اتفقنا ام اختلفنا مع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان وبغض النظر عن الاتهمات التي نوجهها له بدعم الارهاب في العراق وسوريا وعلى قاعدة “ولا يجرمنكم شنأن قوم على ان لا تعدلوا” فان الحقيقة يجب ان تقال, فالرجل انتشل تركيا من الحضيض الاقتصادي والسياسي وحولها في غضون عقد من بلد غارق في الديون الى بلد يمتلك فائضا ماليا كبيرا واجرى العديد من الاصلاحات في قطاعات الصحة والتعليم والاستثمار, علاوة على تحويل تركيا الى لاعب اساسي في المنطقة ,ةالعالم وليس تابعا ذليلا لاميركا كما كانت. ولكن الحكام محكومون بسنن كونية, وأعراض دار الحكم التي يطلق عليها سيد العارفين علي بن ابي طالب اسم بيت الخبال او دار الخبال أصابت اردوغان كما اصبت غيره, فما دخله احد الا وفقد عقله وخُيل له ان وراه قوى غيبية تدعمه فيما يعمل,و مما يجعله يمضي بخطوات تزداد فيها العثرات على حساب الاصلاحات تدفعه هتافات المناصرين والمعظمين له اكثر من دوافع الاصلاح, فيتحول مع الوقت من راعياً الى حاكماً ومن حاكما الى دكتاتوراً ومنه الى طاغية.
بامكان وصف مرحلة اردوغان بانه كان يحاول العبور من مرحلة الدكتاتورية الى مرحلة الطغيان ولكن كانت امامه عقبات كبرى من اصوات برلمانيين كرد واحزاب مناوئة له منها حزب خصمه صديق الامس فتح الله غولن. ومع كل انجاز كان يحققه اردوغان كان حلم اعادة الامبراطورية العثمانية يراوده ولذلك مع كل سنة من حكمه كان يعمل على تقليم أظافر الخصوم, فبدأ بالمؤسسة العسكرية وشن حملة اعتقالات عشوائية كبرى في صفوف الجيش وأحال العديد من جنرالات المعسكر القديم الى التقاعد واستبدل اخرين بموالين له شخصيا او موالين لحزبه.
لم يتوقف الامر عن هذا الحد فقد تحولت تركيا من السلبية في علاقاتها الخارجية الى الفعالية فتدخلت في الشأن السوري وكانت ممن اشعلت فتيل النزاع المسلح في سوريا بعد ان كانت التظاهرات سلمية, فدعا جهاراً الى اسقاط بشار الاسد محاولا ابراز نفسه كمدافعاً عن السنة في العالم رغم رفضه للتدخلات الخارجية في شؤون بلده, وهذا سمح لنفسه بعقلية السلطان العثماني بالتدخل سياسيا وعسكريا ولوجستيا في الحرب الاهلية السورية. لم يقف الامر عن هذا الحد بل لايختلف اثنان في الغرب والشرق ان اردوغان هو من ساهم في خلق داعش بتمويل سعودي قطري وفكر وهابي وسمح لعشرات الالاف من المقاتلين الاجانب بالعبور الى سوريا والعراق مجهزين بالاسلحة الحديثة في نفس الوقت كان هو المستفيد المباشر من صفقات تهريب النفط الداعشي من خلال شبكة من الشاحنات تبلغ اكثر من الفي شاحنة تنقل النفط السوري والعراقي بسعر زهيد الى افراد عائلته وشبكته المالية. وفي المانيا لا يشك اي سياسي بالدور المباشر للرئيس التركي في دعم الارهاب ولكنه لعب لعبة اللاجئين ففتح الباب على مصراعيه لملايين اللاجئين واغرق اوروبا بهذا السيل غير المنضبط مما جعل المستشارة الالمانية ميركل تذهب اليه ذليلة مستجدية عونه في وقف الزحف المليوني لللاجئين, وهي التي كانت تقف لسنوات في طريق انضمام تركيا للاتحاد الاوربي. وهكذا حقق اردوغان نصرا بعد نصر وجاءه الاتحاد الاوروبي بعظمته مستجديا عونه عارضا عليه الاموال وحرية السفر للمواطنين الاتراك دون فيزا وتسهيلات كبرى من اجل حل مشكلة الللاجئين لتثبت اوروبا ان الحديث عن الانسانية وحقوق اللاجئين مجرد شعارات هوجاء تتوقف حال ان يُطلب منها تنفيذه. بهذا استطاع اردوغان كسب شعبية كبيرة في الاوساط التركية ولكن هذا لا يكفيه فهو يريد ان يتحول الى حاكم مطلق مدى الحياة وليس امامه سوى طريق الرئاسة وبما ان النظام السياسي التركي هو برلماني والرئيس لا يتمتع بصلاحيات سوى رمزية مقابل امكانية بقائه لدورات غير محدودة في السلطة فكان هدفه تحويل النظام الى نظام رئاسي يمتلك فيها الرئيس صلاحيات مطلقة فيكون بهذا فتح اباب امام بقائه في الحكم دون حدود.
