أعرف جيداً أن مقالتي هذه سوف تثير إنزعاج البعض، وتهجّمات من البعض الآخر، وإتهامات شتى من آخرين، ولكن إبتداء أقول أن طارق الهاشمي ليس بحاجة إلى دفاعي، وأنا أثق بالقضاء العراقي الشامخ، برغم كل ما مرَّ عليه من محاولات لحرفه وتشويهه، لكن عملي المتواصل مع القضاء لأربعة عقود، وعلاقاتي المتينة، بالعشرات من خيرة قضاة العراق، تجعلني مطمئناً إلى أن العافية ما زالت موجودة بدرجة ما في قضائنا، وإن كنت لا أستبعد خضوع البعض منهم إلى التأثيرات السياسية والطائفية وضغوط الرأي العام الزائف التي تخلقها وسائل الإعلام للتدخل والتأثير على سير القضاء. كما أنني من خلال العمل التحقيقي تحت إمرة وإشراف القضاء العراقي، عقودا طوال، لا أنكر بأن هناك أخطاء قضائية حصلت ويمكن أن تحصل، فالقاضي (بشر) وحكمه هو إجتهاد، لذلك وضعت درجات للتقاضي وأتيحت الفرصة للمتقاضين بالتمييز والطعن في الأحكام لأن الحكم القضائي ليس مُنزها ولا مُنزلا…
أعود إلى قضية السيد طارق الهاشمي الذي أثيرت ضده تهمة التورط بأعمال إرهابية بشكل غريب، ومفاجئ، ويثير اللبس والشكوك في دوافع تصفيات سياسية حان وقتها وليس مقترنا بواقعة حصلت اليوم أو أمس واستدعت هذا الإجراء العاجل والغريب.
لا أحد مستثنى من حكم القانون، والكل حين يُجرم أو يُتهم بجرم ما، سيكون تحت طائلة القانون والقضاء والمحاكمة العادلة.. مهما كانت درجته ووظيفته.. هذا هو المبدأ الذي ننطلق منه في مناقشة قضية طارق الهاشمي.
هناك ثمة شكوك وشبهات تكتنف عملية ووقائع توجيه الاتهامات الى طارق الهاشمي وهو جزء من رئاسة الجمهورية، وبمنصب رفيع، وبإستخدام الإعلام الحكومي المسيّر من قبل الحزب الحاكم، وفي يوم رحيل الأمريكان، ولقضايا قيل أنها تعود إلى سنوات ماضية، وان ملفاتها كانت في أدراج رئيس الحكومة، ولم تظهر إلا في هذا التوقيت، ثم الاستخدام اللاقانوني واللادستوري للاعلام في بث إعترافات لمتهمين قيل أنهم من حمايات طارق الهاشمي، والتركيز على عبارات منتقاة تثير الشحن الطائفي، وتسيير مظاهرات مسيرة في عدد من المحافظات تطالب بـ((إعدام)) طارق الهاشمي وهو مازال متهما ولم يمثل أمام القضاء، ولا إدانة مؤكدة ضده.. ولاحظت إحدى الفضائيات تستخدم عنوان لمقابلة تلفزيونية بعنوان “جرائم طارق الهشمي”، الرجل ما زال بريئا لم تثبت إدانته….هذه كلها أمور تعني الكثير الكثير..
ولقد كتبت مقالة سابقة حول الإعترافات المتلفزة وخرقها للدستور وللقانون، فمن المؤكد قانوناً أن نشر أو بث إعترافات المتهمين وهم مازالوا في أول مرحلة من مراحل التحقيق الابتدائي يضر بسير العدالة ويجعل التحقيق خاضعا لأهواء وضغوطات الرأي العام الذي قد يشكل عامل ضغط على القضاة في اصدار احكامهم متأثرين بضغوط الرأي العام أو بالضغوط السياسية للأحزاب والتكتلات وضغط السلطة التنفيذية (الحكومة) التي تريد تحقيق مكاسب انتخابية او سياسية من عرض اعترافات على شاشة محطاتها وهي متصلة بقضايا لازالت لم تصل حد الحسم القضائي.
