23 ديسمبر، 2024 5:06 م

لنحاور أنفسنا قبل أن نتحاور؟!

لنحاور أنفسنا قبل أن نتحاور؟!

دعوات الحوار في مجتمعاتنا غالبا ما تنتهي لتداعيات أليمة , وما نجح حوار بين الفرقاء إلا فيما ندر.

وجوهر العلة في أننا لا نحاور أنفسنا أولا , فلا نمتلك مهارات الحوار الذاتي , ولا نقوم بتقييم وتقدير لما نقوم به من أفعال وما نتخذه من قرارات , كما نضع رؤانا ومنطلقاتنا في قوارير ونعتقها على رفوف الخسران , فنحسب الزمن متوقفا والمكان جامدا.

تلك خلاصة ضعفنا وإنهياراتنا المتلاحقة , وعَجْزِنا عن الوصول لنظام دستوري راسخ تتوارثه الأجيال , وتمضي على هديه بأمن ومحبة وألفة وسلام.

ذلك أن أي حوار ناجح لا يمكنه أن يثمر إلا إذا كان ما بين الذين حاوروا أنفسهم , فاطمأنوا وأدركوا وعرفوا ,  وصارت نظرتهم ذات موارد متكاملة بمعطياتها المتصلة بأبعاد الزمان والمكان.

والذي يحاور عليه أن يكون رأس هرم من الدراسات والبحوث والتوصيات , والتفاعلات الفكرية والثقافية الستراتيجية والتكتيكية , ليجني ثمار المفكرين والمحللين والواعين المعبرين عن قدرات الحق والمصلحة العامة.

وفي مجتمعاتنا لا يمتلك الحوار الضوابط الدستورية والقانونية والوطنية , وينحدر إلى مستويات فردية وفئوية ضارة بالجميع , بل أنه نوع من التفاعلات الأولية ذات الآليات الدفاعية الغير متكاملة , وكأن قدراتنا السلوكية لم تبلغ النضج وتترسخ في العقول , وإنما بقيت كآليات نفسية معصوبة وموجهة بالإنفعالات السلبية وبقوة الشك وظن السوء والبغضاء.

أي أن هناك حواجز نفسية سميكة تمنع الحوارات , ولا يمكن لهذه الحواجز أن تنهار أو تتمزق إلا بالحوار الذاتي , أي أن يراجع المتحاورون أنفسهم , قبل أن يدّعون الحوار.

ومن الواضح أن الحوار الناجح ينطلق من المشتركات ويسعى إلى تنميتها وتقويتها , وتحويلها إلى طاقة إيجابية صالحة للحياة.

ومَن يأسره الكرسي , قد لا يحاور نفسه , ولا ينظرها بعين العقل والشعور بالمسؤولية والأمانة والقيمة الوطنية والإنسانية.

فالكراسي غالبا ما تعمي البشر , وتخرجه من طبيعته وتحيله إلى حالة سرابية وهمية , ذات طبائع إلهية , وهذه العلة معروفة منذ فجر التأريخ , ففي حضارات وادي الرافدين ومصر القديمة , كان أصحاب الكراسي يتحولون إلى آلهة , ومن ثم أنصاف آلهة وبعدها أصبحوا يحكمون بتفويض إلهي , ولا تزال هذه المعضلة تتحكم بسلوك البشر الذي يمتلكه كرسي المسؤولية أو الحكم.

وقد أدركتها المجتمعات التي صاغت الدساتير لتقيّد قوة المسؤولين في السلطة , وبهذا حققت توازنا حضاريا بين مراكز القوة والقرار , وحافظت على لجم النوازع السلبية لقادتها.

وفي الكثير من المجتمعات المتأخرة لا تزال هذه العلة فاعلة وسائدة , مما يتسبب بتفاعلات دامية حامية , لأن النظام الحاكم قد يتعالى على البشر , ويحسبه أرقاما , وأعداءً وغير ذلك من مسوغات الفتك به والتحكم بمصيره , وهذا التواصل القاسي يلقي بظلاله على تفاعلاتها القائمة , وتلك هي الحقيقة الخفية لما يجري في واقعها.
وبهذا فهي لا تتحاور!!