دعونا نتفق اولا بأن فكرة الدفن، او مواراة الثرى، هي فكرة اخلاقية تقوم بها بعض الشعوب لأبنائها وبناتها الذين ينتهي دورهم في الحياة اي يموتون، تيمنا بالفكرة القائلة “من التراب اتيتم وإليه تعودون”، علماً إن هناك اقواما اخرى تقوم بترك جثة الميت في الهواء الطلق غذاءاً للطيور الجارحة، وهذا ليس موضوعنا الآن على الأقل. ولنتفق ثانية بأن الأنسان لا يقوم بعملية الدفن لجثته الا ما ندر، وفي الأعم فأن اناسا آخرين يقومون بذلك، بأستثناء الطوارئ في اثناء الغرق بالمحيطات (وما اكثرها) او الموت هائما في الصحاري (وما اكثرها ايضا) او في الفضاء الخارجي او اية طريقة (غريبة) تخطر على بالكم!
وحتى لا نتيه سوية بين فرضيات وأحتمالات لا أول لها ولا آخر، دعونا نبحر سـوية في قارب عراقي !
منذ ايام قليلة كنت في زيارة أحد زملائي الأعزاء في مدينتنا العزيزة ديترويت (فريد طوانا)، وكعادتنا كلما التقينا نسأل احدنا الآخر عن الأوضاع وآخر المستجدات وما الى ذلك من تفصيلات، ثم تنهد قليلا وأطرق بصره على الأرض وقال: في هذه الأيام ، تصادف ذكرى رحيل والدتي منذ ثلاث سنوات! ولا ادري ما حال قبرها اليوم!
في لوحة درامية ، كالحة الألوان والأضواء ، كيف للعاقل ان يتصرف، وبأي تبرير نخرج ونقنع هذا الأنسان. حينما رحلت والدته، كان ذلك عام 2011 يومها كانت قد تعافت من ازمة صحية ألمت بها وهي بمحل اقامتها في ديترويت، وطلبت من ابنها ان يهئ لها سفرة تزور بلدتها (تلسـقف) وبالرغم من المحاذير، ونصائح المقربين، قالت وقد بدى عليها الأصرار الأبدي، بانها عازمة على الزيارة هذه المرة، اذ لا احد يضمن سـير الأمور مستقبلا، فكان لها ما ارادت. لم يمض وقتا طويلا حتى فاجئنا صديقنا بنبأ رحيل والدته اثناء زيارتها بلدتها إثر نوبة قلبية، وبأنها وريت الثرى هناك. وما كان منّا نحن معشر الأصدقاء، الا ان نستغل تلك الحادثة لنخفف من لوعة زميلنا بالقول: انها محظوظة لأنها دفنت في العراق، ارض آبائها وأجدادها، ارضنا المقدسة! وكم كان لطيفا معنا وأنسانيا حينما أظهر اعتزازه بهذا الموقف، لكن لاشئ عنده يساوي رحيل امه، آخر ما تبقى له من الوالدين، لا الأرض ولا القرية ولا الوطن ولا اي شئ، هذه امي وفقدتها للأبد! حتما هذا ما كان يقول في سره، لكن اخلاقه ومبادئه كانت تفرض عليه ، اللياقة والكياسة في التعامل ومجاملة الناس.
وكنّا في ازمنة مضت، نحسد الناس التي تصرف آلاف الدولارات لنقل (جثامين) احبائها من اجل دفنها في العراق! وربما في بعض الأماكن (المحددة جدا) اعتمادا على (الطائفة، المذهب ، الدين أو القومية، تصورا حتى مع الموتى!) وكنا نحتار في رغباتنا او امانينا، وهل سيلبي (ناسنا) تلك الرغبات الغريبة جدا ، في تحقيق عملية الدفن حيثما ولدنا ، او حيثما وري جثمان آبائنا او اجدادنا، انها بالحقيقة امنية رومانسية اكثر مما هي واقعية، فالجسم الميت، ميت، اينما وري الثرى، هذا اذا كان محظوظا و وري الثرى!
اما صدمة زميلنا فكان مردّها، ان البلدة التي وري الثرى على جثمان والدته (تلسـقف) قد سقطت بيد (داعش) وأن المدينة قد فرغت من اهلها الذين اضطروا لتركها بعد ان خذلتهم قوات (الأقليم) وقوات (الدولة)، وأن داعش قد دخل القرية وخرب (الصلبان) وربما دخل المقبرة وقام بنفس العمل، وربما قام بتخريب القبور، فمن يعرف؟ مع ان احدهم قد أوصل (خبرا له) بأن الحشائش البرية قد ارتفعت كثيرا في مقبرة القرية، لأن لا احد يعتني بها او ينظفها، وربما ستغيب معالم المقبرة مع الوقت، وقد تضيع العلامة الفارقة لقبر والدته، وهذا يعني في نهاية المطاف، ان قبر امه سيكون مجهولا رغم انه كائن في نفس القرية التي ولدت وترعرعت بها، وهذا امر صعب التصديق. فكيف لك ان تضيّع معالمك وأنت في قريتك، مدينتك أو وطنك! هذا انتهاك فظ لحرمة الأنسان ولحقوقه – الميت على الأقل -.
لا ادري ان كنّا نرجسيون، او ان رومانسياتنا وأحلامنا الوردية كانت تقودنا لأفكار ومواقف، صارت اليوم تصرخ في وجوهنا بما يجري لهذا الوطن وأهله. فكم انسان عزيز فقدنا في التفجيرات الأرهابية وصرنا نجمعهم قطع قطع ( رجل من هذا ويد من ذاك ورأس من….؟) . وفيما وطننا مستباح بأرضه وناسه، نسمع عن سياسين يتحدثون عن نجاح التجربة العراقية! وعن ضرورة استفادة الدول منها، وعن الأنجازات التي حقـقها سياسيوا الصدفة الذين اتت بهم دبابات الأمريكي، وجاراتنا الشقيقتان – الشرقية والغربية- هذه المعادلة التي دفعنا وندفع ثمنها غاليا نحن، وأهلنا، وأحبتنا، إن كان تارة بالمفخخات او اللاصقات او السيارات الملغومة، او اقبية التعذيب والقتل والأرهاب على يد احزاب “العراق الجديد” أو على يد (دمية العالم المتحضر ودول الجوار) داعش ، ودولتها الأسلامية المتهرئة!
الرحمة على تلك الأنسانة الرائعة، التي كانت تضيفنا وتعاملنا كأبنائها كلما زرنا بيتها الجميل في ضواحي ديترويت ، والأمل بأن لا يمس قبرها بسوء او أذى، رغم ان الوطن وناسه قد انتهكوا، وأن النساء الأزيديات والمسيحيات يباعون كسبايا في سوق النخاسة (الأسلامية) على مسمع ومرأى من العالم العربي والأسلامي وكل اعضاء هيئة الأمم المتحدة ، ودون ان يرف جفن حكام بلدنا ومنطقتنا الخائبين والمفلسين والمهزومين،
فما بال قبور ناسنا وأهلنا!