الدنيا بس وياي صارت حريصة
غربت اجيب الزود جبت النگيصة
منذ عقود والرقعة الجغرافية التي تسمى وادي الرافدين منزوية عن كل ما يمت بصلة الى دعة الحياة ورفاهية العيش، في وقت تحوي كل ذرة تراب من أرضها، آثار حضارات كانت سباقة بين الأمم فيما مضى. وقطعا، كانت هذه المفارقات إبّان الأنظمة السابقة ومنها النظام البعثي مفتعلا ومتقصدا. والأخير هذا لم يكن يتوانى عن اتخاذ كل وسائل البطش والفتك وغمط حقوق أبناء البلد، فيما كان سباقا لتقديم التسهيلات والخدمات للأغراب والأجانب الطارئين على البلد، وهذا ما قصده معروف الرصافي قبل نحو سبعين عاما حين قال:
كلاب للأجانب هم ولكن على أبناء جلدتهم أسود
ومن المؤكد ان هذه سياسة مدروسة لتحطيم بنية الفرد العراقي، بعد أن صار له كيان وثقل بين دول المنطقة، العربية وغير العربية. فقد أصدر هذا النظام قرارات وقوانين تنم بصراحة عن تفضيل رعايا الدول الأجنبية على العراقيين في كثير من جوانب الحياة اليومية، فضلا عن تمتعهم بأولويات العمل في مؤسسات الدولة ودوائرها، ولأولادهم الأسبقية في القبول بالجامعات والمعاهد والمدارس، باستثناءات من ضوابط صارمة كان المواطن العراقي مشمولا بها. كذلك تمتعهم بقوانين خاصة تتيح لهم تحويل الأموال خارج العراق، فيما هو محذور ومحظور على العراقيين. كل هذه السياسات وغيرها الكثير دفعت عددا لايستهان به الى ترك وطنهم الأم مرغمين، والذهاب الى دول أجنبية باحثين عن المعيشة أولا، والحياة الكريمة ثانيا، وضمان مستقبلهم ومستقبل أولادهم ثالثا.
اليوم وقد تغير الحال، وحل بدل عصر العنجهية والدكتاتورية عصر الديمقراطية والحكومة المنتخبة، لماذا لم يفكر اولئك الذين هاجروا وتركوا أرض وطنهم بالعودة اليه بعد زوال المسبب؟ إذ معلوم أن بزوال المسبب تزول الأسباب وتتغير النتائج، ومن غير المعقول ان يبقى هؤلاء يعانون الغربة، وعلى وجه الخصوص ان كثيرا منهم لم يجد مكانا لائقا للعيش الكريم، في بلدان لها من التقاليد مالايشبه تقاليدنا نحن العراقيين. فهل سأل القائمون على أمر البلد، وأصحاب القرار والبت فيه أنفسهم يوما؛ لماذا لايعود الغرباء الى أحضان وطنهم؟
أظن الإجابة عن سؤال كهذا تحمل معها آلاما توازي آلام غربة هؤلاء، إذ هي تخيب الآمال فيما كان يتصوره أولئك المغتربون عن وطنهم. فالعائد الى بلده لايجد الأحضان مهيأة لاستقباله، إذ بدءًا لا يجد دارا تؤويه، وهو ماكان على الحكومة توفيره له وعلى وجه الخصوص أصحاب الشهادات العليا، كما أنه سيبحث عن مجال عمل ضمن اختصاصه دون جدوى، وسيضيع بين هذه المحنة وتلك، علاوة على تعرضه للتهديد والقتل من قبل عصابات مكلفة بتنفيذ أجندات مدروسة محسوبة، لإفراغ العراق من العقول والكفاءات العلمية. وبذا لن يجد له طريقا غير العودة من حيث أتى، حاملا معه آلام الغربة من جديد ومعاناة الفراق عن وطنه.
هذا حال المغتربين العراقيين، وهم قطعا بغربتهم يتعرضون للإهانة والمذلة، وهذا ماجناه عليهم أولو الأمر في العراق حكاما وقادة ورؤساء، سياسة ونهجا ومعاملة. ومن المؤسف أن كثيرا من هؤلاء المغتربين عادوا أدراجهم دون تحقيق هدفهم، بل أغلبهم عاد كما يقول مثلنا: (إيد وره وإيد گدام) وفي البيت المذكور بداية مقالي هذا، خير تجسيد لواقعهم في الغربة، وبعد عودتهم منها.
فهل هناك أمل في الأفق يلوح لهم فيستبشرون خيرا في المستقبل بالعودة الى بلدهم وخدمة أهلهم؟ الإجابة عن هذا السؤال بيد المسؤولين وأصحاب القرار حصرا، فهل هم مجيبون؟