لاصحة للقول السائد لدى البعض من “أن الإعتراف سيد الأدلة”، بل هو دليل من ضمن الأدلة يجب أن يقترن بالكشوفات والأدلة المادية والمعنوية، وللاسف هو اعتقاد شائع لدى الناس ولدى كثير من ضباط الشرطة والأمن الذي يمارسون التحقيق وللأسف لدى بعض القضاة قليلي الخبرة، بأن الأعتراف هو سيد الأدلة ، ولهذا يسعى المحققون الى أنتزاع أعتراف المتهم أو المشتبه به بأية وسيلة، وكأنه الحقيقة التي لا يساورها الشك ويسلم الجمهور عادة دون أعتراض عند سماعه ومشاهدته المتهمين وهم يدلون بأعترافاتهم ، ولهذا دأبت النظم الدكتاتورية على عرض أعترافات منتزعة بواسطة التعذيب على شاشات التلفزة، غير أن ذلك الاعتقاد أثبت عدم صحته بالنظر إلى المبادئ القانونية الحديثة فى القضاء، ذلك أن القاضى ينبغي أن يحكم بناء على ما يستقر فى ضميره وما تتولد لديه من قناعات. لذا فالقانون لا يلزم القاضي بالأخذ باعتراف المتهم فى جميع الأحوال، خصوصا إذا ما وجِدت أدلة أخرى تنفى صحة هذا الأعتراف أو تتعارض معه، وأن تكون قناعة القاضى مبنية على أسباب قوية ومدعمة بأدلة واقعية وليست مبنية على الأجتهاد الشخصي والتخمين، والاكثر أهمية هنا هي شروط الاعتراف وفي مقدمتها وأهمها أن يكون الاعتراف أمام قاضي التحقيق ثم امام المحكمة المختصة.
الفقهاء القانونيون يؤكدون أن الاعتراف في المسائل الجنائية لا يخرج عن كونه عنصراً من عناصر الدعوى الذي يملك القاضي الجنائي كامل الحرية في تقدير صحته وحجيته وقيمته التدليلية على المعترف، وتقدير ما إذا كان قد انتزع بالإكراه من عدمه. وكثيرا بل كثيرا جدا، ما رفضت المحكمة الأخذ باعتراف المتهم، كونه تراجع عنه او انه ثبت للقاضي بان الاعتراف تم انتزاعه بالاكراه، لذا لم تطمئن المحكمة في وجدانها لإقرار المتهم بالذنب وأعترافه.
إن الإعترافات التي أدلى بها تلفزيونيا، عناصر حماية طارق الهاشمي، لمذيع القناة وليس لضابط شرطة محقق، لاتصلح كدليل أتهام لرجل يشغل منصبا سياديا مرموقا في الدولة (نائب رئيس الجمهورية) في تطور خطير هو الأول من نوعه في العملية السياسية ، أن يكتشف العراقيون بين ليلة وضحاها ، أن نائب رئيس الجمهورية أرهابي قاد ودبر الكثير من العمليات الأرهابية ، أغتيالات وتفجيرات طالت مسؤولين في الدولة فضلا عن مواطنين أبرياء.
لاشك أن الإعترافات التلفازية جرى إنتزاعها في ظروف غير شفافة في أحسن وصف لها، أنتزعها محققون موالون لرئيس الوزراء ووزير الداخلية بالوكالة، وثبت أن القاضي لم يعطي الإذن لبث الاعترافات تلفزيونيا، كما ثبت ان التحقيق جرى من قبل قاض منفرد وليس هيئة كما زعم في الإعلام الحكومي لاحقاً، وهذه كلها قرائن تؤكد سوء النية، وتسييس القضية وكونها لاتخرج عن نطاق التسقيط السياسي والحزبي. هذا أقل ما يمكن أن يقوله مشكك في صدقية هذه الأعترافات ، وبالفعل فأن طارق الهاشمي وكتلته العراقية شككوا فيها وفي القضاة الخمسة الذين وقعوا أمر القاء القبض بحق الهاشمي. وانني من خلال خبرة اربعين عاما مع القضاء والشرطة والتحقيق أعرف كيف ينتزع البعض الاعترافات من الابرياء وبأية وسائل تقشعر منها الأبدان، وللتاريخ فإنني حين تم تعييني مديرا لشرطة بغداد عام 1993، أمرت جميع المراكز ومكاتب مكافحة الاجرام برفع كل السلاسل والقيود والادوات التي تستخدم في التعذيب، إلا أن ذلك لم يرق البعض بحجة أن نسبة الجرائم المكتشفة سوف تنخفض، ونتعرض للمسائلة من الوزارة، فقلت لهم لابارك الله في كشوفات كاذبة واعترافات تتحصل بوسائل خسيسة، وفعلا لم أمض سوى شهورا وعزلت عن المنصب لرفضي استخدام وسائل التعذيب التي يبدو أنها صارت جزءا من ثقافة وسلوك اجهزة الامن والشرطة في الماضي والحاضر!!!
