5 ديسمبر، 2024 4:55 ص
Search
Close this search box.

لو هلهلتي يا عُربية…

لو هلهلتي يا عُربية…

لو هلهلتي يا عُربية واحدنه يعادل 600… أذكر هذا الهتاف الحماسي منذ كنت صغيرا في المدرسة، وكنت منتميا لمنظمة طلائع العراق في مدرستي الإبتدائية، وفي كل صباح ونحن بملابس الطلائع الزرقاء بأحلى قيافة وهندام كنا نهرول كالعساكر الصغار قابضين كفوفنا الرقيقة على نطاقنا الصغير وحناجرنا تصدح لعنان السماء بصوت طفولي (لو هلهلتي يا عُربية واحدنه يعادل 600 – ولو هلهلتي يا حبابة واحدنه يعادل دبابة)، ومنذ ذلك الحين كانت تلك الصورة راسخة في مخيلتي الطفولية البريئة بأن الواحد منا يعادل 600 منهم، رغم أني لم كن أعرف من هم أساسا، لكن ليس بمهم من هم، المهم أننا نعادل 600 منهم، ومع مرور السنين بدأت أحاول أن أجد تفسيرا منطقيا لهذه المعادلة اللوغاريتمية المعقدة، كيف يمكن للواحد أن يعادل 600، وأدركت حينها أنها معادلة غير صحيحة ولا يمكن أن تكون منطقية إلا في أفلام الرسوم المتحركة، ورغم أني أدركت عدم صحتها وبطلانها، إلا أنني عدت لأكررها في الكبر حين التحقت لتأدية خدمة العلم في الجيش العراقي، فها أنا أكررها من جديد مع باقي الجنود والضباط، نهرول في المعسكر كل صباح وحناجرنا تصدح بذات الهتاف (لو هلهلتي يا عُربية واحدنه يعادل 600 – ولو هلهلتي يا أم حسنة صوت الرشاشة يونسنه)، ولا أعلم إن كان المقصود بأم حسنة (حسنة ملص أم غيرها)، ولكن العلم الأكيد هو أنها كانت تهلهل على أية حال والهزائم تتلو الهزائم منذ عام 48 وحتى احتلال العراق في 2003. بمراجعة سريعة لمعارك العرب في العصر الحديث يتضح لنا بجلاء بأن ذلك الواحد الذي يعادل 600 ليس واحد منا بكل تأكيد، فجيوش العرب مجتمعة لم تتمكن ولو مرة واحدة من هزيمة أصغر جيش لأصغر عدو في المنطقة “إسرائيل”، بل يقودنا ذلك إلى أن الواحد من إسرائيل هو الذي قد يعادل 600 منا أو ربما أكثر من ذلك بكثير، وكيف لا وها نحن قد رأينا بالأمس القريب إسرائيل وهي تستبدل جنديها الأسير “جلعاد شاليط” بأكثر من 1000 أسير عربي، ورغم غرابة هذه المعادلة إلا أن ما أثار استغرابي أكثر هو أن أرى على التلفاز مظاهر البهجة والإحتفالات بهذا النصر العظيم، ولا أعلم أي نصر هذا بأن نستبدل ألف منا بواحد منهم، ولا اقصد طبعا فرحة العوائل والأمهات بعودة من فارقوهم، فذلك يسعدني أيضا، ولكن اقصد تلك الإحتفالات المؤسساتية التي اتخذت من الحدث مناسبة ومنبر للتفاخر والتباهي بالإنجاز العظيم باستبدال ألف معتقل عربي بأسير واحد من العدو، بل إني لأجده أمرا مؤلما ومخجلا حقا.   