18 ديسمبر، 2024 11:21 م

قصة
اجتهدتُ كثيرًا في إتقان كل ما أتعلمه في دورة اللغة الانجليزية، لأجل كسب رضا والدتي قبل أي شيء آخر، فقد هددت ألا تأخذني معها لدى سفرها إلى البلد المجاور للقاء أخوتها المهاجرين منذ زمن، حيث قرروا التجمع أخيرًا بعد عمرٍ من الفراق، حتى أنني لا أتذكر أيًا منهم تقريبًا، سوى ملامح ضبابية لا تلبث أن تتنقل من وجهٍ لآخر في خاطري.
وكي لا أحرجها أمام أولاد وبنات أخوالي الذين نشأوا في أمريكا ودول أوروبية مختلفة، وكل منهم يتكلم لغتين أجنبيتين على الأقل، أوجبتْ عليٌ تقوية لغتي الإنجليزية بأسرع وأفضل ما أستطيع، هذا غير الثياب والأحذية والعطور التي حرصت أن تنتقيها معي من أرقى المحال في العاصمة، كلها ذات ماركات عالمية معروفة، تكرر على مسامعي أني يجب أن أظهر أمام الجميع على أحسن حال، رغم أن الحظ لم يحالفنا ونجد دولة مهجر تحتضننا نحن أيضًا كما حدث مع الأخوة المحظوظين الذين استدلوا على درب الخلاص تباعًا، بينما تحملت والدتي عبء مراعاة جديّ ـ رحمهما الله ـ بعد استشهاد والدي وعودتها، وأنا برفقتها، للسكن معهما ومن لم يكن قد تزوج بعد.
حكتْ لي أمي عن كل منهم مطولًا مستذكرة عقودًا مضت، عندما جمعتها وإياهم ذات الجدران المتصدعة، كما لو أنها آيلة للسقوط، طالما ضقتُ بها وتمنيت الفكاك من أسرها بالانتقال إلى بيتٍ جديد، أو على الأقل تجديد البيت العتيق وأثاثه المخلع، كل شيء يحمل في ثناياه مسحات وحكايات سنوات خلت ما عاد يحفل بها أحد، حتى الصور المعَلقة هنا وهناك تبدو غريبة الملامح، وكذلك قسمات الوجوه الباسمة مرة والضاحكة أخرى، بعضها بالألوان الطبيعية إلا أنها تبقى باهتة يعلوها ما يشبه الغبش، لعل أحدثها كانت صورة تجمعت فيها كل العائلة في حديقة البيت التي أعتني بها وأخلصها من الحشائش الضارة قدر الإمكان لتكون مكانًا مناسبًا لسهراتي الطويلة مع أصدقائي ما دامت والدتي ترفض خروجي معهم وتركها حتى ساعة متأخرة، محتملة صخب أصواتنا وهستيرية ضحكات مخمورة أمست تغض الطرف عنها مرغمة كي لا أتركها في وحشة الليل وحدها، دون أن تستطيع تخمين أين قد أكون وما الذي يمكن أن يحصل لي ومع من قد أتشاجر أو أتورط في مصيبة لا تعرف من تستطيع أن تنتخي لينجدني منها…
الصورة العائلية كانت في حفل زواج خالي مراد من زميلته القديمة في الكلية، المسكينة انتظرته أغلب سنوات الحرب الطويلة، وعندما أصيب ظلت تلازمه أغلب الوقت، كما لو كانت زوجته، مما جعل والدها وأخوتها يهددون ويتوعدون، إلا أن جدي كان يعرف كيف يهدئ من روعهم بأسلوبه الذي كان له تأثير غريب على كل من يتحدث معه ويحاول إقناعه بأي شيء يريد، خاصة وإن تلك الإصابة سهَلت لوالدي، العسكري المرموق، فرصة التوسط المباشر لنقله إلى عمل إداري في مكان قريب من العاصمة، قبل ذلك كان يتخوف أن يُستغَل هذا الأمر ضده من قبل زملائه أو المسؤولين الحزبيين دائمي ارتداء البزة العسكرية، والبلاد في حالة استنفار قصوى لصد العدوان، فلا مجال للوساطة من أجل أحد في مثل تلك الظروف العصيبة…
“والدك أيضًا كان يخاف أكثر من اللازم، جعله الخوف يخشى كل شيء وأقل تصرف قد يُحسب عليه، وفي النهاية رحل دون أن يستطيع تأمين حياتنا بعد موته”
ظلت والدتي تردد مثل ذلك الكلام كل حين، كلما اشتدت وطأة العيش علينا، كلما تأخرت حوالة من حوالات الخارج، وكلما استبدت بي فترة جديدة من فترات البطالة المتطاولة، إلا أنني اعتدت التوكؤ على السخرية، البلاهة كما تسميها في تذمر وغيظ، وعدم المبالاة لِما قد يتوعدنا به الغد، وفي هذا أكون شديد الشبه بوالدي الذي خذلها بوفاته وهي في الثلاثينات من عمرها، لا أدري إن كان ذلك بعض غضب الحبيبة لفراق حبيبها، أم أنه لم يكن بالنسبة لها سوى زوج عاشت في كنفه لسنوات، شأنها شأن أي امرأة وقع عليها اختيار رجل غريب عنها دون سواها من النساء؟
طبعًا لم أجرؤ على سؤالها مثل هذا السؤال أو حتى التلميح به وإلا صرت المراهق الذي لا يرضى أن يكبر والوقح الذي لا يعرف كيف يتكلم مع والدته… تصر دزمًا أن تضع نفسها خارج إطار الأنوثة، ولا أعرف إن كانت كل الأمهات هكذا أم أن أمي فقط من تحتجب وراء عصبيتها لتصد عني، وعن بالها ربما، ولو بعض صدى الشابة اليافعة التي كانت.
