قبل بلوغه الخامسة والثمانين بأسبوعين،أنهى سيرغي خروتشوف نجل الزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف حياته بطلقة في الرأس.
وكان نبأ وفاته بمدينة كرينبستون بولاية رود-إيلاند، في الثامن عشر من حزيران/يونيو الفائت. لم يلفت الانتباه، على خلفيّة الموت الأسود في الولايات المتّحدة بفعل تفشّي جائحة كورونا، وتسجيل حالات وفاة متفاقمة في معظم الولايات الامريكيّة.
ولم تلبث وسائل الإعلام بعد يوم أو يومين، حتّى تناقلت خبر الموت التّراجيديّ ،وذكرت أنّ أستاذ التّاريخ والسّياسة مات منتحراً بطلقة في الرأس؛ بينما امتنعت عقيلة البروفيسور سيرغي خروتشوف عن الإدلاء بأيّة تفاصيل حول الحادث المأساويّ.
ففي اِتصالنا الهاتفيّ معها، اكتفت بالقول، إنّها منزعجة من الصحافة، وإنّها في وضع نفسيٍّ سيّء. واشتكت من بيروقراطيّة الأجهزة الأميركيّة في إشارةٍ واضحةٍ الى أنّ الشّرطة تتحفّظ على الجثمان لحين الانتهاء من التحقيق في الحادث.
وأكّدت السّيدة فالنتينا غولينكو أنّ الراحل سيرغي خروتشوف سيدفن في موسكو الى جوار والديه في مقبرة “نوفوديفيتشي”.وإنّ جثمانه سينقل في اكتوبر بعد أن تفتح خطوط الطيران بين روسيا والولايات المتحدة.
وكان خروتشوف الابن، المولود في الثاني من تموز/ يوليو عام 1935، تخرّج مهندساً، وساهم في تصنيع الصواريخ السّوڤيتيّة الحاملة للمركبات.
وحاز على جوائز دولة، ودرس في أهمّ المعاهد. وعقب انفراط عقد الاتّحاد السّوڤييتيّ سافر الى الولايات المتّحدة بدعوةٍ من إحدى الجامعات لإلقاء محاضراتٍ حول ” الحرب الباردة”. وتحوّل خروتشوف الابن من الهندسة الى العلوم السّياسيّة. ونشر المقالات وألّف ثلاثة كتب مكرّسةٍ لحقبة والده نيكيتا خروتشوف الذي تسلّم قيادة الحزب الشيوعيّ والدّولة السوفيتيّة عام 1953 بعد وفاة جوزيف ستالين، لينقلب على تلك الحقبة، ويفتح ملف عبادة الفرد في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعيّ السوفيتيّ، ويكشف عن ملايين ضحايا العسف والقمع في الحقبة الستالينية.
ألّف سيرغي ثلاثة كتب عن والده الزّعيم السوفيتيّ، وقد اختلف المؤرّخون في وصف حقبة حكمه، لكنهم اتفقوا على أنّها كانت مرحلة “ذوبان الجليد” كناية
عن الدفء النسبيّ الذي دبّ في الحياة السياسيّة والثّقافيّة والاجتماعيّة السوفيتيّة، اثر سنوات العسف والرّعب الستالينية.
وتعدّ ثلاثيّة سيرغي خروتشوف عن الزّعيم السوفيتيّ “متقاعد بدرجة اتحاديّ”،”ولادة الدّولة العظمى” و”المصلح” توثيقاً لحقبة مايزال الرّوس يختلفون حولها، وتكمن أهميّة، الثلاثيّة، أنّ كاتبها كان لصيقا بالزّعيم السوفيتيّ، ويروي وقائع وأحداث لم يطّلع أحدٌ غيره عليها، الأمر الّذي يجعل منها شهادة حيّة، مع عدم استبعاد البعد الذاتيّ في رواية الأحداث، وتحليل أبعادها، وانحياز خروتشوف الابن الطبيعيّ لرؤية وسياقات الاب السياسيّة والفكريّة.
