18 ديسمبر، 2024 11:55 م

لننتخب من به لن يسخر منا الآخرون !!

لننتخب من به لن يسخر منا الآخرون !!

ضجر سكان إحدى القرى النائية من كثرة ما يسوقه ضدهم سكان البلدات المجاورة من تهم بالرجعية والتخلف , فاجتمع أهل القرية وعقدوا العزم على وجوب إيجاد حل نهائي لهذة المشكلة .
فجلس الأعيان والوجهاء وبدء كل واحد منهم يقدم ما في جعبته من مقترحات , ولكن لم تمض هنيهات , حتى علا الصراخ وتبادل المجتعون اللعنات , ليشتبكوا بعدها بالأيادي مع تقاذفٍ لسيلٍ من الاتهامات .

فدخل عندها أكبرهم سناً , ليزجرهم ويؤنبهم على ما هم فيه من صراعاتٍ وخلافات , ثم نصحهم بالاستماع إليه والأخذ برأيه لكونه أكثرهم حكمة وقدرة على إيجاد سبيل للتفاهمات , فصمت الجميع تعبيراً عن القبول والرضا , لينصتوا له , وهم له ناظرون ولقوله مستمعون .

فقال ” ألا أدلكم عما ينهي أزمتكم ويقطع لسان سكان باقي القرى عنكم وعن التطاول عليكم ؟ .

” فقالوا له ” ألحقنا بها يا كبيرنا فقد أصابنا الكلل والملل وما عدنا نعلم ما العمل لنكسب رضاهم , فلم نترك شاردة وواردة إلا وأتبعناهم فيها , أرتدينا ملابسهم وأكلنا من طعامهم وشربنا خمرهم , نبذنا رموزنا واستهزءنا بتراثنا وأحتفلنا بأعيادهم , أبحنا الغناء والرقص وعطلنا العمل بشرع أعرافنا وقيم أخلاقنا , فأستنسخنا قوانينهم وأستوردنا مدنيتهُم , ومع هذا وغيره كثير ما لقينا منهم سوى السخرية والذم ولنا مستصغرون .

فقال عندها كبيرهم ” لهذا لا أجد لكم إلا حلاً واحدً لا ثاني له , وهو أن تولوا أمركم “حمار” تنصبوه على عرشكم ويكون حاكماً لأمركم , فلن يجرأ بعد هذا أحد من أن ينال منكم ويصد عنكم , فأن فعلوا فقولوا لهم مالكم تعيبون علينا تخلفنا , ألا ترون أن حاكمنا “حمار” , فكيف ترجون خيراً من قومٍ رئيسُهم “حمار” , تسلط علينا وبات يدير شؤوننا من كان يحمل في الأمس أسفارنا ” .

ونحنُ قومٌ أبت أخلاقنا شرفاً أن نخرج عن طاعةِ وِلاتنا وأن لا نأتمر ألا بأمرهم . ذهل الجميع من دهاء هذا الرجل وفطنته , وشعروا بأن ما أورده من حل هو عين الصواب , ونهاية لمعاناتهم ونفور باقي القرى عنهم .

فرفع الجميع أكفهم مؤيدين ومتسائلين عن نوع ” الحمار ” وصفاته , ليبدء فصل جديد من التنازع والصراع بين الفرقاء , فكل جماعة نحو السلطة يلهثون , لأن يكون الزعيم ” الحمار ” من حضيرتهم يصرون , لعلهم به للخيرات ينالون .

فعاد كبيرهم بالنصح والرأي السديد , وأخبرهم بأن كل الحمير متشابه في لونه وشكله , ولا إشكال في ذلك , وكي نوئد الفتنة, فلا بأس في أن يقع الاختيار على أول حمار ينهق خلال ساعة قادمة.

وفعلا ما هي لحظات حتى سمعوا صوت حمار من بعيد , فهرول صوبه الجميع ليتفاجئوا بأن صاحبه هو تاجر يعمل ببيع وشراء الدواب , فخشوا لوهلة أن يستغل هذا الرجل الأمر ويطلب ثمناً باهضاً مقابل الحمار .

ومع هذا دخلوا عليه وأخبروه بالقصة وقالوا له ” يا سيد هل لك أن تعطينا الحمار لنوليه أمرنا وسنجزل لك العطاء ” .

فوجيء الرجل , وصمت قليلاً يتفكر , ثم قال لهم ” لا مانع عندي , سأعطيكم الحمار دون مقابل .

فتم العقد بالرضا والقبول , برغم ريبة وشك لدى أصحاب العقول , بأن تاجراً دون مقابل للخير فاعل .

وفي خضم أجواء السعادة , جاء أهل القرية بحمارهم ماسكين في زفة , مهللين فرحين , ولجماله بالقصائد مشعرين , وبطول عمر مديد له متمنين , وبذيله متمسحين متباركين , وبمستقبل زاهر لقريتهم مستبشرين , فأجلسوه على عرشهم هاتفين , متغنين بهدوء ورزانة حمارهم الحكيم , الذي بصمته المطبق باتو منبهرين , وبنظرات عينية الناعستين حالمين ذائبين , فهي عندهم من صفات الفطنة وغزارة العلم اليقين .

ساعات قلة وإذا بالحمار يجن جنونه , يصرخ وينهق بلا انقطاع ودون أن يعلم الجميع ما المشكلة , يعلوا صوته في الأقصاع , يرفس بقدمية كلُ من يقترب منه , محدثا الصدوع في الأضلاع .

أحتار في أمره مريدوه , فركضوا لمالكه يسألوه , فقال لهم ” ألا تعلمون أن الحمير كالأحزاب , لا تعيش فرادا وهي بعضها لبعض كالأصحاب , عليكم بأخذ رفاقه ومن كانوا معه في الحظيرة من الأحباب , ليكونُ عزوة له وسنداً كالأرباب .

فقالوا له ” أكمل جميلك وأعطنا من كانوا له أصدقاء ” فقال لهم ” هيهات , إلا ألفا من الدنانير لكل واحد من الحمير ” .

فبهت الجميع لبعضهم ناظرين متسائلين , أيهم كان في الأصل من الحمير , بعد أن ضحك عليهم التاجر لأنهم كانوا مستغفلين .