تسقط ظلال ملامحها الرقيقة على ريم كلما أسمعتُها كلمة حب أو تغزلتُ في جمالها المتوهج في ناظريّ ما أن يتسنى لنا لقاء، فأزداد اشتياقًا يجعلني لا أريد تركها ما أن تلامسها يدايّ، خاصة بعد أن تلفعت بالعباءة، غير مكتفية بالحجاب، إسوة ببنات أعمامها، رغم أن والدتها ذاتها لم ترتدِ الحجاب إلا بعد أن صارت جدة، كما أخبرتني من قبل، لكن تلك التعابير البريئة والمتلألئة كرقرقة شلال متدفق سرعان ما واتاها التحجر المقيت لمّا عرفتُ بخبر زواحها المباغت من مُعَمَم شاب اشتهى الزواج بثالثة، فوهبها له شقيقها الأكبر، أحد أتباع رجال الصفوة في كل عهد، وقد تيقنت إنها غير مرغمة على شيء، بل تهللت مثل طفلة تذهب إلى السيرك للمرة الأولى في حياتها، رغم هذا، ورغم كل المخاطر التي قد تترصد خطواتي المتسللة إليها، سعيت لأن أراها وأسألها وجهًا لوجه، إلا أنني في النهاية وجدت إنها لا تستحق أكثر من أن أبصق على كل لحظة أمضيتها في حبها، وكل محاولة مني لإقناع والدتي بخطبتها لي ما أن أستقر في عمل يدر موردًا جيدًا يجعلنا لا نخشى العازة أبدًا، فقد كانت ذالك الطيف الذي خالج الكثير من أحلامي منذ أن غادر جسدي عالم الطفولة وولج مرحلة المراهقة، يصب في أخيلتي ومضات صور أجمل وأشهى بكثير مما شهدته مع أجساد منهكة، رغم صغر السن، في بيوتٍ خربة ومقززة استدللت عليها وأصحابي ذات ليلة من الليال المتأهبة لحرب طاحنة شرعت أوسع الأبواب للاحتلال، كأن أمريكا بكل غطرسة شموخها المتسيِد العالم انتظرت بلوغ شهوتي نصابها كي تجتاح البلاد بعد طول انغلاق كتم الأنفاس، فإذا بمحن اختناقنا تتضاعف أعمارا، لعل مثل هذا (التمنطق السياسي) أكثر ما سيميزني بين أبناء أخوالي الذين لا يعرفون شيئًا مما جرى في بلادهم الأولى سوى ما تعرضه القنوات الإخبارية بشتى اللغات.

 

الطنين ظل يصم أذنيّ حسن حتى بعد نزوله ووالدته من الطائرة، تعبيرات وجهه تعلن إنها المرة الأولى التي يسافر فيها، كل شيء يلوح له بالغربة، والغرابة أيضًا، إلا أن أمه كانت تبدو له وكأنها معتادة السفر على مدى سنوات عمرها، وإنها جابت معظم مطارات العالم، متنقلة على الدوام بين الدول والقارات، وما أن وصلا إلى صالة الوصول حتى أسقبلهما خاله مراد بشعره الذي غالبه الشيب، فوجده شديد الشبه بالجد الراحل، أكثر مما يبدو في الصور التي اعتاد الأخوة تبادلها مع والدته.
