18 ديسمبر، 2024 7:17 م

لم يعد للزمن بقية

لم يعد للزمن بقية

من أبشع اللحظات الأنسانية بالنسبة للمرء، تلك اللحظات التي يشاهد فيها نظرات منكسرة لرجل عجوز شارف على الثمانين وهو يتخذ زاوية من زوايا الطرق الممتدة الى وسط المدينة وفي يده حزمة من المناديل الورقية يحاول بيعها كي يقتات على ثمنها البخس عند نهاية يوم شاق. هذا ماحـــدث لي اليوم عند التقاطع القريب من مدينة – السيدية – وأنا أقود درجاتي الهوائية البسيطة لممارسة رياضة تنقذني من كآبة أيام ليس فيها سوى الحسرات وألآهات على زمن لم يعد له قيمة في تاريخ حياتي التي تمتد أكثر من خمسين عاما. مئات السيارات تمر مسرعة دون أن يلتفت لوجود ذلك الرجل البائس المسكين..لاأحد يعترف أصلاً لوجودهِ على خارطة الحياة. شاء القدر أن أخفف من سرعة دراجتي الهوائية قريبا منه كي أجتاز الطريق الخطر حيث السيارات التي تمر بأقصى سرعة. بلا تفكير تقدمتُ نحوهُ لأشتري من بضاعته – علماً أنني لم أكن في حاجةٍ الى بضاعته البسيطة . وقفتُ على مقربةٍ منه أحدقُ في وجهه المرهق بشكل ملحوظ. عينان غائرتان وأسنان تلاشت بالكامل عدا واحدٍاً لا أعرف كيف ظل ملتصقاً في مكانهِ رغم كل ذلك الشقاء المرسوم على وجهه بطريقة تحطم أقسى القلوب. بطريقةِ المزاح قلتُ له مبتسماً ” كم سعر العلبة الواحدة من هذه المناديل الورقية؟ ” أجابني بطريقة حزينة ” سعر العلبة الواحدة 500 دينار.” أردفتُ قائلاً ” هل لديك خردة..لا أملك إلا هذه الخمسة آلاف دينار” . على حين غره قال بحزنٍ شديد كأنه صار متأكداً بأنني لن أشتري منه أي شيء ” لا والله ..لم أبع لحد الآن أي شيء..المعذرة ” . بحثتُ في حافظة نقودي فعثرت على أربعة آلاف دينار أخرى. صرختُ بفرح ” لقد وجدت مايكفي لشراء بعضا من بضاعتك..أعطني أربع علب ” فرح كثيراً وكأنني إمتلكته في تلك اللحظات العصيبة التي يمر فيها. وضعتُ البضاعة في صندوق دراجتي وقبل أن أنطلق أردتُ أن أجري معه حديثاً مقتضبا لا أعرف لماذا شعرتُ بضرورة الحديث معه ! . سألته فيما إذا كان لديهِ أولاد أم لا..ولماذا لايدع أولاده يعملون بدلاً عنه – إذا كان لديه أبناء- أخذ نفساً عميقاً كأنه يستعيد ذكريات بعيدة جداً أو أنني هيجتُ جرحاً لازال ينزف رغم هذه السنوات الطويلة التي كان يعيشها في هذا العالم المرعب. ” لدي ولدان متزوجان بَيْدَ أنهما تركاني وحيداً وذهبا مع زوجاتهما. أنا الآن أسكن في بيت تجاوز بسيط جداً . كل شيء ضاع.” قال تلك الكلمات وهو يشيح بوجهه عني وكأنه يداري قطرات دموع أوشكت على الخروج رغماً عنه . نظرتُ في أعماق روحهِ المنكسرة وقلت له بلا ترد ” لدي ولد في تلك المدينة ذهب هو الآخر مع زوجته ولم أره منذ أسابيع طويلة..” صاح بجدية ” سأعيد لك نقودك وخذ المناديل الورقية مجانا ” إبتسمتُ له بحزن وأنا أردد بألم ” شكراً لك..لدي مايكفيني من النقود لنهاية الشهر..أنا مثلك أحتاج لشيء آخر..ليس له علاقة بالنقود …مع السلامة ” . ركبتُ دراجتي وأنطلقتُ بسرعة ودموع حبيسة تحرق عيناي بشكل كبير. ظل صوته يصل إلي وهو يطلب مني أن يعيد لي نقودي. على طول الطريق الممتد الى أكثر من عشرة كيلومترات كانت صورة الرجل البائس ترتسم أمامي وكلماته ترن في أذنيَّ بلا توقف. عجيب هذا الزمن . هذا البلد العملاق في ثرواته التي لاتنضب وهذه الأموال المتدفقة كل يوم من نفط أرضنا الطيبة تذهب الى فئات بشرية سارقة بكل ماتعنيه هذه الكلمة من معنى ..وهذا الشعب المسكين يئن تحت طائل الفقر الرهيب . هذا البرلمان الذي أصدع رؤوسنا بقراراته البائسة وهذه الحكومة بكل مكاتبها ومنشآتها لم تستطع أن تتكفل بهذا الرجل العجوز المسكين ولم تستطع أن توفر له عيشه مناسبة. أما الحديث عن أبنائه فهذا شيء آخر . اللهم حطم كل من يترك والديه من أجل إرضاء زوجته أو يستنكف من العناية بوالديه وسلط عليه من لايرحم ليذوق العذاب العظيم.