23 ديسمبر، 2024 7:36 ص

لم يعد لدي دموع للبكاء

لم يعد لدي دموع للبكاء

الرواية التي نحن بصدد قراءتها، شهادة واقعية قدمها الصحفي الايراني فريدون صاحب جان، الذي حكم عليه بالاعدام من قبل الحكومة الاسلامية الايرانية، وقد أقام بعد هروبه من ايران في عدة بلدان اوربية حيث مارس الكتابة للعديد من صحف هذه البلدان، ونشر العديد من المقالات والتحقيقات عن ايران، وأشهر كتبه:

ايران بهلوي، ط 1966

ايران سنة 2000، ط 1978

بأسم الله، ط 1983

لقد اختار المؤلف عنوان روايته (لم يعد لدي دموع للبكاء) كشهادة للتعبير عما كان يعانيه المئات من الاحداث المساقين بالاكراه في قوات الحرس الثوري، ولقد اختار المؤلف نموذجاً واقعياً لبطل هذه الرواية الشهادة، وهو طفل ايراني دخل آتون الحرب ولم يكن قد تجاوز بعد عامه الثالث عشر، كيما يعطينا التفاصيل الدقيقة لما كان يدور في ايران خارج وداخل الجيش الايراني، هذا النموذج (بطل الرواية) ليس نموذجاً خيالياً بل انه شخصاً حقيقياً وقع في الأسر بأيدي القوات العراقية.

والمؤلف يدون في كتابه قصة ذلك الأسير الطفل قبل وخلال تجنيده في الجيش الايراني للعدوان على العراق. حيث اختار اسماً رمزياً لهذا الطفل وهو رضا بهرزي حيث يقول في مقدمة الرواية (اخترت لهذا الصغير هذا الاسم ليحمل اسم صديقين بريئيين اجبروا ايضا على التطوع للقتال ضد العراق وقتلوا في احدى معارك 1982. مات الاول لأن وحدته لن تزوده بالطعام لمدة ثلاثة ايام، ومات الآخر وسط حقل ألغام ممزق محترق…

هكذا يبدأ الصحافي صاحب جان قصة الطفل رضا بهرزي الذي جند في القوات الايرانية وهو لم يبلغ الثالثة عشرة من عمره، وقد قذف به وبالاف غيره من الاطفال الى حقول الالغام على على الحدود العراقية جنوب ايران، فتمزقوا واحترقوا لغرض فتح الطريق امام القوات الايرانية، والملالي ذوي الكروش لدخول العراق، وللانتقام بعد ثلاثة عشر قرناً من العرب على هزيمة الفرس في القادسية ولاستعادة المدن العراقية المقدسة التي سممت الدعاية الايرانية عقول الاطفال والجهلة حول تابعيتها بادعاء انها كانت فارسية.

ورضا هذا، طفل ينحدر من اسرة فلاحية تسكن قرية تدعى بوتشان تابعة لمدينة كرمنشاه، تتكون من الأب والام وثلاثة اخوات وثلاثة اخوة وهو اصغرهم. قتل ابوه عام 1981 وولده الثاني (15 سنة) ليموتا بعده باسابيع في الجبهة، اما رضا فكان قد تجاوز الثانية عشر بشهور قلائل وكان يحلم بمواصلة دراسته باعتباره وحيد العائلة في تعلم الألف ياء. ولكن الملالي سلموه وقوداً لحربهم ضد العراق. وقد جرح مراراً بسبب القصف كما جرح بسبب اعتداءات

وحشية من افراد الجيش البالغين. ووقع اسيراً في صيف 1982 وهو مثخن بالجراح وقد انقذته معجزة الرعاية الطبية في معسكرات الأسر العراقية.

“صحيح ان هذا الصبي الذي يبلغ اليوم ستة عشر عاماً- بالنسبة لتاريخ صدور الرواية- لن يصبح كغيره ممن هم في مثل عمره قادراً على الركض والرياضة والتنقل بحرية. فهو مرمم ومليء بآثار الندوب… ولكن عندي رغبة جامحة لأعيش كما يجب… يقول لمحادثيه: ان الله لم يشأ موتي ولذا فلا يزال عندي شيء ما افعله على هذه الارض”.

هنا تبدأ مأساته الجديدة ومعه المئات من زملائه من الاطفال الاسرى الذين حررتهم جميعاً الحكومة العراقية وسلمتهم الى الصليب الاحمر الدولي. فحكام ايران رفضوا السماح لهم بالعودة الى بلادهم، لماذا؟ لأن عودتهم ستكون ضربة قاصمة للنظام الايراني الذي يواصل سياسة الدجل وخداع الناس البسطاء بأسم تقدير (الشهادة) و(الشهداء).