سارعت أمه لاحتضان شقيقها، وقد عاجلتها غصة بكاء من فرط شوقها لرؤيته وأخويها وأختها الصغرى، أراد الخال التخفيف من شحنة الموقف الانفعالية فحاول تهدئتها بتقييل رأسها وخديها قبل إن يلتفت للسلام على حسن، وعندما ضمه أحس بحنوٍ صارخ نحو خاله، وكأن يتمه المبكر وعيَ فجأة في حضنه إلى شوقه لوالده، إلا أنه فطن أيضًا أن سنين غربة خاله قد ألجمت مشاعره وجعلته مثل أبناء الغرب المأخوذين بالجليد الذي يغطي مدنهم معظم أيام السنة، لكنه عاد لينتزع نفسه من الانطباع التقليدي الذي يتولد تجاه المغتربين عادةً ممن لم يتجاوزوا حدود أوطانهم يومًا، عن عجزٍ لا عن اختيار البقاء في أرض الأجداد أكثر الأحيان، وقد أخبرته والدته بعد ذلك إن طبيعة شخصية أخيها لم تتغير منذ أن كانوا صغارًا، فقد كان دومًا بارد المشاعر إلى حدٍ كبير، أو هذا ما يبدو عليه على الأقل، لكنه طيب القلب كثيرًا، دون كثرة كلام يجدها من ضمن ثرثرة لن تجدي نفعًا أو تغير شيئا.
كذلك ظل طول الطريق المؤدي إلى البيت الكبير الذي تم استئجاره في ضواحِ العاصمة ليكون مسكنًا مريحًا للعائلة الملتم شملها أخيرًا، بينما استرسلت والدته في حديث أو عدة أحاديث تكاد لا تنقطع، مكتفيًا بهز رأسه أغلب الوقت إشارة إلى إنصاته لشقيقته الكبرى التي جلست على الكنبة الخلفية للسيارة المستأجرة أيضًا، فيما كان حسن يجلس إلى جواره، يرقب ملامح وجهه لدى صمته ومراقبته الطريق، فقد وجد السياقة في بلدٍ عربي أصعب بكثير من حيث اعتاد أن يقود سيارته، لأنها تحتاج إلى تركيز دائم يحسب حساب أي سائق لا يبالي لأبسط القواعد المرورية، كما تحدث الخال المتخوف من وقوع الحوادث باستمرار فيما بعد، مع ذلك لم تسكت والدته لحظة واحدة تقريبًا، مما أشعره بشيء من الإحراج من المرأة الثرثارة التي تحولت إليها فجأة، دون أن يتبادر إلى ذهنه ما بدأت تخطط له من أجل تزويجه من بنت خاله تغريد التي راحت تسأل عنها وعن أخويها ومن قبلهم عن والدتهم التي تتهاتف وإياها كل فترة في مكالمات مقتضبة ولكنها تحمل أكبر مشاعر الحنين إلى ذكريات كثيرة جمعتهما ما أن أخبر مراد شقيقته عن لهيب المشاعر، الغريب نوعًا ما عن شخصيته، الذي ولجه تجاه من يصر أن تكون زوجته، وكم من مرة دب الخلاف بينهما، قبل وبعد الزواج أيضًا، فكانت الشقيقة المحبة تقوم بدور حمامة السلام بينهما، متخذة جانبها بعض المرات، لذا هي مطمئنة أن كَنَتها لن تمانع أبدًا زواج تغريد من حسن، بل هي التي ستقنع شقيقها إن أبدى أي اعتراض في هذا الشأن.
