تقول الحكاية: بعد أن أجرى شقيق أبي بعض التغييرات والتعديلات الضرورية على هندامه وهيئته العامة وبما ينسجم وطبيعة المكان المنوي قصده، تجده قد اختار مغيب الشمس وحلول أول خيط من الليل ميقاتا لخروجه. إجتاز شارعين بخفة وراحة وبخطى الواثق، ثم إنعطف يمينا، ليدخل أحد الأزقة الضيقة، سيفضي بنهايته الى شارع أكثر رحابة، وما هي الاّ بضعة أمتار، وإذا بقدميه تقودانه أخيرا الى ذلك البيت القديم، والذي يُنظر اليه من قبل مَنْ لم يُحسن التقدير، بأنه لا يعدو أن يكون سوى بيتا خربا، لا يمكن أن يُلفت الإنتباه، بعد أن كان في يوم ما وبحسب العارفين قصراً منيفاً، وفق مقاييس زمان قد مرَّت عليه عهود وأيام.
لكن وعلى الطرف اﻵخر، فهناك مَنْ يرى فيه وعلى الرغم من الإهمال الواضح عليه وقد يكون متعمدا، بأنه لا زال يحتفظ ببعض من الرونق واﻷناقة والتي بدت جلية على ما تبقى من ملامحه، والتي تشير وتؤكد أيضاً على مدى هيبته وجماله. تعود ملكيته الى أحد أثرياء المدينة، الذي غادر الدنيا قبل قرابة العقد من السنين. وبسبب إختلاف ورثته من بعده عليه وعلى غيره من الأموال المنقولة وغير المنقولة، فقد بقى أمر حسم ملكيته وعائديته من الناحية القانونية معلقاً، لذا كان لعامل الزمن ما يفعله وراح يأكل فيه شيئا فشيئا.
حالة العقار هذه وكما أسلفنا القول، فتحت شهية وطمع نفرا من ذوي القربى ومن لهم صلة بالموضوع وبعض الطامعين به بشكل خاص، وبطابقه السفلي على وجه التحديد والمسمى قبواً، لذا تجدهم وقد شرعوا القيام ببعض التحويرات وما يلزم من التغييرات الضرورية عليه، ليحولوا قسمه اﻷكبر الى ما يمكن تسميته بالحانة، دون أن يعلنوا عن ذلك بشكل رسمي، حيث باشروا العمل فيه ومن غير أن يستحصلوا على الموافقات الرسمية وما يترتب عليها من إجراءات.
يقابل الحانة وفي الطرف الثاني من القبو ما يمكن أن نطلق عليه بالمقهى، وليس هناك من تسمية اخرى تليق به أو تنطبق عليه، بسبب إفتقاره الى الكثير من الشروط الضرورية. زينت جدرانه ببضعة لوحات، كانت قد رُسمت باللونين اﻷبيض واﻷسود، مذيلة بأشعار وحكم، غلبت عليها البساطة وعمق الدلالة. ضمَّ المقهى المفترض أيضاً عددا من الكراسٍي وطاولتين كبيرتين أو ثلاثة على أكثر تقدير، تم اختيارها بشكل عشوائي ودونما إكتراث. متضاربة في ألوانها، مختلفة في أحجامها، فمنها من كان بأرجل عالية وبشكل مُلفت، حتى إستقر اﻷمر لتكون من نصيب طوال القامة من الرواد، متخذين منها مجلسا ثابتا. ومنها مَنْ كان بأرجل قصيرة، باتت حكما من نصيب قصار القامة ومتوسطيها. وتعليقا على هذا اﻷمر، فربما أراد القيمون على المقهى إظهاره على هذا النحو ﻷهداف، يصعب سبرها.
دخول ما يسمى المقهى والحانة والذي لم يستحصل بعد على الموافقات الرسمية، سيكون من البوابة الخلفية للقصر المهجور، لضرورات اقتضتها بعض القوانين الخاصة والمشددة، المعمول بها في ذلك البلد، كذلك مراعاة لسكانها المحافظين وهذا شرط لا مساومة عليه ولا تساهل. لذلك وإنسجاماً مع مقتضى الحال، ولضبط عمليتي الدخول والخروج من والى المكان المذكور، إرتأى صاحب الحانة الى وضع مواعيد محددة ومتفق عليها مسبقا، بينه من جهة وبين روادها من جهة اخرى.
وبعد أن يعتلي الزائر أو الزبون درجتين أو ثلاثة، وصولاً الى البوابة والتي من المفترض أن تكون مدخلا للقبو،سيجد نفسه مضطرا للنزول ولبضع درجات أيضا وبعمق لا يقل عن ثلاثة أمتار، عند ذاك سيتفاجئ مَنْ لم يزرها من قبل بوجود باباًً موارباً، فما على قاصد الحانة لحظة ذاك وبناءا على التعليمات التي تلقاها سلفا الاّ أن يدفعه قليلاً، لينكشف أمام ناظريه قبواً، واسع الأبعاد، شديد العتمة اذا ما تُرِكَ دون إنارة كافية، أو إذا ما تمَّ غلق نوافذه وستائره بإحكام.