وعلى كل حال فهذه ليست المرة الأولى لمثل تلك التبادلات الغير متكافئة، ففي حرب عام 1948 وقع بيد الجيوش العربية (885) أسيرا إسرائيليا بينما وقع بيد الإسرائيليين (6249) أسيرا عربيا، وقد أفرجت إسرائيل عنهم جميعا مقابل إعادة أسراها، وبعد حرب عام 1956 أطلقت إسرائيل سراح نحو (5500) أسيرا مصريا مقابل إفراج مصر عن (4) أسرى فقط كانت قد أسرتهم في تلك الحرب، وفي حرب عام 1967 سقط بيد الجيوش العربية مجتمعة (15) أسيرا إسرائيليا، منهم (11) بيد المصريين و(2) بيد العراقيين وواحد بيد السوريين وواحد بيد اللبنانيين، بينما سقط بيد الإسرائيليين (6708) اسيرا عربيا، منهم (5237) مصريا و(899) أردنيا و(572) سوريا، وقد ابدلتهم إسرائيل جميعا باسراها الخمسة عشر، كما أفرج خلال عملية التبادل تلك عن طيارين إسرائيليين كانا وقد وقعا بيد العراقيين بعد أن قصفا مطار H3 العسكري غرب العراق، وقد أفرجت إسرائيل مقابل طياريها عن (428) أردنيا، وبعد حرب عام 1973 كان لدى المصريين (242) أسيرا إسرائيليا ولدى سوريا (68) أسيرا ولدى لبنان (4) أسرى، بينما وقع بيد الإسرائيليين (8372) مصريا و(392) سوريا و(6) مغاربة و(13) عراقي، وقد تم تبادلهم جميعا. ناهيك عن العديد من عمليات التبادل الصغيرة المماثلة كتبادل الجواسيس بين تلك الدول وصفقات التبادل التي تجريها حركات المقاومة الفلسطسنية واللبنانية المسلحة مع إسرائيل، كما أن هناك العديد من الصفقات التي تمت مع إسرائيل باطلاق سراح عدد من المعتقلين لديها مقابل رفات أو أجزاء من رفات جندي إسرائيلي.  وهكذا يتبين بكل تأكيد بأن الواحد منا لم يعادل يوما 600 ولا حتى (0,6)، لا في الحروب ولا بعد الحروب، وما أجده مؤلما ومخجلا حقا أن أرى تلك القيمة العالية التي يتمتع بها الجندي الإسرائيلي لدى حكومته لكي تستبدل الواحد منهم بالمئات بل بالآلاف مقابل حريته وسلامته الشخصية، بينما لا أجد في ذاكرتي أي موقف يسجل بأن هناك أي قيمة لجنودنا وشبابنا الذين كان ولازال يزج بهم كالخراف في حروب ومعارك خاسرة لا طائل منها، والتضحية بهم ليكونوا قرابين فداء على مذابح عروش حكامنا البواسل، فمن حروب التحرير الفاشلة إلى حروب الخليج العبثية مرورا بكل حروب العرب الداخلية فيما بينهم، كلها ماكنات عملاقة سحقت خيرة شباب البلاد ليذهبوا ضحايا حماقات حكامنا البواسل، ثم بعد كل هذا نجد هناك من يخرج علينا متباهيا متفاخرا بأنه قد تم استرجاع نحو 1000 معتقل بجندي إسرائيلي واحد، وا خزياه والله وا خزياه، أفلا نخجل من أنفسنا بأن يكون لعدونا تلك القيمة الإنسانية العالية ونحن في كل يوم ينقص من قيمة المواطن العربي حتى صار بلا قيمة، أفلا نخجل أن نجد عدونا ذو قيمة عالية لدى حكومته ونحن لا نساوي شيء لدى حكوماتنا الحكيمة.كلما رأيت على التلفاز أخبار عودة “جلعاد شاليط” لأهله وكيف سعت وراء ذلك حكومة بلاده سعيا حثيثا خمس سنوات لإسترجاعه سالما وتصريحات بنيامين نتنياهو حين يقول (لدينا إلتزام أخلاقي تجاه جندينا الأسير وتجاه عائلته بأن نعيده لبيته كما خرج منه)، وهو جندي عادي، ليس بجاسوس كبير لديه معلومات مخابراتية خطيرة وليس بخبير أو عالم نووي وليس بضابط برتبة عالية، بل مجرد جندي، أشعر بالحزن والأسى لمصير آلاف الأسرى والمفقودين العراقيين الذين اختفوا خلال حروب عبثية (بعثية) ولازال مصيرهم مجهول حتى يومنا هذا ومازالت عوائلهم تترقب بلهفة أي خبر عنهم أو أي قطعة من رفاتهم لدفنها…. ولو هلهلتي يا عربية “جلعاد” يعادل 600.

أحدث المقالات