إنه لأمر في غاية الخطورة، أن يجري اتهام شخصية بحجم طارق الهاشمي بتهمة القيام بأعمال إرهابية، والرجل كان أحد أبرز ضحايا الإرهاب، فقد إغتالت الميليشيات الحاكمة ثلاثة من أشقائه 2006، ويبدو كل شيء في العراق الجديد لم يعد قابلا للتصديق بعد أن اختلط حابل الحقائق بنابل الأكاذيب. والقصد اشعال التوتر الطائفي من جديد، فقد شاهدنا كيف أخرجت تظاهرات في محافظات الجنوب والوسط تطالب بإعدام الهاشمي، في حين خرجت تظاهرات في المدن الغربية والموصل تندد بالإتهامات الباطلة الموجهة من قبل المالكي ضد الهاشمي، وهي بلا شك علامات تصدّع في الوضع الأمني وتصعيد للشحن الطائفي.
لا نريد أن نستعرض قوائم بأسماء السياسيين والحزبيين والمسؤولين ممن اثيرت ضدهم شبهات الارهاب والتورط الجنائي، وحظوا بإمتيازات وحصانات المنصب والسياسة وذهبت الاتهامات ضدهم أدراج الرياح!!!،.
ليس دفاعاً عن طارق الهاشمي الذي أعرفه شخصيا منذ ثلاثين عاماً، إنسانا في منتهى الخلق والأدب والوداعة، تقي يخاف الله، إسلامي معتدل غير متطرف، كان ضابطا لامعا في كلية الأركان العراقية لكنه فصل برتبة رائد عام 1976 بسبب عدم إنتماءه لحزب البعث، ينتمي طارق إلى أبرز العائلات التي لعبت دوراً في تكوين وإنشاء الدولة العراقية الحديثة، فجدّه (خال والده) هو ياسين الهاشمي، وجَدّه الآخر هو طه الهاشمي، شقيق ياسين، وكليهما لعب دوراً وطنياً بارزاً في العهد الملكي. وبعد فصله من الجيش، تحول إلى رجل أعمال ناجح، بفضل نزاهته وذكائه، وبعد مشاركة الحزب الإسلامي في مجلس الحكم ومن ثم في العملية السياسية بعد 2003 (رغم تحفظنا على هذه المشاركة) وبعد استقالة الدكتور محسن عبدالحميد من أمانة الحزب تم انتخاب الهاشمي أمينا عاماً، وبعدها صار نائبا لرئيس الجمهورية على مدى دورتين، لم يُسجَّل على طارق أي اتهام أو إدانة أو تقصير أو تقاعس طيلة مسيرته في الحزب، فالهاشمي حَصَّنَ نفسه بحصانة راسخة ومتينة من نظافة القلب واليد واللسان والسلوك، إضافة إلى علميته وثقافته. فالرجل ليس بحاجة لدفاع مني، لكنه يستحق أن تقال فيه كلمة حق في هذا الزمان الردئ!!.
إنني أشهد الله بما أعلمه عن طارق الهاشمي ومعرفتي الشخصية له على مدى ثلاثين عاما، أنه برئ من كل ما وجه إليه من تهم، فضلا عن الشبهات التي تحيط عملية التوقيت والغرض والتهويل الإعلامي واستخدام الفضائيات الحكومية للتسقيط وكيل التهم، والتدخل في أعمال القضاء بهذا الشكل السافر، وأدعو الجميع للعقلانية والإحتكام إلى الدستور والقانون وقواعد العدالة والثقة بقضائنا العادل المستنير… وترك الأمور بيد القضاء دون تدخل من فضائية ولا صحيفة ولا ناطق ملوث اللسان والقصد ولا تصريحات تشعل الشحن الطائفي في بلد هو بأمس الحاجة إلى التآلف الوطني ولملمة الجراح.. والابتعاد عن كل ما يؤدي للشحن العاطفي الكاذب..
اللهم أشهدك أني قلت الحق كما أمرتَ.. لا أبتغي من وراءه غير الحق.. ومصلحة البلاد والعباد .. وتجنيب البلاد شرور الفتن الطائفية المقيتة ((ربِّ إجعل هذا البلد آمناً)) صدق الله العظيم…