كثيرة هي الاسئلة التي اثيرت حول اسباب ترك اميركا تنظيم داعش يتمدد في العراق وسوريا ولم تتدخل الا عندما اقترب من محرمات اربيل ، ولماذا زاد جهد التحالف في عين العرب ؟ ثم ظهرت كتابات ودراسات كثيرة ترسم علامة استفهام على الستراتيجية الاميركية في محاربة الدولة الاسلامية وانتقد الكثيرون المدة الطويلة التي وضعتها اميركا لهذه الحرب ، والبعض راح الى اتهام اميركا بسوء النية في محاربة الدولة الاسلامية .
لكن النظرة العلمية المتفحصة ، عندما نتناول الموضوع بعين مهنية من منظور ستراتيجي نرى ان المقاربة الاميركية هذه هي الوحيدة المتوفرة ….فلم يكن وراء ادارة اوباما من ستراتيجية اخرى الا ” اللاستراتيجية ” هذه كما وصفها اوباما ..دون ان يعني ذلك انها لا تعمل او مجرد ستراتيجية عشواء .
الحقيقة ان اميركا صنفت تنظيم داعش ضمن مايعرف بـ ” الجناح اليميني العالمي ” المعارض للعولمة بقيادة اميركا (دون ان يمنعه ذلك من استخدام ادوات العولمة خاصة تقنيات المعلومات على نطاق واسع في كل عملياته ) ..لذا صنّف بانه تنظيم معاد لاميركا نسبيا لتمييزه على غيره من التنظيمات الجهادية التي يتضمن خطابها تصريحات واضحة بالعداء للغرب …فغضت النظر عن تمدد التنظيم في سوريا ولاحقا في العراق ، وعن الدول التي تقدم له المعونة اللوجستية مادام التنظيم ضمن حدود السيطرة ويخدم مصالح اميركية غير مباشرة في مقاتلة الجيش العربي السوري …
لكن المشكلة التي ينشأ منها خطأ تعامل الدوائر الاستخبارية الغربية مع التنظيمات الجهادية ..تكمن في الطبيعة العقائدية لهذه التنظيمات والتي تجعل التنبؤ بسلوكها مستقبلا امرا صعبا ….حدث هذا مع القاعدة ومع داعش ومع النصرة وغيرهم..وفي وقت سريع جدا اصبحت داعش تهدد حلفاء اميركا في المنطقة ( العراق ودول الخليج ) وتهدد الحليف الجديد الاقرب ( كردستان ) الذي سيكون له شانا كبيرا في الستراتيجية الاميركية الشرق اوسطية خلال 10 -15 سنة قادمة. كما بات خطر الجهاديين الغربيين واضحا ..
ومايثير دهشتي هو ان الاميركان يملكون اكبر خبرة في التعامل مع مثل هذه التنظيمات ولهم مراكز بحوث متخصصة لدراستها واطلعت شخصيا على اعمال مركز دراسات الحركات الجهادية ومنشورات مركز محاربة الارهاب في كلية ويست بوينت العسكرية حيث تم تفريغ عدد من المحللين ذوي الخبرة لسنوات درسوا فيها كل كتابات وخلفيات مفكري الحركات الجهادية والعقائدية بالعمق ….وجمعوا كل المصادر المتوفرة عن القاعدة وغيرها على الانترنت وكل المؤلفات في هذا المجال ودرسوا اساليب قتالها ..لا بل ودرسوا شخصيات مئات الحركات الجهادية …ونتيجة جهدهم وضع اطلس عسكري عقائدي وكتالوج يحتوي اكثر من 1100 تصنيف وتوصلوا الى بعض الاكتشافات الجديرة بالذكر هنا ومنها :
– اغلب مفكري الجهاد ودعاته هم رجال دين من الاردن والسعودية …أقرب حليفين لاميركا في الشرق الاوسط .
– ابو محمد المقدسي هو الاكثر تاثيرا على اكثر طبقات الفكر الجهادي وله الفضل في الانتشار العالمي للفكر الجهادي . فيما تبين ان اسامة بن لادن والظواهري كان تاثيرهما اقل بكثير على المنظرين الجهاديين وعلى استراتيجية الحركات الجهادية.
– ان تنظيم داعش له هيكلية قيادة وسيطرة سيالة وغير مركزية ، وبالعكس من الجيوش الاعتيادية تضيع فيه المستويات التكتيكية والعمليانية والستراتيجية ..وفي حين تعمل الجيوش وفق هدف ستراتيجي يجمع كل الاهداف التكتيكية ، فان داعش تعطي القيادة الدنيا صلاحيات واسعة لتتصرف وفق مايمليه الموقف التكتيكي …ثم يتم التمدد على النجاحات التكتيكية المتحققة للقرار على الاهداف اللاحقة .