استرسلت نظرات حسن نحو تغريد الأجمل مما تبدو في الصور، التي تظهر فيها فاتنة الملامح والعينين، كما لو كانت من أصل سويدي أبًا عن جد، لا مكتسبة الجنسية فحسب بحكم مكان الولادة، ولم يكن والديها قد نالاها بعد، هذا غير أنها تدرس في كلية الفنون الجميلة، أو ما لا يعرف ماذا يسمونها هناك، كما وجدها مثيرة جدًا، رغم مفاجأة الحجاب والثوب الفضفاض الذي يتلفع به جسدها البض، مخالفة تمامًا الهيئة التي بدا عليها بقية أبناء أخواله، فقد كانوا كالغرباء عنه ووالدته وتلك الإجازة المفاجئة التي قرر ذووهم قضاءها في بيتٍ أشبه بمعسكر لعوائل متفرقة تنغمس كل منها في حياتها بمعزل عن البقية، فحتى المهاجرون لم يكونوا يلتقون إلا حسب ما تمليه سفرات العمل من مفارقات تقارب الأمكنة، والأبناء لم يتعارفوا سوى صدفة تكاد تكون أقرب إلى صدف المطارات المباغتة والسريعة سرعة حركة الطائرات ما بين وصولٍ وإقلاع، أو ما تتيحه وسائل التواصل الاجتماعي من فرص تعارف تبقى في أغلب الأحيان ضمن محيط عالم يُغلق بلمسة خفيفة، قد تأتي عن غير قصد، فلم يطُل المقام بأربعةٍ منهم أكثر من يومين أو ثلاثة ليقرروا السفر بحجة مواعيد فصول الدراسة أو بأي حجة أخرى، أما بنت وولدا خالته فلم يأتوا أصلًا، وكذلك زوجها دائم المشاغل والسفر، والعلاقات النسائية كما أخبرت والدته في لا مبالاة لشيء سوى ما يوفره لها من رغد العيش، أما المفاجأة الغريبة فعلًا بالنسبة لوالدته فقد كان رؤيتها ابن عمها الذي قرر أن يمضي إجازته معهم، إذ لم يستطع تفويت فرصة رؤية حبيبته القديمة بعد كل ما مر من سنوات على فراقها.
تزوج وطلق ثلاث نساء أجنبيات، لم يستقر مع أكثرهن تحملًا لحدة مزاجه وتقلب أهوائه سوى سنة وعدة أشهر، وكأنه يقول لها بإسهابه عن حياته في لندن، حيث أقام منذ أن غادر البلاد من قبل نشوب الحرب الأولى: “لم أستطع أن أعشق سواكِ، ولم أجد امرأة يمكن أن تفهمني مثلك”.
من حسن الحظ أن ولدها لم يفطن إلى النظرات المفتونة التي كان الرجل الغريب عنه يرميها نحوها فتستقبلها بحبور الفتاة المنتظرة أن يتقدم لخطبتها من منّت نفسها به قبل أن تعرف بتعدد مغامراته النسائية التي ظلت مستمرة حتى بعد أن صارحها بتوقه للزواج منها، وعندما كاشفته لم ينكر، ومن جانبها لم تتفهم غطرسة الفحولة التي تداخله رغم ما يسكنه من حب نحوها، على أمل أن تستقر حياته معها بعد الزواج، خاصة بعد أن عرفت، كما عرف الجميع، بعلاقته بتلك الفتاة الأجنبية، الموظفة في فرع إحدى الشركات العالمية، والتي كادت تورطه بتهمة الجاسوسية لِما لها من تحركات واتصالات مشبوهة كانت موضع مراقبة من قبل الأجهزة الأمنية، عند ذلك أصرت على رفض طلبه ليدها عسى أن تستطيع تأديبه، وكي تتأكد أيضًا إنه يمكن أن يغير كل حياته المنفلتة وطريقة تفكيره الطائشة لأجلها، فلا يفكر فقط في كيفية إمضاء يومه دون أن يكون مستعدًا لتحمل أية مسؤولية، إلا أنه باغتها بسفره إلى خارج البلاد، وبلا أن يعلَم أحد بقراره، فظنت تعجل هروبه نزوةً جديدة من نزواته التي لا تنتهي ولن يكل منها، ثم سرعان ما سيعود ليعيد عليها توسله بالموافقة على الزواج منه، لكنه لم يعد أبدًا، كما أنها لم تنتظر وأصرت على طرد تقافز البهلوان من حياتها بالزواج من الرجل العسكري ذي المنصب والمكانة اللذين يحققان لها العيشة الهانئة والمطمئنة، وربما المتسيدة أيضًا ما دام الطريق أمامه مفتوحًا للارتقاء نحو السلطة بحكم علاقاته الوطيدة بالمسؤولين الكبار والتي تعود إلى ما قبل تسلمهم مناصبهم المهمة في أروقة القصر الرئاسي.