لكن مالذي يدفعنا الى الاعتقاد الى ان الانقلاب كان مدبرا من قبل اردوغان نفسه؟
علينا العودة الى ما قبل الانقلاب بحوالى سنة فقد تعرض حزب اردوغان الى انتكاسة في اخر انتخابات بسبب سحب الكرد للاصوات الداعمة له بعد ان شن حربا شعواء ضدهم ففقد اغلبيته البرلمانية فقام بتعطيل تشكيل الحكومة لمدة شهرين رافضا الائتلاف مع اي حزب من اجل التمهيد لانتخابات مبكرة حسب الدستور التركي وقام قبل اعادة الانتخابات بحملة اعتقالات بتهمة الارهاب لاعضاء عديدين من الاحزاب الكردية وقصف مناطقهم بقوة مما جعلها غير قابلة لاجراء الانتخابات وهكذا اخرجهم من معادلة الانتخابات ولكن رغم هذا اجتازت الاحزاب الكردية حاجز ال10% وبقيت في البرلمان وهذا ما اغاضه كثيرا فقام بسحب الحصانة من اكثر من خمسين نائبا كرديا في ليلة وضحاها بعد ان كشف صحافيين كرديين عملية تهريب اسلحة الى داعش وتم تصوير العجلات التي تحمل الذخائر على الحدود فاتهمهم بالارهاب وزج بهم في السجون رغم انه يدعم الارهاب في العراق وسوريا. لم تقف اخطاء اردوغان عند هذا الحد فقد اغاظ الاوروبيين كثيراً عندما رفع دعوى قضائية ضد صحافي الماني ساخر نشر قصيدة ساخرة منه وهدد بملاحقة من ينتقده على مستوى اوروبا باسم القانون طبعا وبهذا فقد وضع يده على العصب الحساس للعقلية الاوروبية التي تعتبر حرية التعبير اقدس من الدين. مضى اردوغان في تهوره فقام باسقاط مقاتلة روسية كانت تدك معاقل الارهابيين وتقطع خطوط تهريب النفط فتوقفت حركة التهريب وتم قطع امدادات الدواعش الاتراك في المناطق الحدودية ذات الاغلبية التركمانية مما اغاض اردوغان واعطى الاوامر باسقاك طائرة لم تكن في المجال الجوي التركي مما دفع الرئيس الروسي الى اعلان حزمة من العقوبات على تركيا منها منع اكثر من ثلاثة ملائيين سائح روسي من السفر الى تركيا ووقف استيراد الخضار والفاكهة وحزمة عقوبات قاسية ضربت عصب الاقتصاد التركي رافق هذا وقوع انفجارات عدة في العاصمة انقرة واسطنبول,ما دفع ملايين السياح الاوروبيين الى تعديل وجهتهم السياحية وتجنب تركيا علاوة على مشاكل سياسية كبيرة مع العراق وسوريا والولايات المتحدة وايران. فحماقات اردوغان المتتالية وضع تركيا في عزلة سياسية كبيرة وعانى الاقتصاد التركي من ركود لم يسبق له مثيل وانهارت الليرة التركية بنسبة 30%
