23 ديسمبر، 2024 11:57 ص

لنقدم، فليس على الارض اقوى من زاهد ومستميت

لنقدم، فليس على الارض اقوى من زاهد ومستميت

الناس معادن وامزجة، منهم من يستسلم بلا مقاومة ومنهم من يموت وهو يقاوم. فالبطولة، ليس مطلوباً من الجميع ان يلبسوا دروعها، الا ان هناك حداً ادنى من احترام الذات يجب ان نمارسه في سبيل سيادة خلق لها ان كل كائن ذي ادراك.

نعم، من التصرف العاقل ان يكون للسلم منطق سلم، وللحرب منطق حرب. فالاستثناء له موجبات تنتقص مرات من قسوة النصوص وكمالها والالتزام بتنفيذها حرفياً.

هذا صحيح، ولكن لا يجوز، في اي حال، ان يتم التنفيذ الميداني على الارض –حسب التعابير المستحدثة- على حساب القيم والثوابت والمقدسات. فلا يصدر القاضي حكماً مغايراً لقناعته خوفا من انتقام، ولا يكتب صحافي مقالاً ضد ايمانه خوفاً من عقوبة، ولا يضع طبيب تقريراً كاذباً تحت الاكراه، ولا يوقع وزير قراراً لا يؤمن بصلاحه خشية اعتداء عليه… وما اوردته نماذج تنسحب على كل وجوه الحياة.

بكلام آخر: المهم الا يمتلكنا الذعر ولا يأخذ علينا انفاسنا الخوف، بل ان تبقى لنا مناعة نتصدى بها لمحاولي ارهابنا. فليس على الارض اناس يُخيفون بل عليها ناس يخافون، وعلينا ان لا نكون منهم، وألا تعهر كل شيء وسقطت البقية الباقية من كرامتنا، وهي الرفض ومجابهة الاذلال واحتراف التزييف. فليس صحيحاً ما يحاول البعض ترويجه وترسيخه في عقلنا الجمعي –الف مرة جبان ولا مرة الله يرحمه – ابداً، بل الف مرة الله يرحمه ولا مرة واحدة جبان وذليل ومنافق. فأعظم الذل ان تتخلى عن قيمك ومناقبك في سبيل ان تحيا وتستمر عائشاً في ظل ادنى شروط الوجود، الاكتفاء بان تكون موجوداً كما الجماد والنباتات.

وليس صحيحاً عزل المواقف السياسية لأي انسان مهما كان موضوعياً عن مشاعر الناس منه. والبلد الذي تحكمه سلطة قريبة من الشعب، صديقة للمواطن، غير معادية ولا معتدية، تترك اثراً في نفس اي انسان غير تلك المشاعر التي يتركها البلد نفسه اذا ما كانت تحكمه سلطة جائرة معتدية معادية للانسانية.

صحيح، ان مشاعر الناس هذه لا يجوز ان تنسحب على الموقف من القضايا الانسانية في هذا البلد او ذاك، لكن من يستطيع ان يتحكم بكامل مشاعره ازاء جهة ما اذا كانت سلطاتها تذيقه العذاب والتهديد ومحاولات الاذلال كل يوم.

ومع ان الكل يقر، بأن ما بين الموقف السياسي والحدث الانساني فارقاً كبيراً، وان ازاء كل منهما موقفاً لا بد ان يتميز بوضوح عن الآخر. لكن عواطف الانسان ليست ملكه، وهي قوة غير ارادية وتتجاوز حدود ما فرضه العقل احياناً.

ان اكبر ارث ونموذج تخلفه لاولادك ومجتمعك، العزة والكرامة. فاذا تخليت عنهما فتكون انت قد محوت اسمك من سجل الشرفاء، كما تكون قد عودت من ارهبوك ان يمارسوا على سواك مزيداً من الارهاب، وبالتالي ان ينسفوا مقومات مجتمع الصالحين المعتصمين بسيادة النفس واحترام الذات.

ومن الكذب الزعم بأن هذه الفئة انقرضت او انها صارت عملة نادرة. فالصحيح انها لا تزال قائمة وبنسبة جيدة، عدا ان أية قوة، مهما عظمت لا تستطيع ان تلوي عناد رجل صلب المراس، مؤمن بالحق.

ان علاقتك بالناس، كل الناس، انت وحدك تحكم قواعدها. فاذا جئتهم من فوق بقيتمن فوق، واذا عاملتهم كند صار ذلك حجم التعامل، وكذلك اذا جئتهم من تحت صرت عبداً لهم. فمن لا يكرّم نفسه لايكرّم. أليست تلك القاعدة المعمول بها دائماً؟

واذا كنت عنيداً وقوياً في مواقفك، فليس من الضروري ان تتعرض للانتقام، بل ستلقى حتماً من يتفهم حوافز وقفتك ويقدرها –مهما كان مدى طغيانه- فتصل وأياه الى قواسم مشتركة في التعامل والحوار. فالمستحيل ليس ابن هذه الارض.

اقول هذا، رداً على اجواء مخلوقة اليوم، وفي سبيل مجتمع يجب ان ينتصر على الخوف، فلا يساوم على قناعاته، ولا يخضع للارهاب، اي ارهاب، في اي قطاع. ذلك وحده معيار احتفاظ الانسان العراقي بمبررات وجوده وطهر قيمه وانفته.

صحيح ان مؤسسات كثيرة وكيانات كثيرة في عراقنا قد سقطت، الا انسانه ووحدته وارادته التي شوهت، ولكن لمرحلة تعود بعدها أمنع واقسى، فهي ما سقطت ولن تسقط، ورهان على الزمن انها ثابتة الاركان.

كل هذا اقوله حتى لا يصبح عراقنا يوماً وطن الاذلاء، المذعورين، المنافقين. فأن تنتصر على الذعر يعني ان ننمي في قلوبنا ارادة الحياة العزيزة الكريمة وان نزيل من الاذهان، كل الاذهان، امكان توسيع رقعة مجتمع العبيد.

نعم، ان مواطنيتنا في تجربة، وكرامتنا في امتحان محتوم علينا ان ننجح فيه، احب الموت يكرهه عدوك. ترفّع عن المغريات تصبح اقوى من الذين يعرضونها ويلوحون بها. ارفض ولا تخف. واجه، وليكن ما يكون، فليس على الارض اقوى من زاهد ومستميت.
*[email protected]