رآها رياض كما لو كانت عروسه المنتظرة منذ أن تركها وفرَ إلى الغربة دون أن يترك وراءه من أثر، فلم يمسها رجل ولا أنجبت ولا عاشت حياة بأكملها بمنأى عنه، رغم وجود ابنها الشاب خشن الصوت، عريض الشارب، وبارز العضلات، بينما انجبت له إحدى زوجاته ابنة هي في عمر السادسة وربما السابعة عشر عامًا الأن، أغلب ظنه، فلم يرها ولا يعرف أين تعيش بالتحديد منذ أن رحلت بها والدتها قبل أن تتم السنة إلى حيث لا يدري، حينئذٍ لم يعبأ باختفائهما المفاجئ، بل شعر أنه يتخفف من عبء ثقيل ما كان مستعدًا لتحمل مسؤوليته، حتى أنه ظل يشتم زوجته اللعينة لأنها لم تجهض الجنين وكأنها تريد توريطه بها حتى نهاية العمر الذي يريد تمضيته كما يحلو له لا كما يُفرض عليه ولو من أجمل نساء العالم، ولمّا بدأ يؤرقه نبض الحنين لاحتضان ابنته التي لا يدري عنها شيئًا كان الأوان قد تأخر جدًا، وحتى إن استطاع العثور عليها ما ظن إنه يمكن أن يفرض عليها أبوته الهاربة من طفولتها ولا أن يستدفئ ببنوةٍ أنكرها من قبل أن تعي معنى وجوده في دنياها، فهو لم يعتد السعي ولا التوسل من أيٍ كان، وإن فعل فتصور إنه سيواجه إنكارًا شرسًا منها، بعمق سنوات غربتهما عن بعضهما، وسيكون لديها كل الحق في أي رد فعل ورفض لحضوره المفاجئ في عالم المراهقة الذي تحياه.
قال لحبيبته القديمة: قصة مكررة في الكثير من الأفلام السطحية والمملة، فلم أشأ أن أخوض لهاثها غير المجدي.
ضحكت بنت عمه ساخرة من طبيعته التي لا تتغير، وقالت: فقررت أن توفر على نفسك عناء البحث ومعرفة أي شيء عن ابنتك ولو من بعيد، لا فائدة منك، ستبقى لا تفكر إلا في رغبات ونزوات سيادتك، رياض، ولا أحد غير رياض.
كم تاق لسماع اسمه بصوتها دون سواه، بذات النبرة الدافئة التي تخترق كيانه وتلهب مشاعره وغرائزه في آنٍ واحد، وكم ندم على سفره دون أن يأخذها معه، بزواج أو من دونه، مع أنه يعلم جيدًا أنها ما كانت ستقبل بجنون المراهقين ذاك، خاصة وأنه لم يكن هناك ما يستوجب الغربة الطويلة عن الأهل في ذلك الوقت، فالبلاد لم تكن قد خاضت غمار الموت على الجبهات ولا الاستنزاف البطيء في المدن العامرة والآمنة بعد، وما كانت ستحتمل تيهه وتسكعه لسنوات حتى استقر أخيرًا في عمل يوفر له حياة لا بأس بها، لكنها ليست بالمرفهة بعد كل العمر الذي أمضاه في الهجران، خلاله صارت كل علاقته مع أهله عبارة عن مكالمات سريعة وباردة، حتى لمّا علم بوفاة والدته ثم والده لم يستطع سوى ندبهما وحيدًا في ليالٍ كاد يشهد فيها موته، وغيبوبات الخمر الذي كاد يدمنه تغيِّب عنه الزمان والمكان وكل جسد امرأة يحاول الاستئناس به في غياهب وحدته التي ظلت تلاحقه حتى استوطنته، فما وجد في العودة إلى بلاده أي جدوى، خاصة وأن أشقاءه كانوا قد لحقوا بقطار الغربة مع عوائلهم أيضًا، يلتقي أحدهم كل حين، إلا أنه ظل يشعر بغربته عنهم، أو على الأقل صاروا لديه كسواهم من المتدفقين من بلاده بغزارة، إلى درجة أنه راح يظن إنه لم يعد هناك من ظل يسكن الوطن مستلَب الأمان حربًا تلو الأخرى.
