23 ديسمبر، 2024 8:23 ص

ليتنا بقينا نازحين !!

ليتنا بقينا نازحين !!

بعد انقضاء اكثر من سنتين ونصف تاركين بيتنا مجبرين بسبب احتلال المدينة من قبل عصابات داعش ولولا خوفنا على اطفالنا ما خرجنا ولا تركنا احلامنا وافراحنا واحزاننا وقبور احبتنا خلف ظهورنا, وفي طريقنا للهروب من المدينة كان افراد داعش على بعد أمتار مننا وكانوا يطلقون النار صوب كل شئ يتحرك, واضطررنا الى الاسراع بسيارتنا بشكل جنوني, ولكننا لم نستطع تجاوز عقدة طريق لكثافة الاطلاقات صوبنا حتى تكفل جندي غيور من الجيش بالاشتباك وفتح النار بكثافة على افراد داعش كاشفا جسده العاري لكي نستطيع المرور من خلفه لعبور مفترق الطرق, وفعلا تمكنا بالافلات باخر نفس, كنت انظر الى اشجار المدينة, الى الارصفة ,الى اعمدة الكهرباء, الشوارع , البنايات , حتى المقبرة , تمنيت لو أنني القي نظرة اخيرة الى كل قبور المدينة وساكنيها, ثم بدت السيارة تبتعد شيئا فشيئا وصرت انظر الى الخلف فلا اراها, وسالت في سري : كم يوما سأبقى بعيدا عن بيتنا وعن مدينتنا ؟ ولم يدر بخاطري أنها ستكون سنوات لا أياما.
وصلنا الى بغداد بعد جهد مضن وطريق مزعج, وكعادة بغداد تحتضن الكل وتواسي الجميع فتفرح مع الفرحين وتذرف الدموع حزنا مع الباكين وهي ليست غريبة عني فقد قضيت فيها اغلب اوقات حياتي, فأنا أعشق كل شئ فيها ولم أتصور حياتي يوما دون التسكع في شوارعها, متنبيها, ضفاف دجلتها, منصورها, كرادتها, رفقة العمر مع زملاء الكلية.
تكيفنا سريعا مع وضعنا الجديد بعد أن أستاجرنا بيتا في أحد أحيائها وأنتقلت كل دوائر مدينتنا المحتله من قبل داعش الى بغداد ومنها كليتي التي صارت مع كلية طب المستنصرية, التي فتح لنا أهلها قلوبهم قبل مختبراتها واحتضنتنا في قاعاتها وناديها وساحاتها ومستشفاها وعاملنا أهلها بكل ما عرف عنهم من اخلاق وطيبة أنستنا كل ألامنا وأزاحت عن كاهلنا كل همومنا وأحزاننا وصرنا عائلة واحدة وتمنينا أن لا نرجع الى مدينتنا مجددا حتى نبقى معهم الى الابد !!.
لكن عيوننا بقت ترنوا الى مدينتنا المغتصبة, ننتظر ساعة تحررها والعودة اليها مجددا حتى ولو على اطلالها, ولو دمرت بالكامل عن بكرة ابيها, لكنها تبقى الوطن الاول والحلم الاول والجرح الاول وبقينا نحنّ الى ترابها المشبع برائحة دماء اهلنا. تحررت المدينة بعد أن أختلطت دماء ابن الجنوب مع دماء ابنائها وأثبت العراقيون أنهم ليسوا على مذهب بعض سياسييهم الذين قامروا بكل مقدرات البلد, باحثين عن مصالحهم وارباحهم وسط جثث الاموات وانقاض الدمار الهائل. ثم حانت ساعة عودتنا الى مدينتنا الحزينة بعد ان شاهدنا اغلب احيائها وبيوتها من خلال صور منشورة على مواقع التواصل, وبعد ان شاهدت بيتنا وهو مازال واقفا شامخا لم تنل منه تفجيرات عصابات الشر والموت.
ونحن نمشي باتجاه منطقتنا حذرنا رجال الشرطة من بعض القنابر غير المنفلقة , وارشدونا الى الطرق الامنة , ونصحونا ان لا ندخل بيتنا قبل التأكد من التفخيخ, حيث أن كل البيوت والاشجار والاعمدة والسيارات وحتى القطط والكلاب قد تكون مفخخة!!. كانت أزقة المدينة حزينة, كل شئ فيها حزين, ولا نكاد نميز معالم شوارعها, وأختفت ملامحها, وكأنها مدينة أشباح, تثير في نفوسنا الرعب والريبة, ومع ذلك أصررنا الوصول والدخول الى البيت رغم المفاجأت غير السارة التي قد تكون بانتظارنا, ورحت افتح ابواب البيت وابواب الغرف وخزنات الملابس بكل حذر وانا أردد الشهادتين, خوفا من أن اتحول بلحظات الى شظايا ورقية ملونة متناثرة!!.
في اليوم الثاني تجولت في الازقة والشوارع , كانت تبكي على اهلها الذين فارقوها مجبرين, وأتجهت مباشرة الى قبور أهلي وتأكدت من وجودها فقد كنت أظن ان حتى القبور لم تسلم من عبثهم وحماقاتهم, واستمريت بالمشي بين شوارعها أحسب خطواتي في كل شارع اسير به, وهي عادة قديمة كنت افعلها في الصغر, ووصلت الى مدرستي الابتدائية التي صارت انقاضا وأجهشت بالبكاء امام ما تبقى من بعض حطام جدرانها, وأحسست أنني كائن غريب على سطح الارض, بلا هوية وبلا عنوان, وشاهدت المدينة وكانها تعرضت الى نوع من انواع العقوبة الربانية التي ورد ذكرها بالقران!!.
رحت امشي كالمجنون سريعا بين شوارعها باحثا عن شئ فيها لم تصله يد الدمار والخراب, ولكن دون جدوى, حتى وصلت الى شارع بيتنا الذي اسكن فيه, وأيقنت لما وقفت في وسط الشارع أن جارتنا أم بسام قد ماتت أيام نزوحنا عن المدينة, ولكنني في هذه اللحظة تأكدت أنها ماتت رغم علمي سابقا بخبر موتها!! ومشيت بخطوات بطيئة من أمام بيت تلك المرأة التي ماتت قهرا وحزنا بعيدا عن بيتها وهي التي لم تعان مرضا سابقا, واحسست أن القلوب الطيبة لا تعيش كثيرا, ورفض زوجها العودة الى بيته وبقي في بغداد مفضلا استأجار بيتا على العودة الى البيت وزوجته ليست فيه. وصلت الى بيت الحاج مشرف ذلك الرجل الذي احببت فيه بساطته ونقاءه وصفاء نيته, وتذكرت أنه هو الاخر مات ونحن خارج الديار, حينها ادركت موقنا أن داعش لم يكن يستهدف فقط البيوت والشوارع, بل كان يستهدف ما هو اهم, فقد أستهدف كل ما تعلقنا به وأحببناه, وليته أكتفى بدمار المدينة ومنشأتها , لكنه قتل فينا الكثير من انسانيتنا و عواطفنا وأحلامنا ومشاعرنا ولم يبقي لنا سوى حفنة من أشباه الرجال الادعياء وأنصاف الحلول ليكملوا مشوار داعش بالاجهاز على ما تبقى منا ومن أدميتنا ( اياكم والانبياء الكذبة يأتونكم بملابس الحملان وهم ذئاب خاطفة ) وليتنا نتعظ !!.