23 ديسمبر، 2024 1:12 م

لم يؤثر التعليم في سلوكنا

لم يؤثر التعليم في سلوكنا

للتعليم تاثير ايجابي على سلوك الانسان واسلوب حياته، وللثقافة العامة تاثير مضاف في هذا الجانب. وتنبه المتنبي لذلك فيشير الى العقل والجهل بقوله:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
واخو الجهالة بالشقاوة ينعم
والعقل دلالة واضحة للتعليم وربما من المجالس فهي مدارس، وما الجهالة في البيت الشعري الا تؤكيد لما يريده بعيدا عن قواعد اللغة. وبعد قرون طويلة يتعزز الولاء بمساحة اكبر للقبيلة والعشيرة والعائلة وغيرها. فيشعر الفرد كأنه في زمن الجاهلية قبل الاسلام التي تعبر عنها بوضوح بعض الابيات الشعرية ادناه:
ونشرب ان وردنا الماء صفوا ويشرب غيرنا كدرا وطينا
بأنا نورد الرايات بيضا ونصدرهن حمرا قد روينا
بشبان يرون القتل مجدا وشيب في الحروب مجربينا
ويتداول البعض قصص (رجالهم ذلوا فلان، بل اجبروا فلان عشيرة على الركوع وغيرها) فخرا باعمال صبيانيه للدلالة على الشجاعة وقوة البأس، واصبح لكل عشيرة شاعرها او كوالها باللهجة الدارجة. وقد تصدى قادة الفكر في العراق لذلك، فتزعموا حركات التغيير في المجتمع، والدفع نحو سلوك حضاري يتجاوز جاهلية العرب قبل الاسلام. ويؤرخ الادب العربي نماذج لتلك المحاولات ومنها:
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي وبنفسي فخرت لا بجدودي
او
فخرت بنفسي لا بقومي موفرا على كل ناقصي قومي مناقب اسرتي
والاول للمتنبي والثاني للشريف الرضي، ولعمري هذا تمرد ونقد واضح للاستناد على النسب والعشيرة والقبيلة في القوة والتصرف بمساحات ابعد من حدود العقل. وفي الابيات السابقة غمز سياسي للخلفاء من بني العباس، وحججهم في التحكم برقاب الناس. ويترفع الجواهري ليقدم نفسه الشعب او الحق بدون النسب والعشيرة والقبيلة وغيرها في مواجهة حكام النصف الاول من القرن العشرين في العراق وفي حفلة تكريم الوتري عميد كلية الطب وقتها لمنحه شهادة قخرية:
انا حتفهم الج البيوت عليهم اغري الوليد بشتمهم والحاجبا
ماذا يضر الجوع مجد شامخ اني اظل مع الرعية مرهقا
ويتطور الامر في هذا الزمن، لتبدو مثل تلك الدعوات مثار سخرية البعض. فقد انتشرت تلك التصرفات، وعدنا الى زمن عمرو بن كلثوم (بعض ابيات شعره اعلاه). وربما تشابه سلوك البعض في النصف الاول من القرن العشرين مع ما نشهده في هذا الزمن من تردي في السلوك ليشتكي الكل من تردي الاخلاق. ويتندر الجواهري على ذلك التردي بقصيدة اي طرطرا، يشجب فيها اساليب رخيصة, ومنها الابيات التالية:
تشيعي تسنني تهودي تنصري
تزيدي تزبدي تعنزي تشمري
تعممي تبرنطي تعقلي تسدري
وربما نعيش اليوم اوضاع مشابهه او اكثر تعاسة، وينقصنا الابداع الادبي لتصويره. ومعاني الابيات في قصيدة اي طرطر واضحة لا تحتاج الى شرح وتفصيل. وفيها يظهر دور التعليم في تقديم نموذج للاصلاح الاجتماعي في النقد الواضح والساخر. والجواهري تعلم في مجالس الدين والحركة الثقافية في العراق عامة.
تراجع المثقفون والمتعلمون عن مواقفهم في تطوير وتنوير وتغير المجتمع نحو الافضل امام اغراءات لا تعني شيئا ابدا، وتلون تبعا لذلك البعض من طائفة الى اخرى او عشيرة اخرى اقوى مثلا. ويستهوي البعض الشعور بالقوة الخاصة بعائلته وعشيرته ليتميز في محيط صغير جدا. وعاش كثير منهم بذلك الوهم اي قوة العشيرة والجماعة والمنصب، فيتحول ذلك الوهم الى ممارسات وسلوك يستحسنه المتملقون والجهلة. وسابقا ترددت بقبول صدق المتنبي بقوله:
والظلم من شيم النفوس فان تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
واصبحت اكثر ميلا لتصديقه، وكأن المتنبي من علماء النفس مثله مثل فرويد. لقد اصر احدهم على جمع مثقفين ومتعلمين، بل من امتهنوا ذلك في علوم معقدة، ليشهدوا جلسة عشائرية بمخاصمة زميلا له ولهم، ليتشفوا بالعقل والمعرفة، واهانة العلم عندما ينبهروا بامي حوله بعض الشقاوات (تفاكة). وليستعرض قوة يرهب بها من تسول نفسه لتجاوزه. ربما يفتتن الحضور بتلك القابليات فيضيق لديهم تعريف الارهاب في حدود البندقية والرصاصة والقنبلة والحزام الناسف. وبذلك تجردوا من التفكير العلمي والمنطقي Abstract thinking .
 في السبعينات من القرن الماضي اصبح الملاكم محمد علي كلاي رمزا للقوة عند الشعوب العربية والاسلامية. تابعوا اخباره وتناقلتها صحفهم على صفحاتها الاولى، ودعوا له للفوز في المباريات وحتى في الجوامع. ويتحول الفوز في مبارايات الملاكمة الى نصر فقده العرب والمسلمون منذ قرون طويلة جدا. وقلد شبابهم كلاي (محاكاة) ونسوا العلم والصبر لتحصيله.  بل تجاوزت تلك المحاكاة للساسة وقتها، فبحثوا لهم عن نصر في فوز كلاي. فاصبح الملاكم محمد علي كلاي رمز للشقاوات التي اضحت تحكم العراق طيلة عقود طويلة وتقوده الى هذا الخراب. وباسى واضح ينتقد الجواهري تلك المظاهر:
شسع لنعلك كل موهبة وفداء زندك كل موهوب
وصدى لهاثك كل مبتكر من كل مسموع ومكتوب
وكل ما همس الغواة به من فرط تاريق وتعذيب
ولابد من الاشارة الى ان من ساهم في صنع هذه الاشكاليات قادة العرب للفكر او للسياسة او للدين من خلال محاربة الفكر الديمقراطي ورموزه باعذار واوهام شتى طيلة القرن الماضي.
[email protected]