أحدث نيكيتا خروتشوف، هزّة في المجتمع السوفيتيّ، الرّاكدة تحت آلة القمع الستالينيّ لأكثر من ثلاثة عقود، كما أنّ الثّورة على ” عبادة الفرد” والنّقد المرير للتجربة الستالينيّة ومعسكرات الاعتقال والتعذيب والاختفاء القسريّ والإعدامات الجماعيّة، زلزلت الحركة الشيوعيّة العالميّة ، وولدت انشقاقات وتيّارات، وكانت إشارة البدء لتفكك وانهيار المنظومة السوفيتيّة.
سلط خروتشوف الابن، من مهجره في الولايات المتّحدة، الضّوء على حقبة تأريخية، كرست لها المعاهد الغربية والأمريكية آلاف الدّراسات، وما تزال، تحظى بالاهتمام.
وكُنّا أجرينا، لقاءاً على حلقتين مع المؤرّخ ، والكاتب السياسيّ سيرغي نيكيتيفيتش خروتشوف للحديث عن كتابه الضّخم ” ولادة الدّولة العظمى” وفيه توثيق لحقيقة أنّ الدّولة العظمى السوفيتيّة ؛ وُلدت بفضل المواقف المعارضة للإمبرياليّة الّتي حرص عليها خروتشوف في ثلاث ملفّاتٍ أساسيّةٍ شغلت السّاحة الدوليّة أثناء سنوات حكمه (1953-1964)؛؛؛
العدوان الثلاثيّ على مصر عام 1956، و تغيير النّظام الملكيّ في العراق ، والملف الثّالث أزمةالكاريبي.
ويرى خروتشوف الإبن أنّ الاتّحاد السوفيتيّ ، وإن خرج من الحرب العالميّة الثّانية منتصرا ً إلّا أنّه كان دولة معزولة، يحيط بها الأعداء، وتواجه حرباً باردة، تستنزف قواها.
ووفقا لسيرغي خروتشوف، فإنّ الغرب وزعيمته الأقوى الولايات المتحدة،لم يحسب للاتّحاد السوفيتيّ؛ الحساب على الصعيد الدوليّ، رغم الدّور الجبّار الّذي لعبه في الانتصار على ألمانيا النازيّة وقدّم 26 مليون من أرواح أبنائه لتخليص البشريّة من وباء الفاشيّة..
وحسب خروتشوف الابن، فإنّ مواقف والده الصّلدة من العدوان الثلاثيّ على مصر، والإنذار السوفيتيّ الشّهير ، وتأييد ودعم وحماية النّظام الجديد المعادي للإمبرياليّة في العراق عام 1958؛ وبعدهما أزمة الكاريبي، ثبتت أركان ” الدولةالعظمى” في العالم، وأنهت الهيمنة الأطلسيّة على مقدرات شعوبه، وفتحت المنافسة الحادة بين نظام القطبين، وخلقت توازن الرّعب الذي اختلّ بانهيار الاتّحاد السوفيتيّ عام 1990؛عام سفر سيرغي خروتشوف الى الولايات المتّحدة بعقد جامعيّ لمدّة عام، يلقي محاضرات في ” الحرب الباردة”.
ويبدو أنّ الإقامة طابت لابن الزعيم السوفيتيّ الذي هدّد يوماً بدفن الإمبرياليّة الامريكيّة،في الولايات المتحدّة، وحصل عام 1999على الجنسيّة الامريكيّة، محتفظاً بالروسيّة. وكان يرّد :
انا وطني روسيّ وأمريكيّ ايضاً !
تركيبة مثيرة للجدل، كما أثار الجدل، والده نيكيتا خروتشوف.
رابط الحلقة الاولى من المقابلة مع سيرغي خروتشوف
https://youtu.be/H3NUK7jd34s