(ما بعد دفن الأخ ليس كما قبله)
فوق أمواج الغياب، تكسّرت سفينة الأخوّة والدفء؛ وها نحن نحاول، عاجزين، احصاء تلك الخسائر التي أحدثها رحيلك المفجع!..
ما زالت بعض خلايا الدماغ عصية على إدراك ماحصل، وعاجزة عن الانفتاح على واقع اسود تركه غيابك. سواد غليض لا تخترقه أشعة النور، ذلك الذي صنعته شهقتك الأخيرة!..
آه، ليتها تنسى، تلك الشهقة التي كانت جواز سفرك الى العالم الآخر. فجر تلفع بالسواد، إنه السادس من آب المفجع، آب وكما يلهب الاجساد بحرارته، سجّر نيران الحزن بفقدك داخل ارواحنا الحانية. إبراهيم.. لقد غيّبك الموت، وقبله اضناك المرض، وفي تلك اللحظات العصية كنت تأمل بحياة اطول، تحدثنا عن مواقع جديدة للسياحة والاستجمام، وانت تحمل عصاك تتوكأ عليها لتعينك على ما فعله السرطان بجسدك الغض. ما يأست، وما استسلمت، كنت صابرا لآخر لحظة، ومناديا لجميع الذكريات، علّها تحط في نقطة الوداع لتزيح الستار عن الماضي والمستقبل. كيف لا، وانت هو!..
ذلك البطل الذي أدمن اليتم منذ الثامنة. يتمٌ انساني لم يألفه غيرنا، وذلك هو من صنع منك تاريخا لن ينسى. فما حانت الثامنة عشر من عمرك القصير، حتى حملت بندقية تعرف من تستهدف، بندقية عقيدتها تسيّرها، وانسانيتها تضغط على زنادها، بندقية ثمنها اغلى من ثمن المنظور من تاريخ القضية، ولها ارتباط بسيف علي. سنوات جهادية امضيتها في مقارعة الجهل والطغيان، تصاغرت امام ابتسامتك كل خطابات رموز النضال، فأنت الفارس الذي يخجل من مواربة الموت او الحيود عنه، ولعل تلك الصفة هي التي دعت الموت ان يستعجلك، يبدو أنه خجل منك فاراد ان يأخذك شهيدا صابرا محتسبا. لست داعية له، بل كنت للحياة مناصرا. عشقتها وعشقتك، وابتسامتك شاهد على تلك الحقيقة. وأي حقيقة نعيشها اصدق من موتك؟!..
ابراهيم؛ اناديك يا اخي وانا اعلم تماما من انادي، ثمانية واربعون عاما من البطولة والجهاد والنضال، من الكرم والشموخ والمعرفة، من الحضور في جميع الميادين, ومن السير في طريق تعرف أنه يوصلك للخلود في قلوبنا وقلوب العارفين.
اي اخ عديم الوفاء انا، إذ أنعاك بدمع جبان؟!.. اليس من واجب الاخ ان يمضي حيث النهاية مع اخيه؟! فكيف بقيت هنا ارثيك يا فرحتنا المدفونة تحت التراب؟!..
إبراهيم.. هل يحق لي أن اخاطبك، أم أن الحديث انتهى منذ تلك اللحظة التي طلبت فيها (جعفر) بإلحاح؟.. إن منعتني من الذكرى، فقد تركتها متناثرة بين أعين المحبين، وإن حجزت عني الخصال، فزهدك ورفضك لأي امتياز مادي او معنوي يمنع ذلك الحجز. كنت نهرا جاريا لم تلوثه شوائب الحياة. اخي؛ إنّ المتعة الحقيقة التي نعيشها اليوم تتلخص بجنبتين: الاولى لهج اسمك، والثانية البكاء على فراقك!.. قال لنا محب: لستم اول من فقد عزيزا ولن تكونوا آخر الفاقدين. نعم، لقد اقترب من الحقيقة كثيرا، لكنه لم يعش تلك اللحظات الثقال، لم يتنفس من صدرك ليعرف حجم الألم الذي اعتمر في صدورنا. وهل تنسى فتحة عينك الاخيرة وأنت تبحث عن قليل من الاوكسجين؟!.. وكيف لنا أن نرى (حمودي) وهو يحملك بين ذراعيه ليحميك من الموت وليصد سهم القضاء عن جسدك المعذب بالمرض. ذلك المشهد ضاعف الألم، ومثل خزيناّ اضافيا من الوجع والدموع. دموع (حور) وهي تفيض بلا وعي على غفوتك الاولى في الساعة الثالثة فجرا، تبين بعد حين انها كانت تعي وتدرك ما يجري، ولكن خصالك في الصمت شملتها، فكانت (حور) اكثرنا حزنا وألما. الوجع عندما يشتد يفقد صاحبه القدرة على البكاء او الكلام او حتى الصراخ، وهي كانت هكذا!..
صحيح أنها صامتة, غير أنّها ليست أكثر صمتا من تلك الأشجار التي حرصت على تربيتها في دارك الموحشة بفقدك. كل شيء بعدك مقفر, الدار, والدروب الموصلة إليه, حتى خطواتنا إلى بيتك مترنحة, وكأنها تحمل شيء من مرضك وآلامك.
ابراهيم.. لقد ثبّت موتك الهم في قلوبنا وجعله جزءا منها, ولعل هذا عزاء لنا, فكم بحثنا عن سبيل لتقاسم المرض معك, وحمل القليل من الأوجاع التي حملتها.. ها هو الحلم يتحقق, فالاشهر الاربعة التي قضيتها مع المرض, درّبت ارواحنا على حمل المصيبة وتحمل الفاجعة إلى الابد.
ابراهيم.. موتك علمنا أنّ الابطال لا يموتون صامتين، بل يكون لموتهم دوي ونحيب وعويل وبكاء طويل.
حديثك لن ينتهي وسوف نكمله.