختي فهُم إعتادوا على طقوسي المسائية . بعد مرور 5 دقائق سمعتُ صوت خطواتٍ تقترب من غُرفتي .. إنها أمي من جديد دخلت الغرفة و وقفت بجانبي .. “انظري أُمّاه أنا أكتب مقالاً جديداً” قلت لها و تابعت كتابتي لتفهم أنّي منشغلة . لكنّها إستمرّت بالتحديق في وجهي بنظراتٍ حنونةٍ مشتاقةٍ و كأنها لم ترَني منذُ أمدٍ بعيد ، أو كأنها تخشى فراقاً قريباً ..! لا أُنكِر استغرابي لوهلة لكنّي قاطعته بالعودة إلى الحاسبة من جديد حتى لا يتشتت إنتباهي عمّا أكتبه. و من دون إلتفات قلْتُ سأسهر معكم قليلاً ثم أنام بعد أن أُنهِي كتابة الموضوع . ” لا بأس عزيزتي .. أكملي واجبك ففيه خير لك و لمستقبلك ” كانت تلك عبارتها التشجيعية في الظاهر لكن في خلجات صوتها كانت تقول تبحثين عن الخير بعيداً و هو يجلس بجانبك ؟! بصوت أشبه بترنيمة العتب ، لم تنطقها لكنّي سمعتها بقلبي . خرجت والدتي من الغرفة و بقيتُ وحدي مع ذلك الإحساس الموحش بالوحدة لا أدري مصدره لكن بالتأكيد لعتاب والدتي الخفيّ علاقة قويّة به . أحسستُ بثقلٍ في صدري و كأنّ الأُكسجين في الغرفة ما عاد يكفيني نهضتُ أهمُّ بالخروج إلى الشُرفة بخطواتٍ متثاقلة و عينين نصفُ مفتوحتين و كأنّه نعاسٌ مفاجئ بدأ يتسلل إليهما . بصعوبةٍ جلست على كرسيٍّ عند النافذة ، أغمضتُ عينيّ ، لأستيقظَ بعد ساعاتٍ على صوتِ بكاء
و عويل .. نهضْتُ بسرعة ، قصدت غرفة الجلوس كان الجميع هناك ( أمي ، أبي ، أختي و أقاربي )
جميعهم يبكون ..! “ما بكم ما الذي حدث أجيبوني” لكن أحداً لم يرد ..! هرعت إلى أمي ركعت عند قدميها .. “أُمّاه .. أجيبيني ماذا جرى ؟! ” لكنها لم تنظر إليّ و لم تشعر بوجودي حتى ! بدأ الخوف يعتريني أيعقل أنّها لا تراني ؟ بدأت أتلمّس جسدي لكنّ يداي إخترقت جسدي
حقاً ..! لكنّي لم أمُتْ كيف أفهِمُهم ذلك ..! يا رب .. ماذا فعلتُ بنفسي ؟! كان نحيبهم يقتلني حقّاً ، لكنَّ صوتاً واحداً مزّق أوصالي ، كان صوت والدتي الباكية . أعاد بي الزمن ساعات إلى الوراء ، إلى تلك الترنيمة المُعاتبة التي نطقتها بقلبها لا بلسانها و هي تشكو خوفها فراقي . تلك اللحظة القاسية إعتصرَتْ كلَّ ما في جوفي من مشاعر .! ربّاه .. أَعِدني إلى الحياة مرة واحدة فقط أرجوك ، أُريد أن أُكفّر عن ذلك التقصير ، أُريد أن أُخبِر قدّيستي المُربيّة أنّها أجمل نساء الكون كما كنْتُ أخبر عنها أصدقائي دائماً لكنّي بخلتُ دائماً في التعبير لها عن جمالها و صباها . أُريدُ أن أَتلحَّفَ قلبها و أنامَ بين زراعيها كما لو أني طفلةٌ لن تكبر أبداً . لا أُريدُ جَنّة الآخرة إلا من تحت قدميها .. أرجوك ربّي أُريدُ أن أعتذر لها عن عدم النظر في عينيها عندما أتت إليّ معاتبةً و مشجّعة . أُريدُ أن أُخبرها أنّها الخير .. كلُّ الخير في حياتي . و في تلك اللحظة العصيبة من جلد الذات و الألم و التوسُّل . سمعتُ ترنيمةً فيروزيّةً لطالما عشقتُها : أُمّي يا ملاكي يا حُبّيَ الباقي إلى الأبد لا تزل يداكِ أُرجوحتي و لا أزل أَنَمْ يرافقها صوت أُمّي بجانب سريري توقظني : ” صباح الخير يا ابنتي ، لقد حان الصباح ..” !