هذه العبارة أو المثل الشعبي المتداول كثيراً بين شرائح المجتمع المختلفة، تختزن حكمة لا تقدر بثمن، كتجسيد لخبرة طويلة ومكثفة للبشر، وهي لا تختلف كثيراً عن عبارة أرسطو المعروفة (الفضيلة وسط بين رذيلتين). عبارة بالرغم من بساطتها وعفويتها إلا أن تحويلها الى واقع ليس بالمهمة اليسيرة والمتاحة للجميع، لأنها تحتاج الى مراس وحنكة ووعي كي لا ننزلق (أفراداً وجماعات) الى أحد طرفي الرذيلة والتي حذرنا منهما المعلم الأول. لنا نحن سكان هذا الوطن القديم تجارب ومصائب وكوارث على هذين الطريقين (طخه أو طلع مخه) ونادراً ما شددنا الرحال الى جادة الوسط المهجورة بينهما، وهذا ما تطرق اليه بوضوح العالم الجليل الدكتور علي الوردي في العديد من مؤلفاته القيمة. إن الوسطية في المواقف والخيارات، ليست نتاج إرادة ذاتية أو رغبة أو ميل ما، بل هي بنت شروط موضوعية ودرجة من التوازن والتنظيم والاستقرار يتطلبها ويتناغم معها من أجل المزيد من التطور والازدهار. وهذا ما يساعدنا على فهم وتفسير الكثير من حالات التعنت والإصرار لدى الكثيرين منا، للهرولة على درب الخيبة بكل ما يملكون من صخب ودقلات وعنفوان.
نحن اليوم وبعد زوال حقبة العبودية والاستبداد، نواجه تحديات ما يعرف بـ (مرحلة العدالة الانتقالية) ولا يحتاج حصادنا في هذا المجال الى الاستعانة بخبراء دوليين، كي يقدموا لنا تقارير حوله؛ فالنتائج وخيمة وشظاياها قد تطايرت الى أبعد بقعة من العالم. فلول النظام المباد وواجهاته الجديدة والمتجحفلين معهم بعقائد وعقليات وغايات، فرحون عما حصل من نتائج وخيمة، وهم لا يكلون ولا يملون من صناعة وترويج الأكاذيب وإلقاء التهم بكل الاتجاهات، كي يزيدوا المشهد عتمة والتباساً وعبثية، أملاً بالعودة الى الفردوس المفقود. أما من تلقف وتقاسم أسلاب الغنيمة الأزلية من شتى الرطانات والعناوين والأزياء (صفوفهم مخترقة أيضا من المسكونين بحلم العودة) فقد كشفوا عن كل ما لديهم من مواهب وإمكانات في شتى الحقول المادية والقيمية، وما الحصاد الحالي إلا تجسيد لذلك الفشل والعجز؛ لكن كل هذا، لا يمنح البعض من قناصي المنعطفات التأريخية، فرصة سوق وتعبئة فلكلورنا الوطني في مجال التذمر والشكوى الى تجريب سبيل (طلع مخه) مجدداً، كوننا لم نعد نملك المزيد من الفرص والوقت والثروات كي نبددها على هذا الطريق.
ما حصل لنا جميعاً؛ أننا قد خسرنا الكثير برفقة الاندفاعات المتهورة الممولة ببركات الرزق الريعي وقيم الغنيمة والفرهود والعطابات العقائدية البائسة، علينا وعي مخاطرالإمعان في مثل هذه التوجهات، والتي ستقذفنا الى ما هو أمر وأبشع مما حصل لنا حتى هذه اللحظة. إننا اليوم بأمس الحاجة الى التمسك بهذه الفرصة التي منحتنا إياها الأقدار للنهوض مجدداً من بين ركام الأنقاض الهائل الذي خلفته التجارب السابقة، وأن نفوت على كل هذا الصخب والضجيج والشعارات مقطوعة الجذور؛ الفرصة كي يضللونا ويبعدونا عن فهم ومواجهة حقيقة إمكانياتنا المتواضعة، والتي كشفت عنها جولة المواجهة مع تحديات الانتقال صوب الديمقراطية والدولة الحديثة. ما نحتاجه لا يمت بصلة لكبسولات المنقذ أو الحزب القائد أو المستبد العادل وغير ذلك من التعويذات التي انتهت صلاحيتها منذ زمن بعيد؛ نحتاج الى التخفف من كل ذلك الإرث والمسبوقات، كي نورث الأجيال الحالية والمقبلة القليل من الأوهام وميلاً الى الوسطية والتغيير..
نقلا عن الصباح الجديد