تذكرت جواد الجلبي.. ربما يقظا وربما ضيفا على حد الدنيا.. كأنني في البرزخ الفاصل بين الدنيا والآخرة.. على شفى جرف ينهار الى ما وراء العالم المحسوس..
تنسكب شآبيب المطر، من ليل لندن على أرصفة الغربة، وأنا سعيد بتجاذب أطرف الحديث، مع جواد عبد الهادي الجلبي، في مطعم (نورا) اللبناني، وسط عاصمة الضباب، بدعوة كريمة منه.. رحمه الله، في ليلة تعبق بنثيث الغيم وهو يداعب فضاءات العام 2007.
ثمة فرع آخر، من مطعم (نورا) اللبناني ذاته، في باريس، ساقتني الذكريات أنا وعائلتي إليه مسرنمين، تهزنا صدفة غرائبية المعطيات، تكرر نفسها بعد عشر سنوات، خلال الليلة ذاتها، من 2017، وكأن مجذاف يرقرق ماء نهر فينسرح قارب القدر، مستعيدا.. في باريس.. لحظات كادت تنساها لندن،…
دعوة
والقصة هي أنني لبيت بسعادة غامرة، دعوة تكرم بها الأستاذ جواد الجلبي، في مطعم (نورا) اللندني، عام 2007، وكانت ليلة ماطرة كدأب لندن، لأجد نفسي، في ذات الليلة، من العام 2017، أدخل وعائلتي مطعم (نورا) الباريسي، في ظروف ماطرة تستحضر مناخ عشر سنوات؛ إنثالت لها الذكريات، مع نثيث المطر الساحت من غيم أوربا، وهو يعتصر مشاعره بنعومة إنكسار خاطر حسناء فارقها الحبيب.. تبكي فنلتقط المطر!
صدفة
صدفة خالدة في تاريخي الشخصي، جمعت لندن بباريس، من خلال إستحضاري ذكريات الجلبي، في حاضنة من أجواء متشابهة تماما، تفصلهما عشر سنوات.. مات جواد، ولم أنفصل عنه هوى… تذكرته.. تداعى طيب معشره الذي يبدد طوق الغربة من مشاعر جليسه؛ بما أوتي من شهامة الأمراء سليلي كرامة المَحتدِ أصالةً، إذ يربطني به طيب علاقة راف وشائجها إبنه المحامي سالم الجلبي.. صديقي ذو الأفضال الغامرة؛ ونحن نشترك بتأسيس المحكمة الجنائية العليا.
مات جواد الجلبي، منذ سنتين، هذا ما يقره وعي حواسي، لكن عقلي الباطن ما زال يستحضر ذكريات نبله، خالدا في أعماقي؛ وقد ساقتني روحه الى مطعم (نورا) لأستشعر رفيفاّ وئيداّ ذا إيحاء كامن في برزخ الغياب، جعله حاضراً معي في يوم قطع عشر سنوات فاصلة بين لندن وباريس، أكاد أراه وأسمعه وأتحسس ملمس حكايته وهو يحثني على الإصغاء بلمسة خفيفة، تعيدني الى الحوار إذا سهوت!
ما زالت صداقتي مع جواد الجلبي، تتجدد عبر البرزخ الفاصل بين الدنيا والآخرة “شمرة عصا” من لندن الى باريس، عقب عشر سنوات، من اليوم والأمطار والمشاعر.. ذاتها تتوالى كرا لا فر بعده.. قدر العظماء ألا ينتسون، وكلما خطروا بحياة إمرئ تركوا أثرا لا يمحي ضوعه ولا يزول طيبه العالق.. أبدا.
تماهٍ
تذكرته ليلتها، وعشت الأجواء نفسها.. ربما يقظا وربما ضيفا على حد الدنيا، كأنني على شفى جرف ينهار الى ما وراء العالم المحسوس؛ فيتلقفني جواد الجلبي.. مطعم لندن أوسع من ضيق فرعه في باريس وبوابتا المكانين من زجاج لا يخفي الإحساس بالتماهي مع بلل الشتاء الماطر بين العاصمتين، وهما.. كلاهما يقدمان أغاني لبنانية تفتح شهية الإصغاء لفيروز ووديع الصافي والشحرورة صباح، على أنغام لذائذ تطري المعدة بعذوبة غنج الصبايا وريح الأرز العابقة في أرجاء الثلج شتاءً والشبّوي صيفا.
جواد وسالم الجلبيان، لهما فضل على شخصي أنا، ولأحمد الجلبي، وحده.. فضل على الأمة العراقية بكاملها.. حاضرا ومستقبلا؛ لأنه حث الأمريكان ملحفاً بتحرير العراق من مخالب الطاغية المقبور صدام حسين..
يظل الحب صدقة جارية، تخلد الموتى.. تكسبهم حياة الدنيا بعد موتهم والبقاء أحياءً قبل القيامة، والى أبد الآبدين.. وراء حد الدنيا اللانهائي وثقوبها السوداء حين تشع نورا.