عندما عرف من شقيقها صالح بتجمعهم، وأنها بالتأكيد سوف تكون موجودة برفقة ابنها، ود أن ينفض عنه سبات الغربة الذي احتواه عمرًا ويهرع لرؤيتها مهما كان رد فعلها ومهما أسمعته من تأنيب تراكمَ مع زحف السنين حتى صار جزءًا من مشيبها الذي بان في شعر رأسه أكثر مما تصورته في أوقات كثيرة اضطربت في خاطرها التساؤلات عنه وعن حياته التي قرر إمضاءها بعيدًا عنها، كما لو كانت عشيقته التي سرعان ما ملَها ونبذها لتكون من حق رجلٍ آخر خلفها للترمل في سنٍ مبكرة مع طفلٍ بالكاد يتهجأ أحرف اسمه، لذلك لم تشأ أن تجيب على أسئلة رياض المنهمرة عليها بشأن حياة بأكملها لم يكن له أي وجود فيها، فقط كانت تريد أن تعود معه ولو لبعض الوقت المتخفي عن الأنظار والآذان إلى فيض كلامه المتغزل بجمالها وأنوثتها البكر، فقد خبرت جيدًا مدى حرفيته في صياغة أجمل العبارات التي تشعرها إنها الأنثى الوحيدة على وجه الأرض، متلاعبًا بأهوائها شأنها شأن كل من عرف وعشق وعاشر من موطن النساء المتنقل معه أينما ارتحل، وإن كان مثل ذلك الكلام قد ذهب عهده إلى غير عودة وما لها سوى أن تأمل بمستقبل أفضل لابنها يخلصه من التيه الذي يسلب أيامه ويستزف سنواته دون أن يشعر، ولذا حزمت أمرها أكثر في السعي لتزويجه بابنه خاله ليسافر معها إلى بلادٍ تحفظ له عمره من قبل أن يُهدر في سوح وطنٍ سلب منها الأمان والسعادة، والحب أيضا.
كانت تفكر في كل هذا دون أن تتنبه إلى كف رياض المحتضن يدها، وأنه صار على مقربة منها كادت تلامس جسديهما في عناقٍ ملتهب الأشواق في غفلةٍ من الجميع.

 

ظلت تغريد تتحاشى حتى النظر نحو حسن بعد أن اعتذرت عن مصافحته في أول لقاء بينهما كونه رجلًا غريبًا عنها، فلا يجوز لها ملامسة الأجانب، لتعلو ضحكات الجميع وسط دائرة عيون والديها المتذمرة، بينما استطاع كتمان ضحكة من ضحكاته العابثة والتي حذرته والدته من إطلاق مثلها أمام أحد سوى أصدقائه المماثلين له في الحماقة والفضاضة، إلا أن تحفظها غرس فيه روح التحدي للقوقعة التي تحيط بها نفسها في تمرد على كل ما يجري من حولها ولا ترتضيه أفكار صارت لديه أشبه بالأغاني في تسابقها إلى الأسماع، داخل بلده المكلوم بالثرثرة على نحوٍ خاص، فأخذ يحاول فتح أي حديث معها ليزداد استغرابًا جملة تلو أخرى، خاصةً بعد أن عرف إنها تركت دراسة فن النحت وسجلت عبر النت لدراسة الشريعة الإسلامية.
حسن: تريدين أن تكوني واعظة أو فقيهة، أم من المجاهدات في أحد تنظيمات القتل الشرعي؟
تغريد: هذه هي السطحية بعينها، شأنك شأن من صاروا يعاملونني هناك على أني أخطط لعمليات إرهابية، أو متورطة في جريمة لم تُرتكب بعد، كل هذا لأنني فقط أريد معرفة ديني على حقيقته واجتناب المحرمات.
أدهشه أن يكون مثل جمالها، بكل ما له من فتنة مغرية، مُسَخَرًا للعقلية المهيمنة على أفكار مسترسلة من حروب لا تلبث أن تنتهي حتى تبدأ من جديد في بلدهما، أو بالأحرى بلده وحده، فهي تكاد لا تعرف عنه سوى ما يصلها من أخبار، حربية في جلَّها، وما تنصت إليه مما يتفطن إليه والداها من ذكريات العمر الذي أمضياه في الوطن الموعود بالدمار كل حين، ولعلها ما اختارت هيئتها الغريبة على المجتمع الذي أمضت فيه عمرها كله إلا لسببٍ لا يعلم حقيقته سواها، ظن إنه يمكن أن يكون رد فعل إزاء سلسلة مواقف متراكمة اضطرت إلى مواجهتها منذ الصغر جعلتها تسعى إلى التميز أو إثارة الانتباه، كل شيء جائز، وما أكثر ما سمع من قصص وتحليلات تسوقها الأخيلة وتصدِقها، مبعث أغلبها ما يتوارد من أخبار عن المدن المحتلة من قبَل التنظيمات الإرهابية التي يمقتها ذات مقته للاحتلال الذي طعن بلاده ومزقها أشلاءً، وكذلك جوقة السياسيين وشيوخ آخر زمن، كما يسميهم، منهم من أشار بيده فقط فسلبه حبيبته، وهي من فرط غبائها وسطحيتها تهللت لمطلبه لتكون زوجة الشيخ، صاحبة العصمة المباركة، وها هي ابنة خاله تجسد أمامه البلاهة ذاتها تحت ذريعة الرجوع إلى حقيقة الدين واجتناب المحرمات، بلا أن تعرف شيئًا عن حقيقة ما يجري خلف هذا الستار البهيج في حدقتيها وحدقات الكثيرين من المنقطعين عن أوطانهم حتى وإن لم يغادروها قط، كاد ينعتها بالغباء والتخلف، ولعلها تعاني من الشعور بالنقص الذي تحاول مداراته من خلال دور الزاهدة الذي تتقمصه، إلا أنه لم يود أن يتسبب بأية مشاكل قد تحتِم سرعة رجوعه ووالدته إلى حيث لم يفارق عمره كله إن قررت معاقبة شراسته المحرجة لها أمام أشقائها.