كان القبو المذكور وبجانبيه في سالف الأيام وكما بدا من بعض المؤشرات والملامح، مخصصاً لخزن وحفظ المؤونة وخاصة الحبوب منها، فضلا عن المنتجات الغذائية اﻷخرى، القابلة للتجفيف أو الكبس، والتي ستعطي مذاقاً أشهى كلما تُرِكت لتختمر فترة زمنية أطول، لتشكل بمجموعها ذخيرة دسمة، ستمد ساكني القصر المنيف وتعينهم في موسم الشتاء والأيام الصعبة وبما يطيب لهم من طعام وشراب، دون أن يغفل سيد القصر عن تعتيقه ما حلى له من اﻷعناب، بإنتظار إرتشاف أول كأس من نبيذ، لا زالت الحانة تعبق ببقايا رائحته.
تعمَّدَ مَن يشرف على إدارة الحانة أو لنقل تشغيلها، ترك واجهتها مهملة، ما خلا بضعة كلمات وبهدف التمويه، والتي ستدل زائريها على وجود ما يمكن أن نطلق عليه بمكان عام، كإن يكون ملتقى أو مقهى أو ماشابه ذلك، وذلك كإجراء إحترازي، إذا ما تعرض للتساؤل من قبل الجهات المختصة، وفي ذات الوقت كي لا يُلفت إنتباه أو فضول المارة والجيران الى حقيقة ما يضم بداخله وما هي طبيعته.
القبو إذن أكثر سينفتح على اتجاهيين غير متساويين من حيث المساحة. الجهة اليمنى منه أصغر من الجهة اليسرى، ربما شكَّلت ثلث مساحة القبو، لذلك خصصت لأن تكون ما أسميناه بالمقهى.صاحب المكان تعمَّدَ أن يبعد كراسي الزبائن لبضعة أمتار عن المدخل الرئيسي للقبو، بهدف السيطرة على الأصوات التي قد تصدر من جالسيه والتي قد تتسرب الى الخارج. حلى لروّاده أن يسمّوا المكان بمقهى المعقدين، فجلهم من أتباع إحدى الفلسفات المنقرضة والتي كثيراً ما تحفل بها وبغيرها تلك البلاد العجيبة. وفي عديد المرات راودت صاحب المقهى فكرة إغلاقه بعد حدوث بعض المشاكل والمشادات بين رواده، كذلك حالة الإفلاس والعوز التي يعاني منها أكثر زبائنه، فراح يضيّق عليهم الخناق وتحت مختلف الأساليب والحجج، الاّ انه فشل في ذلك فشلاً ذريعاً.
أغلب رواد هذا المقهى هم من الشباب العاطلين عن العمل، ولا شاغل لهم غير إجترار الكلام والإختلاف عليه وإعادة تدويره من جديد. وفي أحسن اﻷحوال فسينبري أحدهم بالتحدث عمّا يعتبره آخر المستجدات في عالم الفلسفة وأهم اﻷسماء اللامعة في هذا المجال وآخر الإصدارات، الاّ انه سيجابه بالرفض والتصدي وكما في كل مرة من أحد الرواد، والذي اختار أن يطلق شاربيه ولحيته وشعر رأسه، تيمناً بالشاعر البنغالي طاغور رغم بعد اﻷخير عن عالم الفلسفة، ليجعل من نفسه ناطقا رسميا لهذا الإختصاص، بل ويعده حكرا عليه ومن غير المسموح أن ينازعه أو ينافسه أحداً على ذلك.
وعلى ما أعتقد فإنَّ تسمية إحدى مقاهي بغداد، الواقعة في شارع السعدون، (مقتطع من حكاية طويلة، قد نأتي على أجزاء أخرى من فصولها لاحقاً)كان قد جرى إستقاءها من ذلك المكان البعيد، مع بعض الإختلافات في طبيعة زبائنه، فمقهى المعقدين في بغداد والذي يسمى أيضاً بمقهى ابراهيم (نسبة الى اسم صاحبه) كان يضم نخبة منتقاة من المثقفين ومن شعراء الخط اﻷول، فضلا عن عدد لا بأس به من مشاهير السياسة. الاّ انه وفي الفترات اﻷخيرة بات يأفل نجم هذا المقهى، بعد أن بدأت تزحف عليه جحافل ومجاميع منفلتة، جُلّهم من اﻷوباش واﻷميين، ليتربعوا على عرش السلطة والمقهى على حدٍ سواء.
أما الجهة اليسرى منه والتي يطيب لروادها تسميتها بالحانة وعلى الرغم من إفتقارها لبعض الشروط المهمة، فإنَّ اﻷكثرية من جلاّسها كانت تتراوح أعمارهم ما بين مَنْ وجد نفسه مجبرا على خلع نصف أسنانه وخاصة اﻷمامية منها، وبين مَنْ فقدها كلها ليصبح أدردا، الاّ شقيق أبي، فبحسب شهادة الشهود، فقد ظلَّت أسنانه قوية ناصعة البياض،صامدة حتى ذلك التأريخ، رغم الشيب الذي تسلل ليغطي أكثر من نصف شعره، ورغم زحف السنين التي تأنف اللحاق به ومساواته بأقرانه. أما لماذا إقتصر رواد الحانة على هذه الفئة بالتحديد، فربما إرتبط ذلك بخبرة العمر والتجربة، وما لحق بهما من إصطفاء أنيق، يتناسب ويتسق مع ما ينتويه هذا النوع من الرواد. فغاياتهم ولا شك الراحة والتسامر وقضاء أجمل اﻷوقات وأزهاها.