ضجر سكان إحدى القرى النائية من كثرة ما يسوقه ضدهم سكان البلدات المجاورة من تهم بالرجعية والتخلف , فاجتمع أهل القرية وعقدوا العزم على وجوب إيجاد حل نهائي لهذة المشكلة .
فجلس الأعيان والوجهاء وبدء كل واحد منهم يقدم ما في جعبته من مقترحات , ولكن لم تمض هنيهات , حتى علا الصراخ وتبادل المجتعون اللعنات , ليشتبكوا بعدها بالأيادي مع تقاذفٍ لسيلٍ من الاتهامات .
فدخل عندها أكبرهم سناً , ليزجرهم ويؤنبهم على ما هم فيه من صراعاتٍ وخلافات , ثم نصحهم بالاستماع إليه والأخذ برأيه لكونه أكثرهم حكمة وقدرة على إيجاد سبيل للتفاهمات , فصمت الجميع تعبيراً عن القبول والرضا , لينصتوا له , وهم له ناظرون ولقوله مستمعون .
فقال ” ألا أدلكم عما ينهي أزمتكم ويقطع لسان سكان باقي القرى عنكم وعن التطاول عليكم ؟ .
” فقالوا له ” ألحقنا بها يا كبيرنا فقد أصابنا الكلل والملل وما عدنا نعلم ما العمل لنكسب رضاهم , فلم نترك شاردة وواردة إلا وأتبعناهم فيها , أرتدينا ملابسهم وأكلنا من طعامهم وشربنا خمرهم , نبذنا رموزنا واستهزءنا بتراثنا وأحتفلنا بأعيادهم , أبحنا الغناء والرقص وعطلنا العمل بشرع أعرافنا وقيم أخلاقنا , فأستنسخنا قوانينهم وأستوردنا مدنيتهُم , ومع هذا وغيره كثير ما لقينا منهم سوى السخرية والذم ولنا مستصغرون .
فقال عندها كبيرهم ” لهذا لا أجد لكم إلا حلاً واحدً لا ثاني له , وهو أن تولوا أمركم “حمار” تنصبوه على عرشكم ويكون حاكماً لأمركم , فلن يجرأ بعد هذا أحد من أن ينال منكم ويصد عنكم , فأن فعلوا فقولوا لهم مالكم تعيبون علينا تخلفنا , ألا ترون أن حاكمنا “حمار” , فكيف ترجون خيراً من قومٍ رئيسُهم “حمار” , تسلط علينا وبات يدير شؤوننا من كان يحمل في الأمس أسفارنا ” .
ونحنُ قومٌ أبت أخلاقنا شرفاً أن نخرج عن طاعةِ وِلاتنا وأن لا نأتمر ألا بأمرهم . ذهل الجميع من دهاء هذا الرجل وفطنته , وشعروا بأن ما أورده من حل هو عين الصواب , ونهاية لمعاناتهم ونفور باقي القرى عنهم .
فرفع الجميع أكفهم مؤيدين ومتسائلين عن نوع ” الحمار ” وصفاته , ليبدء فصل جديد من التنازع والصراع بين الفرقاء , فكل جماعة نحو السلطة يلهثون , لأن يكون الزعيم ” الحمار ” من حضيرتهم يصرون , لعلهم به للخيرات ينالون .
فعاد كبيرهم بالنصح والرأي السديد , وأخبرهم بأن كل الحمير متشابه في لونه وشكله , ولا إشكال في ذلك , وكي نوئد الفتنة, فلا بأس في أن يقع الاختيار على أول حمار ينهق خلال ساعة قادمة.
وفعلا ما هي لحظات حتى سمعوا صوت حمار من بعيد , فهرول صوبه الجميع ليتفاجئوا بأن صاحبه هو تاجر يعمل ببيع وشراء الدواب , فخشوا لوهلة أن يستغل هذا الرجل الأمر ويطلب ثمناً باهضاً مقابل الحمار .
ومع هذا دخلوا عليه وأخبروه بالقصة وقالوا له ” يا سيد هل لك أن تعطينا الحمار لنوليه أمرنا وسنجزل لك العطاء ” .
فوجيء الرجل , وصمت قليلاً يتفكر , ثم قال لهم ” لا مانع عندي , سأعطيكم الحمار دون مقابل .
فتم العقد بالرضا والقبول , برغم ريبة وشك لدى أصحاب العقول , بأن تاجراً دون مقابل للخير فاعل .
وفي خضم أجواء السعادة , جاء أهل القرية بحمارهم ماسكين في زفة , مهللين فرحين , ولجماله بالقصائد مشعرين , وبطول عمر مديد له متمنين , وبذيله متمسحين متباركين , وبمستقبل زاهر لقريتهم مستبشرين , فأجلسوه على عرشهم هاتفين , متغنين بهدوء ورزانة حمارهم الحكيم , الذي بصمته المطبق باتو منبهرين , وبنظرات عينية الناعستين حالمين ذائبين , فهي عندهم من صفات الفطنة وغزارة العلم اليقين .
ساعات قلة وإذا بالحمار يجن جنونه , يصرخ وينهق بلا انقطاع ودون أن يعلم الجميع ما المشكلة , يعلوا صوته في الأقصاع , يرفس بقدمية كلُ من يقترب منه , محدثا الصدوع في الأضلاع .
أحتار في أمره مريدوه , فركضوا لمالكه يسألوه , فقال لهم ” ألا تعلمون أن الحمير كالأحزاب , لا تعيش فرادا وهي بعضها لبعض كالأصحاب , عليكم بأخذ رفاقه ومن كانوا معه في الحظيرة من الأحباب , ليكونُ عزوة له وسنداً كالأرباب .
فقالوا له ” أكمل جميلك وأعطنا من كانوا له أصدقاء ” فقال لهم ” هيهات , إلا ألفا من الدنانير لكل واحد من الحمير ” .
فبهت الجميع لبعضهم ناظرين متسائلين , أيهم كان في الأصل من الحمير , بعد أن ضحك عليهم التاجر لأنهم كانوا مستغفلين .