23 ديسمبر، 2024 4:32 ص

لوعة الذكرى والفراق الأخير! ‏

لوعة الذكرى والفراق الأخير! ‏

‏(ما بعد دفن الأخ ليس كما قبله)‏
فوق أمواج الغياب، تكسّرت سفينة الأخوّة والدفء؛ وها نحن نحاول، عاجزين، احصاء تلك ‏الخسائر التي أحدثها رحيلك المفجع!..‏

‏ ما زالت بعض خلايا الدماغ عصية على إدراك ماحصل، وعاجزة عن الانفتاح على واقع اسود تركه غيابك. ‏سواد غليض لا تخترقه أشعة النور، ذلك الذي صنعته شهقتك الأخيرة!..‏

‏ آه، ليتها تنسى، تلك الشهقة التي كانت جواز سفرك الى العالم الآخر. فجر تلفع بالسواد، إنه ‏السادس من آب المفجع، آب وكما يلهب الاجساد بحرارته، سجّر نيران الحزن بفقدك داخل ارواحنا ‏الحانية. إبراهيم.. لقد غيّبك الموت، وقبله اضناك المرض، وفي تلك اللحظات العصية كنت تأمل ‏بحياة اطول، تحدثنا عن مواقع جديدة للسياحة والاستجمام، وانت تحمل عصاك تتوكأ عليها لتعينك ‏على ما فعله السرطان بجسدك الغض. ما يأست، وما استسلمت، كنت صابرا لآخر لحظة، ومناديا ‏لجميع الذكريات، علّها تحط في نقطة الوداع لتزيح الستار عن الماضي والمستقبل. كيف لا، وانت ‏هو!..‏

‏ ذلك البطل الذي أدمن اليتم منذ الثامنة. يتمٌ انساني لم يألفه غيرنا، وذلك هو من صنع منك تاريخا ‏لن ينسى. فما حانت الثامنة عشر من عمرك القصير، حتى حملت بندقية تعرف من تستهدف، ‏بندقية عقيدتها تسيّرها، وانسانيتها تضغط على زنادها، بندقية ثمنها اغلى من ثمن المنظور من ‏تاريخ القضية، ولها ارتباط بسيف علي. سنوات جهادية امضيتها في مقارعة الجهل والطغيان، ‏تصاغرت امام ابتسامتك كل خطابات رموز النضال، فأنت الفارس الذي يخجل من مواربة الموت ‏او الحيود عنه، ولعل تلك الصفة هي التي دعت الموت ان يستعجلك، يبدو أنه خجل منك فاراد ان ‏يأخذك شهيدا صابرا محتسبا. لست داعية له، بل كنت للحياة مناصرا. عشقتها وعشقتك، وابتسامتك ‏شاهد على تلك الحقيقة. وأي حقيقة نعيشها اصدق من موتك؟!..‏

‏ ابراهيم؛ اناديك يا اخي وانا اعلم تماما من انادي، ثمانية واربعون عاما من البطولة والجهاد ‏والنضال، من الكرم والشموخ والمعرفة، من الحضور في جميع الميادين, ومن السير في طريق ‏تعرف أنه يوصلك للخلود في قلوبنا وقلوب العارفين.‏

‏ اي اخ عديم الوفاء انا، إذ أنعاك بدمع جبان؟!.. اليس من واجب الاخ ان يمضي حيث النهاية مع ‏اخيه؟! فكيف بقيت هنا ارثيك يا فرحتنا المدفونة تحت التراب؟!..‏

‏ إبراهيم.. هل يحق لي أن اخاطبك، أم أن الحديث انتهى منذ تلك اللحظة التي طلبت فيها (جعفر) ‏بإلحاح؟.. إن منعتني من الذكرى، فقد تركتها متناثرة بين أعين المحبين، وإن حجزت عني ‏الخصال، فزهدك ورفضك لأي امتياز مادي او معنوي يمنع ذلك الحجز. كنت نهرا جاريا لم تلوثه ‏شوائب الحياة. اخي؛ إنّ المتعة الحقيقة التي نعيشها اليوم تتلخص بجنبتين: الاولى لهج اسمك، ‏والثانية البكاء على فراقك!.. قال لنا محب: لستم اول من فقد عزيزا ولن تكونوا آخر الفاقدين. ‏نعم، لقد اقترب من الحقيقة كثيرا، لكنه لم يعش تلك اللحظات الثقال، لم يتنفس من صدرك ليعرف ‏حجم الألم الذي اعتمر في صدورنا. وهل تنسى فتحة عينك الاخيرة وأنت تبحث عن قليل من ‏الاوكسجين؟!.. وكيف لنا أن نرى (حمودي) وهو يحملك بين ذراعيه ليحميك من الموت وليصد ‏سهم القضاء عن جسدك المعذب بالمرض. ذلك المشهد ضاعف الألم، ومثل خزيناّ اضافيا من ‏الوجع والدموع. دموع (حور) وهي تفيض بلا وعي على غفوتك الاولى في الساعة الثالثة فجرا، ‏تبين بعد حين انها كانت تعي وتدرك ما يجري، ولكن خصالك في الصمت شملتها، فكانت (حور) ‏اكثرنا حزنا وألما. الوجع عندما يشتد يفقد صاحبه القدرة على البكاء او الكلام او حتى الصراخ، ‏وهي كانت هكذا!..‏

صحيح أنها صامتة, غير أنّها ليست أكثر صمتا من تلك الأشجار التي حرصت على تربيتها في ‏دارك الموحشة بفقدك. كل شيء بعدك مقفر, الدار, والدروب الموصلة إليه, حتى خطواتنا إلى بيتك ‏مترنحة, وكأنها تحمل شيء من مرضك وآلامك. ‏

ابراهيم.. لقد ثبّت موتك الهم في قلوبنا وجعله جزءا منها, ولعل هذا عزاء لنا, فكم بحثنا عن سبيل ‏لتقاسم المرض معك, وحمل القليل من الأوجاع التي حملتها.. ها هو الحلم يتحقق, فالاشهر الاربعة ‏التي قضيتها مع المرض, درّبت ارواحنا على حمل المصيبة وتحمل الفاجعة إلى الابد. ‏

ابراهيم.. موتك علمنا أنّ الابطال لا يموتون صامتين، بل يكون لموتهم دوي ونحيب وعويل وبكاء ‏طويل.‌‎ ‎

حديثك لن ينتهي وسوف نكمله.‏