وعليه فان اساليب الحرب التقليدية قد لاتعمل جيدا في قتال مثل هذه المجموعات التي تعمل بزمر قليلة وتتبنى الاندفاع السريع والمباغتة والعنف البالغ والعمليات الانتحارية والدعاية عبر الانترنت …لذا يفرض ذلك تطوير ستراتيجيات خاصة
تزداد فيها مساحة المجهول ..ومهما تكون الخطط محكمة ، قد تبرز مجموعة اخطاء اذا لم تعالج فورا تؤدي الى فشل كبير …
الاخطاء تحصل بالقراءة السيئة للظروف التاريخية والثقافية والسياسية وغيرها في بيئة القتال …اعطي مثلا على ذلك:
اميركا تمتلك وسائل متعددة ومتطورة للرصد وجمع المعلومات …والمعلومات ان لم تتحول الى استخبارات صحيحة تفيد القائد في الجبهة والمقاتل في ارض المعركة فلا فائدة منها …هنا ياتي دور محلل المعلومات فهو يتعامل معها ( مهما كان مهنيا ومدربا ) بخلفيته الثقافية والاجتماعية الاميركية ….فصورة حشد من المدنيين المسلحين يطلقون النار في الهواء يفسر من وجهة نظره بتحشد معادي وترسل القوات لضربه ليظهر انه مجرد حفل عرس جرت العادة على اطلاق النار فيه في بلدان مثل العراق وافغانستان . الطيار او الجندي في ساحة المعركة معبأ بفكرة ان العدو يتربص به فرؤية رجل يوجه زوم كاميرته للتصوير تفسر فورا بانه سلاح مضاد للجو او للدروع ويتم التعامل معه بالنار ( حادث ساحة النسور والصحفيون الذين لقوا مصارعهم في تغطية الاحداث ) .
وهذا جواب للمتشككين ، فالتكنولوجيا المتطورة والمهارات القتالية ليست كل شيء في ميدان معركة سيال ومتغير كالصراع مع مجموعات مثل داعش …
ثمة امر اخر …في المعارك بين جيوش نظا مية يتم حساب الكلفة والتاثير بدقة …فالحاق خسائر بنسبة 50 الى 60 بالمئة في اي وحدة او تشكيل معادي يعني اخراجها من القتال فعليا …وضرب المنشات الكبيرة باسلحة غالية امر مبرر …لكن كيف تحسب الكلفة والتاثير ضد عدو يسير بقوافل من 2-3 سيارات بيكاب وينتشر على مساحة كبيرة وليس له منشات او مقرات او معسكرات ثابتة ودائمة ومعروفة ..فصاروخ هيل فاير مثلا المستخدم من التحالف في ضرب سيارة لداعش ، وصاروخ التوماهوك لضرب بناية صغيرة يتجمع فيها بضعة افراد ( مبنى محافظة الرقة مثلا ) وصواريخ ضد حراقات النفط البدائية في دير الزور التي لا تزيد كلفة الواحدة منها 30 الف $ ….امور تجعل كلفة الحرب النظامية ضد تنظيم جهادي يستطيع افراده الاختباء في المغاور والحفر او وراء اي حجر امر باهض الكلفة بل ويحولها الى حرب استنزاف حقيقية …وهذا امر يعيه الاميركيون جيدا .
البنتاغون يعي جيدا انه بدون قوات على الارض تصبح الحرب طويلة ومكلفة …فالتنسيق الارضي الجوي واستخدام الوحدات الخاصة في عمليات منسقة تعتمد على الاستخبارات المجمعة من الارض هي الوسيلة الوحيدة لمقاتلة داعش وتحقيق النجاح الحاسم …لكن القرار الاميركي واضح : عدم ارسال قوات اميركية مرة اخرى الى العراق لتعهدات قطعتها ادارة اوباما للشعب الاميركي …وان استمرت العمليات الحالية فقد يكون لخليفة اوباما راي اخر وعندها يكون للحديث مجرى اخر ..
اذن لا بد لاميركا من الاعتماد على حلفائها المحليين : الجيش العراقي والبيشمركة .
الجيش العراقي تنقصه امور عدة اهمها التدريب والمعدات وتعويض الاسلحة التي فقدها ورفع معنويات الجنود والاهم بناء هيكلية قيادة جديدة مهنية غير فاسدة وبعيدة عن التوجهات السياسية …اعادة تدريب الجيش العراقي وتطوير خبراته في مقاتلة عدو في حرب غير نظامية في المدن وفي مناطق مفتوحة تحتاج الى وقت طويل وهي مهمة صعبة جدا في ظل حالة التعصي الحالية على ابواب تكريت والرمادي والفلوجة وغيرها من المدن …واشراك الحشد الشعبي لا يصب الا في بلبلة هيكلية القيادة والسيطرة وله عواقب سلوكية وطائفية معروفة …وتاليف الحرس الوطني يحول العراق الى بلد ذي جيوش عدة وليس جيشا واحدا..