ف رضا وزملاؤه الاحياء قد أعلن الملالي الحاكمون لعوائلهم عن موتهم (شهداء) وامهاتهم يتلقين عن ذلك عطاءات شهرية، فعودة رضا وزملائه سيحطهم تلك الترتيبات.. واذا عادوا فانهم سيتحدثون عما شاهدوه وسمعوه، وخصوصاً كيف تم علاجهم وانقاذهم على ايدي العراقيين، وهذا بالطبع أمر لا تغتفره الحكومة الايرانية.

لقد اثقلت الايام عائلة هذا الصبي في زمن الشاه حيث كانوا يعانون الفقر وتسلط الاقطاع والجهل. اما الصبي الذي كان يحب مدرسته كثيراً، فلقد احب التعليم والشعر والشعراء وعلى وجه الخصوص الشاعر عمر الخيام، ولم يكن لدى هذا الطفل ولا لأي فرد من افراد عائلته أية فكرة عن آية الله خميني ومعاونيه حتى بعد ان استلم خميني السلطة في ايران، ولم تجد عائلة رضا بهرزي تحسن يذكر في مجمل حياتهم الاجتماعية، فلقد واصلت هذه العائلة رحلة الدموع وبشكل أمر من السابق بعد مقتل ابيه واخوته، فلقد زادت المتاعب وانهكهم البؤس والخوف والجوع، وحينئذ دخل في حياتهم احد رجال الدين من الملالي المتنفذين في تلك المنطقة من ايران ونقلهم من الريف الى المدينة. وقد بدى هذا الرجل لهذه العائلة للوهلة الاولى كم هو طيب وصاحب نزعة انسانية. فلقد امدهم بالعون الكثير والسكن الجيد وقد ساعد الجميع وشفق عليهم.

جاء الى بيتهم الصغير بعد مقتل ابيه الملا المعروف ذو النفوذ الاكبر في مدينة كرمنشاه ويسميه بالشيخ ممد، بعمامته الضخمة ولحيته الطويلة ونظارته السوداء وكرشه المترجرج وصوته الخشن، جاء ليسري عن الأم كما قال، وليعد بتقديم عطاء شهري لها، عن كل قتيل من العائلة، وتكررت زيارته مع مقتل اخوي رضا الصغيرين، وصار هو صاحب البيت يأكل وينام ويضرب الاولاد والبنات بعصاه، وتبين انه يفعل ذلك مع عدد من عوائل ضحايا الحرب يشارك في مخصصاتهم، ويحتل مساكنهم، وينهب الامتيازات باسمهم، ثم اقنع الارملة الشابة بالنزوح الى المدينة ووضع تحت تصرفها بيتاً منهوباً.

لكن رضا بهرزي صدم صدمة كبيرة بهذا المدعي المتسلط بأسم الدين والسلطة حينما تدخل كي يزوج اخته الكبرى من قريب له في الثلاثين من عمره وهو متزوج وله اطفال، وحينما رفضت الفتاة الزواج من قريبه، اخذ الملا يضربها ضرباً مبرحاً الى حد الوحشية والاغماء عليها وتبين انها نالت ذلك العقاب بسبب رفضها هذا الزواج الذي اراد الملا ان يفرضه عليها وهو من اقاربه، وكان واضحاً ان الملا ممد يريد ان يشاركه قريبه في الغنائم التي كان يحصل عليها باسم الموتى.

وكانت الصدمة الثانية أشد وقعاً على رضا بهرزي مما جعله يهرب من البيت ليواصل رحلة الدموع… ففي احد الايام دخل البيت وسمع تنهدات غريبة، مما جعله يتسلل مختلساً النظر فشاهد الملا يضاجع والدته. وتبين له، ان الملالي يفعلون ذلك مع الكثيرات من ارامل قتلى الحرب، وان لكل واحد منهم اكثر من ارملة واحدة ولهم اكثر من بيت يتنعمون فيه على حساب العوائل الضحية.

وهكذا يسرد لنا هذا الطفل بوقائع بسيطة الكثير من خبايا النظام الايراني واسلاميته المزعومة باستخدام الحرب وسيلة للفساد والافساد وللتنفيس عن العقد الفارسية القديمة في الانتقام من العرب، ولاحتكار مواقع السلطة جميعاً.

وقد اخذ الملا ممد، يرى في الطفل رضا خصماً وعقبة، واخذ يحرض امه الشابة ضده لكي يتطوع ويصبح شهيداً كأخويه وأبيه . ومع مرور الزمن تحولت الام الى مجرد آلة عجماء صماء تشتم اطفالها وتضربهم، خصوصاً رضا، وتلح على تجنيده قبل ان يصل الثالثة عشرة وتطلب من اطفالها ان يقبلوا يد الملا ممد ويعتبروه أباهم وهم يرفضون. لقد سلبها الملالي من كل عاطفة وانسانية وحنان.

