على عجلٍ من أمري تناولتُ قطعة صغيرة من اللحم اللذيذ مع زملائي ألأطباء في المستشفى كأنني مخيرٌ بين الجنةِ والنار. جمال الطبيبات الشابات يمتزج مع حيوية ألأطباء وهم يجلسون حول تلك المائدة التي أعدوها لمناسبةٍ ما.قبل أن تبدأ الملاعق والسكاكين تعزف لحناً مشبعاً برائحة المأكولات المذهلة , رن هاتفي حيث خطيبتي تطلب مني الحضور لتناول طعام الغداء الذي كان قد أصبح جاهزاً قبل لحظات.إتجهت ألأنظار نحوي وضحكات الشابات ترسم تساؤلات كثيرة. نهضت معتذراً متمنياً لهم جميعاً وجبة هنيئة. كان هاتفي النقال ملتصقاً بأذني اليسرى أسمع من خلاله همسات حبيبتي التي دخلت مشاعري وأحاسيسي قبل عدة شهور. قدماي تُسرعان الخطى بين أمواج المراجعين في الممرات المزدحمة على مدار الساعة. أطفالٌ يصرخون ونساءٌ جفت الدموع في أعينهن يقفن عند بوابات ألأخصائيين ينتظرن نتيجة العمليات. عمل روتيني بالنسبةِ لجميع ألأطباء من زملائي وأساتذتي. لا اسمع أي صرخةٍ من صرخات ألأطفال فصوت حبيبتي غطى كل شيء. كانت تتمرن على إطلاقِ زغروداتٍ لعرسنا بعد أسبوعين أو أكثر بقليل. ضحكاتها سمفونية خالدة من سمفونيات الزمن الجميل. أي سعادةٍ تلك التي كنتُ أحياها في تلك اللحظةِ؟ لم أعد أشعر أن هناك ألمٌ في هذا العالم الدموي . لم أعد اسمع صرخات ألأطفال طيلة ساعات العمل من الصباحِ حتى إنتهاء ساعات الدوام الرسمي؟ هل يُعقلْ أن هناك معذبون في ألارض في هذه اللحظةِ , أم أن سعادتي مسحت كل آثار الحزن والدمار المرسومة في سهولِ ووديان وجبالِ بلدي السائر نحو الضياع؟ سمعتُ أمي تقول بين الحين وألآخر ” من يدهُ في الماء البارد ليس كمثلِ من يده في النار” . وأنا سائرٌ نحو بوابةِ المستشفى الكبيرة كان بعض الزملاء يلقون علي التحية , إبتسامة بسيطة كانت هي جوابي الوحيد. أنا في عالمٍ لاينتمي ألآن الى عالم صرخات ألأطفال وبكاء ألأمهات وهنَّ يحملن صغارهن الى غرفتي كل يوم. أنا في فردوس ملائكي يحملني الى بيت خطيبتي – طبيبة ألأسنان- التي عرفتها عن طريقِ صدفةٍ لم تكن في الحسبان. هي زينة ألأنوثةِ المتفجرة…لا..لا..هي أرق من غصنِ بان. الشارع المكتظِ بعربات مختلفة ألألوان يحتظنني بهمجيته وإزعجاتهِ المختلفة. وقفت أنتظر مرور السيارات كي أعبر الى الجهةِ ألأخرى من الشارع وصوت حبيبتي – زينة ألأنوثةِ المتفجرة- يصل الى روحي فيجعلني أحلق في غبظةٍ لاتنتهي. زغاريدها غير المتقنة تصل الي بين الحين وألأخر وكأنها تستفسر عن مدى صلاحيتها حينما تأتي لحظة اللقاء في يوم الزفاف. وأنا أعبر الشارع وهاتفي لازاال ملتصقاً باذني اليسرى لاح لي من بعيد هيكل مركبة حديثة تقودها فتاة . توقفتُ في وسط الشارع كي أفسح لها المجال لتنطلق كصاروخٍ ينوي دمار أرضٍ ما على هذا الكوكب. كانت سيارة الفتاة تنطلق نحوي بسرعةٍ جنونية . تسمرتُ في مكاني وكأن الطير على رأسي. في لحظة ٍ شعرتُ أن هيكلاً حديدياً عملاقاً يرتطمُ بجسدي. هل هذه مزحة أم هو القدر؟ فرامل العجلات أصدرتُ صوتاً مرعباً. تكومتُ على ألأرضِ كجثة لازالت تنبض بالحياة. تحسستُ بيدي اليمنى ساقي اليسرى وذراعِ ألأيسر – أيقنتُ على الفور أنهما تهشمتا – لم أشعر بأي ألمٍ في اللحظات ألأولى.