لكنها لم تنفك عن مداعبة خياله، خاصة بعد أن دعاه أولاد خاليه لمشاركتهم جلسة خمر في ملحق صغير على جانبٍ من حديقة البيت الشاسعة والمنسَقة ببراعة فنان، اختاروه ليكون ملجأهم بعيدًا عن الكبار وكلامهم الذي يصيبهم بالملل سريعًا، خاصة لمّا يتحول إلى ما يشبه مناقشة سياسية حول أوضاع بلدهم (الأول) في الماضي والحاضر.
شربَ كثيرًا، مما أثار دهشتهم، فقال مزهوًا بنفسه كما لو أنه يقدم عرضًا ينال التصفيق الحار: “في بلادنا تعلَمنا أن نشرب دون أن نسكر” لكنهم سرعان ما خطفوا الأضواء منه عندما بدأ يتكلم كل منهم عن مغامراته وسفرياته ومشاريعه المستقبلية، عندئذٍ شعر إنه لا يعيش ولا حتى على هامش الحياة، فلم يجد ما يخبرهم به عن حياة ظلت سجينة الجدران المتهالكة التي هجروها ذووهم منذ سنوات سبقت أعمارهم، هو الأكبر بينهم إلا أنه يشعر إنهم يفوقونه معرفة وخبرة بالحياة بكثير، وما شهادته الجامعية التي حصل عليها بشق الأنفس، إرضاءً لوالدته قبل كل شيء، سوى نثار من ثقافة عامة بالنسبة لهم، بينما لو هُيئت له عيشة مثل عيشة أي منهم في الخارج لوجد السبل ممهدة أمامه كي يفعل ما يشاء في أي وقت، ويعَدِل من خططه وتوجهاته حيثما يريد، دون قيود، ودون تخوف مما قد يحصل بغتةً، ما بين حرب وشظف العيش وقتل على الهوية التي يود تمزيقها لو استطاع، متحررًا من كل إرث حطَ على كاهله دون اختيارٍ منه.
لو أن والده لم يستشهد في إحدى جبهات القتال المنسية في زحام أحداث البلاد المتواترة لربما استطاع أن يحيا حياة مختلفة تمامًا عما ألفه ووالدته المكلومة دومًا من مرارة الهجران، وإن اجتهدت في مواراة أشجانها عن نفسها، لا عنه فحسب، سوى في أوقاتٍ لا يدرك غيرها مدى سخطها وعبث فوضويتها الساخرة من جلَد المرأة القوية والصابرة في مواجهة قهر الأزمات، إلا أن حظه العاثر جعل والده شهيدًا في ساحات الوغى، بينما اختار أخواله سبل الهرب، قال ذلك ضاحكًا في صخب وقد بدأ هذيان السكر يسطو على نبراته ويترنح بأحرف كلماته، وقد غاب الكثير من معانيها عن مدى معرفتهم بلغتهم الأم، بينما جهل أكثر ما تضمن أحاديثهم من مفردات إنجليزية متناثرة/ رغم تأكده إنها مرت عليه من قبل، مع ذلك استأنسوا بطريقة حديثه وانفعالاته الآتية من بلادٍ كانت بلاد ذويهم فيما مضى.