تلك وقائع رآها طفل صغير في قرية جبلية منسية من مقاطعة كرمنشاه، ولكن رضا لم يكن يعلم ما يجري في بقية انحاء ايران وفي العاصمة بالذات من جرائم قتل وتعذيب وهتك اعراض ومن نهب وسلب ومختلف الاثام… التي كانت ولا تزال تفترف باسم الاسلام المجني عليه.

لقد استطاع المؤلف بأسلوب واقعي وقابلية كبيرة على السرد وانسيابية الاحداث ان يترجم خلجات ومعاناة رضا بهرزي، وان ينقل لنا الصورة الحقيقية للمجتمع الايراني تحت حكم خميني كاشفاً لنا وعلى لسان بطله الدجل والكذب الذي كان يمارسه البعض من رجال الدين لا سيما داخل صفوف المتطوعين حيث يقوم هؤلاء باستغلال جهل وصغر سن الاطفال الذين لا يتجاوز عمر اكبرهم الرابعة عشرة من العمر يملأ رؤوسهم بافكار مزيفة بغرض سوقهم الى جحيم الحرب.

يروي لنا رضا بهرزي بعد ان سيق مع المساقين من صغار السن ممن هم بعمره تقريباً “نقلنا الى احدى الجبهات في منطقة ديزفول، وقيل لنا ان هذه هي الحدود العراقية وان خلف تلك التلال توجد كربلاء والنجف، وما علينا الا ان نتقدم الى الامام فيهرب العراقيون ونذهب الى الاماكن المقدسة بعد ان خطب بنا رجل دين ملتح يناشدنا: ابنائي ان الرجل المقدس الامام خميني يبارككم ويقول لكم ان النصر حليفكم لا ريب فتقدموا، ولم نكد نتقدم الكثير وعلى بضعة

كيلومترات ونحن عزل من السلاح سوى البعض ممن يحمل العصي حتى انهالت علينا القنابل والاطلاقات النارية فلم يبق منا الا نفراً قليلاً ولم نكن نعرف ان هناك عشرات الكيلومترات تفصلنا عن الحدود العراقية”.

وفي جبهة الاهواز يروي رضا بهرزي الواقع المر وما رآه وسمعه هناك، فيقول “لقد نقلنا الى جبهة الاهواز وعلى بعد عدة كيلومترات امام القوات العراقية، وكنا اعداداً كبيرة من صغار السن وتستعد لشن هجوم على القوات العراقية، واذا بفرس ابيض يمتطيه رجلاً بلحية بيضاء ورداء ابيض يتقدم نحونا، فخيل لي للوهلة الاولى، واني من فرط التعب وشدة ما اعانيه من جوع وعطش انما الذي اراه هو شبح لا ريب، وبعد ما سئلت من يكون؟ تأكدت بأنه حقيقة ولست الوحيد الذي يرى ما اراه تقدم هذا الفارس مخاطباً: يا اولادي انا امام الزمان انا مهدي المنتظر امركم بالهجوم على العراقيين لنحرر اماكننا المقدسة النجف وكربلاء. وعلت صيحات يا حسين… يا علي … واتجه الفارس نحو القوات العراقية، ولم نعد نراه، فتقدمنا للهجوم تحت صيحات رجال الدين الملتحين وهم ينادون – تقدموا لا تلتفوا الى الوراء ولا تنظروا الى المقتلولين حتى لا يصيبكم الفزع. وهناك جرحت ولم اعد اعي شيئاً، ونقلت الى المستشفى”.

