عندما خاطب الله جلّ وعلا عباده بقوله تعالى {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} والجعل، كما يقول المفسرون، يأتي بعد الخلق، فهو عند المعاصرين ضرورة اجتماعية، وليس ضرورة طبيعية، أي أنه جزء من صيرورة المجتمع الخاضعة لشروط إنسانية، وليس جزءً من صيرورة الخلق الخاضعة لشروط إلهية، ثم أنه جلّ وعلا قدم مفهومين، أحدهما مألوف لدى المجتمع يوم الخطاب وهو القبيلة، والآخر جديد وهو الشعب، لكي يحضر المفهوم الجديد بمقدمات مألوفة، والله اعلم.
إن مفهوم الشعب إذن مفهوم قرآني أصيل في ثقافتنا، إلا أنه احتل الواجهة في سبعينيات القرن الماضي، حيث كان هناك خلاف بين القوميين والشيوعيين حول توصيف العرب، أهم شعب أم شعوب، وكان المتعارف لدى الشيوعيين وغيرهم من منتحلي الفكر التقدمي أن يقولوا: الشعوب العربية، في حين تعارف القوميين وغيرهم من منتحلي الفكر العروبي أن يقولوا: الشعب العربي، وكان العرب يومها أقرب إلى الشعب الواحد منهم إلى الشعوب المتعددة، ربما لأنهم قريبو عهدا بما توهموه تحررا من السيطرة الاستعمارية، فكانوا يعيشون تضامنا جميلا، ولكنه وللأسف الشديد يطفوا على وهم قبيح، زرعته طبقة حاكمة، أوصلت الناس إلى الاستنجاد بالمستعمر نفسه، لإنقاذهم من جور الحكام واستبدادهم، كما هو حال العراق على سبيل المثال وليس الحصر، فقد سكت العراقيون عن دخول المحتل الأمريكي بغداد بعد ما أذاقهم صدام ظلما ندر أن يسجل مثله في التاريخ الحديث.
إذا ما كنا، فيما مضى من سالف الأيام، نعرض عن توصيف العرب بالشعوب، فنحن اليوم مسلّمون بحقيقة أن العرب ما عادوا شعوبا، ربما نترحم على حقبة توصيفهم شعوبا، حتى وان جاء على لسان شيوعي وفي موسكو، فلا بأس أن يكون هناك شعب عربي عراقي وآخر مصري وثالث لبناني، ولا باس أيضا أن يتألف كل شعب من مكونات، هي في الحقيقة تفصيلات جزئية على لوحة الهوية الكلية، وانما هم اليوم طوائف، فالشعب العراقي اليوم هو مجموعة طوائف، هذه الطوائف لم تكن على الاطلاق تفصيلات جزئية في إطار هوية وطنية جامعة، إنما هي هويات مستقلة، لكل هوية توجه عقدي خاص، بل وحتى مرجعية دولية.
إنه لمن المؤكد أن ولادة الشعوب تقوم على تطلع مشروع ينجب قادة مخلصين، يبيعون أنفسهم من أجل قضية الشعب، وهي ولادة طبيعية، وليست، قيصرية على الاطلاق، أما عند الطوائف فالأمر مقلوب، هناك زعماء يجهدون على استيلاد طوائف من خلال ولادات قيصرية، وأن هؤلاء الزعماء مستعدون للمتاجرة بمقدرات هذه الطوائف من أجل تكريس زعامتهم، بل ان زعما الطوائف كالعصابات التي إذا اتفقت أمعنت في سلب الناس، وإذا اختلفت أمعنت في قتلهم، فزعماء الطوائف عبارة عن عصابات، هناك من يدخل في الوحل، من أجل أن تبقى ياقاتهم بيضاء، بيدهم حرب المجتمع وسلمه، فالمجتمع بالنسبة إليهم ليس سوى سوق للمتاجرة بالمقدرات.
الغريب أنك ترى زعما الطوائف المتناحرة أصدقاء، تجمعهم علاقات عائلية، يتزاورون ويتفقد أحدهم الآخر، في الوقت الذي تتناحر فيه الطوائف التي يتزعمونها تناحرا مرا، وذلك لأن في التناحر تكريسا لزعاماتهم، فكل واحد منهم يوصل طائفته إلى القناعة بأنه حارس دينهم وأنفسهم وعقولهم وأموالهم وأعراضهم، وإذا ما تخلى عنهم لحظة واحدة، سوف تنتهك الطوائف الأخرى تلك المقاصد الكبرى، ومن يدري أنه قد يطلب من صديقه زعيم الطائفة المعادية أن يستفز طائفته لتحقيق غاية في نفسه، وإن فعل هذا المعروف، فإنه سيرده بمعرف مثله حتما، ولكن الحقيقة التي قد يجهلها زعماء الطوائف، الذين يظهرون فائض ورع ديني، هي أنهم يقودون الناس إلى الجوع والذل اللذين سيوديان إلى الكفر، وسيكون المآل فوضى، ومن ثم انهيار لا يبقي ولا يذر، إلّا أن زعماء الطوائف عندما يصل الأمر إلى الانهيار، يكونون حينها يتجاذبون أطراف الحديث على متن طائرة تحلق فوق ذلك الانهيار.
يقال بالعراقي: لعبوها عدل، ولكن الحقيقة أن الشعوب مكانها ضمائر نابضة بالحياة، وليس طاولة قمار، إلا أنها، أي الشعوب أو الشعب، مطالبة بصنع إرادة الحياة، وإلا ستلدغ من الجحر نفسه مرات، في حين أن المؤمن قد يلدغ من جحر مرة واحد، ولكن رسول الله (ص) يقول: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. وبمقياس هذا الحديث الشريف: هل بقي فينا، نحن العرب المتفاخرين بأننا لحاء الإسلام، مؤمن؟