قفزت الفتاة قربي وهي تصرخ ” ياإلهي إنه الدكتور……” تلاقت نظراتنا بصمتٍ كأننا نطلبُ من بعضنا البعض حركةٍ سريعةٍ لأنقاذ مخلوقاً ما شارف على الهلاك. كان جسدي يرتعش كجسدِ عصفورٍ صغير سقط من شجرة شاهقةٍ في بركة ماءٍ آسنة قبل أن يقوى على الطيران. صورٌ كثيرة تطايرت أمامي – صورة الخطيبة التي تنتظرني على الغداء بعد قليل, أمي وهي تودعني عند الباب الخارجي كل صباح كأنني طفلٌ صغير وتردد عبارتها اليومية ” كن صبوراً مع المرضى وكن متفائلاً” , وصورة والدي الذي يرتعب عليَّ خوفاً كلما خرجت الى العمل. هاتفي النقال يردد بصوتٍ ضعيف ” وز..وز…وز” . بدأتُ أشعر بألألم شيئاً فشيئأً. شعرتُ أن قواي بدأت تخور بصورةٍ تدريجية. تلاشت جميع الصور أمامي وظلت صورة والدي وهو يحملني على كتفهِ في حديقة الدار عندما كنتُ صغيراً. وضحكاتي تمتزج بضحكاتهِ عندما نتسابق في المساحةِ الممتدة ما بين المطبخِ وبوابة الدار. كيف كان يحملني على دراجتهِ النارية قبل ثمانِ سنوات من الكرادة الى البيت حينما إستنجدتُ به وأنا محصورٌ عند كلية الطب بعد أن نجحت في السنةِ الرابعة.لاأعرف لماذا جاءت جميع الصور التي عشتها مع والدي من الطفولةِ حتى لحظة ألأنهيار؟ بلا وعي صرختُ بأعلى صوتي ” بابا…بابا..بابا” . كانت صرخاتي تمتزج مع أدوات الجراحة التي يستخدمها زملائي ألأطباء في تلك اللحظة وهم يحاولون إنقاذي بكل الوسائل المتاحةِ هناك في ردهة العمليات. عند الغروب شاهدت – زينة ألأنوثة المتفجرة- تمسح جبيني بقطعة قماش لازالت رائحتها تسكن روحي ومشاعري, وامي تقف مذهولة كأنها فقدت النطق منذ آلاف السنين. والدي يقف في الزاوية البعيدة ينزف دموعاً بصمت.في ساعاتٍ قليلة تحول الفرح الى حزنٍ لاينتهي وزغاريد العرس الى آهات مغمسة بحسرات على مدار الساعات. لم أتناول طعامي مع زملائي ولم أستطع حضور الغداء الذي جهزته لي خطيبتي . كانت الفتاة التي دهستني ترتعش قرب سريري والمحقق ألأمني يطلب من والدي أن يتحذ ألأجراءات ألأصولية بحقها. لا أعرف لماذا تركها والدي؟ لماذا تنازل عن حق تحطيم ولدهِ؟ هل هي ألأنسانية التي حطت على روحهِ في تلك اللحظة أم أن هناك سبباً آخر. عادت الفتاة الى بيت أهلها كأن شيئأً لم يكن , وبقيتُ أنا أنزف آلامي على مدار ألأيام والشهور .ظلت- زينة ألأنوثة المتفجرة- ترعاني كل يوم ولكنها لم تعد تزغرد أبدأً.