البيشمركة عبارة عن ميليشيا مصممة لحفظ الامن الداخلي ضمن كردستان وليس لها القدرة بادارة عمليات تعرض واسعة وبعيدة ، وهي الاخرى تفتقد التدريب والتسليح والتجهيز الجيد ، ومازالت تعتمد على المقاتلين القدامى الكبار في السن …كما ان استخدام البيشمركة في عمليات خارج حدود الاقليم تثير مشاكل عرقية وسياسية ..
كل هذه الامور كانت في وعي المخطط الستراتيجي الاميركي …لذا كان انشاء التحالف لكي تضمن اميركا عدم اتهامها بالتفرد في قرارات الحرب عالميا …والاعتماد على الضربات الجوية في هذه المرحلة لحين استكمال بناء القوة العراقية والكردية ( وربما السورية ) التي قد تستغرق 3-5 سنوات …فالضربات الجوية المستمرة ( على كلفتها العالية ) ستؤدي الى :
– ايقاف تقدم الدولة الاسلامية مرحليا ثم تحديد توسعها والمناطق التي تسيطر عليها .
– استنزاف موارد داعش من النفط والتهريب …وتعريض معداتها وافرادها الى خسائر يومية تؤدي على المدى البعيد الى تقويض قدراتها على شن هجمات منسقة وقوية وضرب معنويات مقاتليها العالية ..
– اجبار الدولة على الانتشار الواسع لتفادي الضربات مما يولد ثغرات في خطوط دفاعها يتم توجيه قوات الجيش والبشمركة اليها لتعزيز النجاحات التكتيكية .
– قضم المناطق التي تسيطر عليها الدولة تدريجيا فيفقدها ذلك ميزات ستراتيجية وتعبوية عدة .
– توقف نجاحات الدولة العسكرية سيقوض سمعتها العالمية وبالتالي قد يقوض هذا قدرتها على تجنيد مقاتلين جدد من دول العالم ومن السكان المحليين .
– ان حملة القصف وتداعي سمعة الدولة ، سيؤدي بالحسابات الاميركية الى تفكيك التاييد السني في مناطق تواجدها ، وفي نفس الوقت تعمل الاستخبارات على سحب تاييد بعض القبائل السنية للدولة ثم تشجيعها لاحقا ( بالاغراءات المختلفة ) لمقاتلتها . ومما يعزز تفكك قاعدة الدولة الشعبية اجراءات الدولة التعسفية بحق المدنيين والنساء وتطبيقها الفض لحدود الشريعة واحكام الاعدام الكثيرة التي تصدرهابحق وبدون حق ..
– يعرف الاميركيون ان نقص موارد الدولة سيفرض صعوبات عليها في ادارة مناطق سيطرتها ، خاصة وان معظم التاييد لها وانتماء مقاتلين من تنظيمات اخرى اليها هو بسبب مواردها ونجاحها في اقامة الامن والنظام في مناطق سيطرتها على العكس من حالة انعدام الامن في باقي المناطق …
– الوقت الطويل المفتوح سيفسح المجال لاميركا في الضغط على الدول والشخصيات الداعمة لداعش لقطع دعمها وتطوير قدرات الجيش الحر والاكراد المعادين لها في سوريا …كما سيتاح لها فرض رقابة اكثر على قدرات د ا الدعائية وسيتاح للاستخبارات جمع معلومات اكثر تسهل العمليات الارضية .
ان الخطأ في ستراتيجية داعش برايي هي تحولها دون الاعداد الجيد للتحول من تنظيم جهادي مسلح يتميز بخصائص الولاء للفكرة والاندفاع في القتال بتكتيكات مبتكرة حققت له النجاحات المبهرة في السابق ، الى دولة ثقيلة تفرض ادارتها وتنظيماتها وتوسعها قيودا على ستراتيجية الدولة وانتشار قواتها ويحرمها من كثير من الميزات السابقة ، وهو مايعول عليه الاميركيون الذين لا مانع لهم من الانتظار في حرب استنزاف طويلة يستطيعون تحمل تكاليفهامع الحلفاء ، لكن الدولة لا تستطيع ذلك لهشاشة اقتصادها وقدراتها العسكرية ..
لكن حرب الاستنزاف الطويلة لها تداعياتها السلبية على العراق الذين سيكون ارض مفتوحة لمعارك كر وفر وعمليات تفجيرلفترة طويلة تنهش بنيته التحتية والبشرية ، قد تترتب عليها تغييرات ديمغرافية واصطفافات عرقية وطائفية واضحة …وماتخشاه اميركا هو الانزلاق ، اي عدم بقاء الامور ضمن حدود السيطرة حتى بمستواها الدنيا وعند ذاك تحصل الاخطاء التي قد تؤثر في محصلة الحرب النهائية ….وهذه الامور هي التي تحاول اميركا تجنبها …فهل تنجح ؟