ترسم المدن حكاياتها تحت اجفان ذكرياتنا ، عندما تكون المهاجر والمنافي اعشاشا لنا ، توقظ فينا الحنين الى الطفولة وغبار المدن التي تركتنا وراءها وصارت تئن من وجع السياسة المخادعة وجروح شظايا المفخخات واحياء الصفيح الفقيرة وتفنن اللصوص في صنع الابتسامات في المناظرات التلفازية .
تركنا كل هذا هناك ، وصرنا نبحث عن بهجة تجمعنا في عيون البلاد الموزعة في شتات ابناءه ، اي مكان ، اي مقهى ، اي ناصية أو تجمع نتقابل فيه لنروي ما فينا من ظمأ وذكريات وضحكات مكتومة يهيجها بلوعة الايام البعيدة حديث عابر وقراءة لما نقرأ ونسمع ونتمنى.
هذه الاماني يحولها الليل البارد الى دفئ لعواطف العراق المتشظي بيننا كما يوزع الورد عطره على زائري حدائقه. وهكذا هو ما يتبقى من اعمارنا المهاجرة كما نوارس نهارات دجلة وفرات المشاحيف ، نراه في قعر كأس تلك السهرات ، الشاي ، وكاس الليمون وفنجان القهوة والكوتيل الرائع من يد صديقنا الطيب اثير في مطعم مكسيكو في مدينة زولنكن ، حيث يجتمع العراق برعاية احمد صاحب هذا المطعم ليوزع علينا حنانه وابتسامته وهدوءه وليكون مشوارنا هو وطن نتمناه ولكن في النهاية توصلنا قناعتنا الى تلك العبارة الازلية : لاعودة لما كان ..!
مطعم مكسيكو ، في مدينة زولنكن الالمانية ، يصنع لنا ليلا لهدوء القهوة في ذائقة ارواحنا ، يجمع الألفة في جمال ما نتمناه ونوده ليكثر اصدقاء المكان ، كمن يجمع وطنه في ابتسامة ونشوة كأس وموسيقى لحنين غاب في محطات البعد فأسمع منهم اكثر مما اتحدث ، فقط لاصنع من مشاعرهم المزيد من القصائد والمواد لاعمدتي الصحفية ، أحمد وسمير ولؤي واثير وبرار وآخرين يحملون دهشتهم معهم في براءتهم ليجمعنا المكان والاتين اليه من كولونيا ونويس وفوبرتال وأمكنة اخرى وجميع هذه الامكنة يوحدها مكان واحد هو العراق.
يسكن ليل زولنكن في اضوية مطعم مكسيكو الملونة ، وانصت الى اثير الطيب في جمال تصوراته ورؤاه ، ويشدنا أحمد الى كرمه وطيبته ، ويحدثنا لؤي عن ايام بغداد وطقوس كنائس كمب سارة ، فيما يحاول سمير في كل مرة ان يتفقد حاجة الجميع الى شيء ما ليوفره بالمناداة الى النادلة الجميلة.
السمك المطهي بالزيت والرز العنبر ، والحنين الى البلاد واساطيرها ، المحطات التي اتت بنا في صدفة الحياة لتصنع مودتها العائلية بين الجميع فلا تشعر بغربة في صدى النقاش وفوضى الضحك المتواصل في مطعم مكسيكو..
يشعرك كل شيء هنا .بدفء عاطفة المكان ، السهرة الجميلة ، لاتخيل ما تركته هناك ، كتبي التي الفتها ، رواياتي التي فزت بها ، دراسات عالم الاهوار ، اساطيري السومرية ، المهرجانات التي كنت احاضر فيها عن بابل والجنوب والمدن الأثرية التي كنت انقب فيها عن سبعة الاف عام بعيدة ، واصدقائي الذين فقدتهم في حروب بعيدة .
عالم زولنكن ، هو عالم المدينة الهادئة الصغيرة ، ابقيت فيها طموح ما تبقى من عمر ، وهي مدينة متواضعة لاتحب الصخب ، ومطعم مكسيكو ذو اليافطعة اللاتينية يحمل من عطر نخيل البصرة الكثير ومن صابون بعشيقة وطين دجلة وقصب الاهوار ، وكأنك هنا تنسج صدى خطابات كاسترو مع مواويل داخل حسن وحضيري بو عزيز وكاظم الساهر ، وكأنك مع القبعة المكسيكية ترتدي بيرية العريف عواد في الفصيل الاول لواء الرابع مشاة في ثكنة الناصرية ، وكأن اكتافيو باث الشاعر المكسيكي الحاصل على جائزة نوبل هو ذاته عريان سيد خلف او مظفر النواب.
دهشة الامكنة والفتها يصنعها مطعم مكسيكو ، يصنعها براءة ابتسامة اثير وذكاءه وطيبته المفرطة ، ليمضي بنا الليل ، نقلب العراق على الف وجه وقفى نستعيد عصوره ومدنه وكل لياليه الالف ، نصنع لشهرزاد حكايات جديدة ونعبر ازمنة الشوق الى كل نافذوة في بيوت الطين ، الى كل مأذنة وناقوس كنيسة او تكية لدرويش طيب.
انها ليالينا الالف تصنعها غربتنا ، وقيثارات السمفونيات المكسكية المتآلفة بشوق العولمة مع حناجر سنطور مطربي المقام العراقي .وبين الاثنين نعيش لحظات رائعة .نقتل الهومسك الذي يتربص بنا ، ونغني :
في مدينة زولنكن الأمانية.
وضع القدر الجميل لنا مكانا سحريا.
مطعم مكسيكو…
لا يقرأ اشعار غوته
لايكتب قصص غونتر غراس
ولا يحن الى روايات هيرمان هيسه.
خبرته فقط الحنين..
لأساطير امهاتنا والاغاني البابلية والسومرية والاشورية…
وايضا يحن كثيرا …
لصوت موسيقى زهور حسين والهجع ……….!
زولنكن في 5 فبراير 2014