تقريبا واصبحت الفنادق السياحية فارغة من مرتاديها. كل هذا دفع اردوغان الى التفكير في مخرج لان استمرار الحال بهذا الشكل سيدفع مناصريه الى التذمر ورفضه على المدى البعيد, فلجأ تحت ضغط الوضع الاقتصادي الى الاعتذار من روسيا وقبول دفع تعويضات اسقاط الطائرة دون اي تعهد روسي بالتطبيع كما لجأ الى أسرائيل وهو حال الاسلامويون في استعداهم للتعامل مع الشيطان للبقاء في الحكم. في هذه الاثناء كانت معلومات اردوغان تشير الى تراجع شعبيته خاصة مع فشل محادثاته مع الاتحاد الاوروبي في منح الاتراك حرية السفر دون فيزا على خلفية رفضه تنفيذ مطالب الاتحاد الاوروبي في تعديل قانون مكافحة الارهاب واستثناء الصحافيين وناقديه من الملاحقة, فشعر ناخبيه ان وعوده بدأت تتبدد وان تركيا تعاني من مشاكل جدية كما انها تأوي ثلاثة ملايين لاجيء سوري كان يستغلها كورقة ضغط على الاتحاد الاوربي. فلم يعد بامكانه استخدام الورقة بعد ان اغلقت دول اوروبا الشرقية والبلقان حدودها بالاسلاك الشائكة في وجه اللاجئين. فوقع اردوغان في ورطة كبرى فلاحصل على وعود الاتحاد الاوروبي ولا احتفظ بقدرة المناورة معهم. فكانت الهزائم السياسية تتوالي والعزلة تزداد, فلابد من حدث يحرك المشاعر التركية الشرقية من خلال نسج مؤامرة ضده ليخرج الى جمهوره على انه مظلوم وان الكل ضده لان يريد اعادة تركيا الى الواجهة العالمية كلاعب عالمي ومتبوع ليس تابع.
ماهي المؤشرات على كون الانقلاب مفبركاً؟
حدثت في تركيا خمسة انقلابات ناحجة في العقود الخمسة الماضية وهي في عام 1961 1971 و1980و1997و2003 وكلها كانت انقلابات مخططة باحكام وناجحة ادت الى استلام الانقلابيين للحكم ومن ثم تسليم الحكم الى حكومة منتخبة تحت اشراف العسكر تضمن البقاء على العلمانية الاتاتركية وهذا يعني ان المؤسسة العسكرية التركية متمرسة على الانقلابات وتنفيذها. المؤاخذات على هذاالانقلاب كثيرة نحاول ايجازها:
لقد اعلن اردوغان مرارا خلال سنوات حكمه عن تفكيك خلايا انقلابية في الجيش وزج خصمائه في السجون ولا احد يعلم ان كانت هناك فعلا محاولات انقلابية ضده ولكنه استعمل هذه التهمة لزج العسكر في السجون او احالتهم على التقاعد ضمن عملية تطهير الجيش من خصومه مثلما كان يعمل بشكل متوازي على تطهير البرلمان من مناهضي سياساته. ولكن في نظره لم تتطهر مؤسسة عسكرية مخضرمة كالجيش التركي تماماً وهذا ماكان يقلق اردوغان وما كان يقلقه اكثر هو حزب خصمه الاسلامي الذي انقلب ضده فتح الله غولن. فكان عليه ضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد والعصافير هي اولا كشف الخلايا النائمة في الجيش, اتهام فتح الله غولن بالانقلاب, توحيد الاتراك خلفه بالتلاعب بمشاعرهم من خلال تصوير عملية مؤامرة ضد تركيا وهذا ما تحقق له.