ومن داخل المستشفى الذي كان يعالج فيه بعد نقله اليها لأصابته في الجبهة، ينقل لنا رضا الحقيقة التي اذهلته “لم نكن نحن الصغار بأن هناك الكثير من الطوائف والقوميات هم ايضاً مجبرون على القتال ضد العراقيين، ولم أكن اعلم ان هناك فرق بالنسبة للحكومة الاسلامية بين الفرس والقوميات الاخرى الذين هم يقاتلون معنا ايضاً، ففي المستشفى جاء الي الطبيب ومعه عريف وسأل عن اصابتي فقلت لهم بأني اصبت اثناء الهجوم ورأيت أكداس من القتلى تدوس عليهم العربات وفقدت رشدي فطلب مني عدم التحدث بهذا الموضوع ثانية، وبعد ان عولجت وجلبوا لي طعاماً لم اذق مثله في حياتي لردائته، وقع نظري على شاب اسمر اللون في الخامسة عشر من عمره مستلقياً بجوار سريري، كان في البداية متردداً ولا يريد الكلام، وبعد ان توددت اليه تبين لي ان الحكومة تعامله كجاسوس ومشكوك في امره على الرغم من اباه واخاه قتلا في الجبهة وتبين انه من اب ايراني وام عربية، واخبرني بمرارة بأنه يعاني من التفرقة وبكونه نصف ايراني وانه من الطائفة السنية، وقال لي اننا في الجبهة كنا ضمن وحدات منعزلة من الجيش ولا يسمح لنا بالاختلاط بهم ابداً، وانا هنا داخل المستشفى رغم اني جريح فهم يكلفونني بتنظيف المرافق الصحية والمطبخ وكنس المستشفى وحينما كنت في وحدتي لم يكن يسمح لنا بحمل البندقية او السكين، وفي اغلب الاحيان كانوا ينادونني – ايها العربي… يا ابن الزانية – فقلت له لكنك تقاتل معنا فأنت منا فقال لي والدمع ينهمر من عينيه.. هنا وفي هذه المستشفى غالباً ما يتجاهلونني عمداً في وجبات الطعام بينما يتناول الآخرون طعامهم على علاته فقلت له سوف اقتسم الطعام معك فأجاب لم يسمح لك بذلك، وبعد ذلك طلب مني ان اناوله زجاجة كبيرة تحت السرير فشرب منها وافرغها وقال لي مبتسماً ان هذا الدواء سوف يضع حداً لعذاباتي كلها.

ثم يسرد لنا رضا بهرزي كيف وقع اسيراً مشلول الساق بأيدي القوات العراقية بعد خروجه من المستشفى فيقول –خرجت من المستشفى وتلقيت بعد ذلك التدريبات اللازمة وكنت رغم صغر سني من المتفوقين في التدريب ولم أكن

اعلم بأنهم سوف يرسلونني بمهمة قتالية جديدة وكنت احسب بأنهم سيكلفونني بنقل الجرحى او اعداد الطعام فأعطوني بندقية ورسلوني مع مجموعة بمهمة قتالية داخل الحدود العراقية، وقال لنا القائد بأنه اختارنا لهذه المهمة لاننا شجعان وان الاوامر تقضي بان لا نجلب اي أسير او جريح من القوات العراقية بل يجب قتل الجميع وان من يتراجع او يخاف فعقوبته القتل ويعتبر خائناً ويجب تنفيذ المهمة رغم قدرتنا على ذلك. وبينما كنا نسير متسللين داخل الحدود اكتشفت بأن احد اصدقائي كان يصلي بلغة وحركة اجهلهما فسألته عنها فأجابني بأنه مسيحي وان اسمه ليون، فدهشت لذلك، وبعد ان تقدمنا قليلاً شاهدنا جريحاً عراقياً وكان يصلي هو الآخر بنفس طريقة صديقي ليون فما كان من صديقي الا ان توجه اليه وسقاه الماء، فقلت له انك تخالف الاوامر، فكيف تسقيه الماء، فقال لي- لكنه من ديني وجرحه بليغ واريد البقاء بجانبه.

كنت حائراً ونيران المدفعية تنهمر علينا من كل صوب فتركته واتجهت نحو مرتفع صغير وذهبت الى قائد المجموعة، فقال لي ان انتظر حتى اصدر لك امراً، وبينما كنت كذلك جرحت في ساقي وكانت اصابتي بليغة، شاهدت بعدها الدبابات والعربات التي لا تحصى، محملة بالاف من العراقيين، وكان هذا هجومهم المضاد، وخيل لي، انها ترسانه من السلاح تتجه نحو الامام وبلا انقطاع، وبعد حين كشف امري وشعرت بان قلبي يتوقف من شدة الخوف، وكنت ادعو ربي …….. رباه أهذه هي جنتك. بعدها وقعت في أسر العراقيين .

وبعد ان قضى رضا مدة في الاسر، اطلقت الحكومة العراقية سراحه وسلمته للصليب الأحمر، لكن الحكومة الاسلامية في طهران رفضت استقباله، وجاء رفضها باستقباله لاعتقادهم بانه مات وقد اخبروا عائلته بذلك.

ويقول المؤلف ان سبب رفض ايران استقباله هو خوفهم من يقص الحقيقة المرة، حقيقة تعسفية ولا انسانية هذه الحكومة على الايرانيين.

انه يعاني الآن من الامراض النفسية والجسدية الشيء الكثير ولم يعد معنى للابتسامة، ولقد جفت مقلتاه، ولم يعد هناك من دموع لديه كي يبكي.

انها رواية شهادة لواحدة من المآسي الكثيرة التي عرفها الكثير من الاطفال الذين عرفوا طريق الرعب وعرفوا آلامها البدنية والنفسية.

* الرواية

Freidoune Sahebjan- Je n ﹶai plus de Larmes pour pleure, Grasset et Fasquelle, Paris, 1986.

[email protected]