الانقلاب لم يكن محبوكاً وكان فاشلا بكل معنى الكلمة, يقول اودو شتاين باغ الخبير الالماني في الشؤون التركية لمجلة فوكس اونلاين الالمانية, ان الشكوك كبيرة حول كون الانقلاب مدبرا من قبل اردوغان نفسه فلماذا لم يقم الجيش بقطع الجسرين الرابطين بين الجزء الاسيوي والاوروبي بشكل كامل؟ كما انه من المستغرب عدم قطع وسائل التواصل الاجتماعي والاتصالات, وعدم وجود سلم اوامر للوحدات الانقلابية فهي كانت وحدات مفككة لاتعرف ماذا عليها ان تعمل بخلاف الانقلابات السابقة.
علاوة على هذا فمن اكثر النقاط اثارة للدهشة هي عدم اقدام الانقلابيين على قصف مقره رغم علمهم بمكان وجوده والاغرب ايضا السماح لطائرته بالهبوط في مطار اسطنبول وعدم اسقاكها رغم تحليق مقاتلات الانقلابيين في سماء اسطنبول وفوق هذا كله فان اول تصريح له من خلال وسائل التواصل الاجتماعي هو ان الانقلابيين سيدفعون ثمنا باهضاً واشارته باصابع الاتهام الى خصمه فتح الله غولن دون ان يعرف من فعل الانقلاب ورغم نفي غولن في تصريح علني علاقته بالانقلاب. كما انه من المضحك جدا ان لايقوم الانقلابيون بالسيطرة على وزارة الدفاع والداخلية ومقر المخابرات او قصفها على الاقل بشكل لا يسمح لها بالعمل!
عشرات علامات الاستفهام على الانقلاب, ولم يعرف بعد من قتل في هذه الاحداث. هل قام اردوغان من خلال خلايا اغتيالات خاصة او من خلال الجيش المناصر له بقتل مناوئيه من العسكر ومن السياسيين المدنيين واظهار الامر على انه حدث ضمن عملية المواجهة رغم اننا لم نرى اية مواجهة سوى اطلاق عيارات نارية في الهواء وسقوط بعض المناصرين على الارض.
يبدوا من كل هذا ان الانقلاب كان مدبرا. لقد كانت عملية انتقامية غير دستورية قام بها اردوغان بالتخلص من خصومه الاساسيين ويبدوا ان الاوروبيين يروق لهم هذا فهم دعوا في بيان الى احترام المؤسسات الدستورية الديمقراطية وظهر اردوغان وكانه المحافظ على الديمقراطية وراعيها المظلوم. الولايات المتحدة تناغم موقفها مع اوروبا وبهذا ارسل الرئيس التركي رسالة الى كل العالم مفادها انا الحاكم المطلق في تركيا ومن لايعجبه فليبلط البحر.
ان موقف اردوغان بعد الانقلاب المفبرك اقوى بكثير داخليا ولكنه اضعف خارجيا, حيث تحولت تركيا من بلد مستقر نسبيا الى بلد تهزه الفوضى ولا ندري ماذا سيكون موقف المغدورين من ساسة وبرلمانيين وعسكر وكيف سيردون عليه. هل سنشهد انفجارات اكثر كما يحدث في العراق؟ لن يكون الوضع السياسي التركي باي حال اهدأ مما قبل الانقلاب وستعاني تركيا من تبعات الازمة الاقتصادية وستحول ربما التدخل عسكريا في سوريا لاقامة منطقة عازلة بعد التفاوض مع روسيا سرياً لاعادة اللاجئين السوريين الى بلدهم ضمن مناطق امنة معترف بها دوليا وقد تحجم داعش في تلك المناطق وتبقيها في مناطق اكثر حساسية للعراق وسوريا لتلعب لعبة الارهاب المزدوج دعم ومكافحة في ان واحد.
المؤكد ان اردوغان لعب بالنار لعبة كبيرة واستطاع ان ينجو منها الى الان فالى اي مدى يستطيع اللعب دون ان يحترق بناره؟ الفترة القادمة حبلى بالمفاجئات.