يكادون لا يجدون ما يقولونه إن سألهم أصدقاؤهم عن مستودع الأخبار التي شغلت العالم لسنوات حتى أخذت بالتهاوي شيئًا فشيئا عن الأنظار والأسماع، إلا أنهم يحفظون جيدًا النكات التي تناثرت هنا وهناك نتيجة ما حصل ويحصل، من اللباس العسكري الأنيق الذي انتهى معفرًا بأتربة البسطال الأجنبي حتى العباءة والكوفية والعمامة والمحابس واللحى الطويلة…
شعر بوخزٍ في صدره، كما لو أنهم يعنون والده دون سواه، رغم أنه لم يشهد ضربات الاحتلال القاضية، ربما فقط لأن الكلام آتٍ من غرباء لم يمضوا يومًا في أرض الحرائق التي يود بدوره أن يفر منها سريعًا كي لا يبقى أسير الخيبات والنكبات حتى يشيب فلا يبقى لأيٍ من الأحلام معنى، كما حدَّث والدته متمنيًا عليها أن تفاتح أخوتها لعلهم يستطيعون أن ينقلونهما إلى دنياهم بدل الاكتفاء بما يساعدونهما به من نقود كل حين، مقسمًا لها أنه سيتغير تمامًا، سيغدو كما تريده أن يكون وأفضل، أفضل بكثير، ما دامت ستكون له حياةً أخرى، دون مفارز أمنية وأسئلة لا تبالي سوى ببيانات كانت بانتظاره من قبل أن يولد ويعرف لأيٍ من المسميات معنى.
سمعَ خالد ـ ابن خاله عادل ـ وهو يتكلم عن الدين الذي تحول لديه إلى تهمة لمّا كان في المرحلة الثانوية إثر انفجار قنبلتين وسط ستوكهولم، مما أوصله إلى النفور من كل شيء وإعلان إلحاده وتفاخره به، وقد اقتنع فعلًا أن الأديان بمجملها من سخافات عقول البشر وحماقاتهم ليجدوا ما يستحق ان تنساق الأوهام نحوه… لم يعرف حسن إن كان خالد ما يزال ملحدًا، ولم يهتم بسؤاله، فلا بد له أن يتعود على احترام أفكار الآخرين وقناعاتهم، لكنه أراد أن يسأل شقيق تغريد عنها، وإن لم يعرف كيف يصوغ السؤال، ولا كيف يمكن أن يجيئه الرد، مع أن التزامها الديني (المتشدد) يبدو بالفعل جد غريب عن الجميع، خاصة ابنة خاله الأخرى، والتي تفتقر إلى ربع جمال تغريد في نظره، رغم صبغ شعرها بالأصفر اللامع ووضعها عدستين خضراوين في عينيها وتبرجها المبالغ به لتمحق حنطية وجهها على الأقل، ورغم ارتداؤها شورت وبلوزة ذات حمالتين بفتحة صدر تكاد تكشف عن نهديها الصغيرين بالكامل، موجهة إليه نظرات لا يدري أن كانت نظرات إغواء أم دلال تحب أن تلقيه في نفوس الرجال لتخبرها أعينهم الملتاعة إنها فاتنة الجمال، أم أنها نظرات شفقة على الشاب الآت من بلاد الحكايات الدامية التي تود أن تنكر انتماء أصولها إليها لو استطاعت.
لوهلة فكر أن لقاءهما المنعزل عن العيون سيكون مثيرًا للطرفين، لعله سيغدو بالنسبة لها مغامرة من المغامرات التي تتفاخر بها أمام صديقاتها اللاتي تستثيرهنَّ السمرة الغامقة وما تنطوي عليه من صلابة الفحولة ذات الهمجية المحببة في صهر الأجساد المتمردة على المألوف، لكنه نفر سريعًا من أفكار المراهقة تلك، محذرًا نفسه ألا تكشفه وحشية تحديقه بها أمام أحد، فيسبب لوالدته بفضيحة سوء تربيته واستهتاره، ويصير فرجة للجميع ويؤكد كل ما قد يتناهى إلى أذهانهم عن تخلف وشراهة العالم المنغلق الذي أمضى فيه سنوات حياته، حتى تغريد لعلها تنظر إليه بتلك الطريقة التي ينفر منها بمجرد أن تخطر على باله، وقد تكون من محض خياله وحده ولا يجب الاستسلام لها كي لا تؤثر على سلوكه فيشيع شعوره بالنقص لدى الآخرين.
ربما ابنة خاله الجميلة لا تجده سوى شاب يتحرق شوقًا لمباهج الدنيا المحروم منها، بينما تريد أن تصد وجهها نحو دنيا تغترف منها روحها ما لم تجده ويتخلل كيانها من قبل، معلنةً حنقها على كل شيء، حتى على موهبتها التي تفجرَت لديها منذ الطفولة، فحطمت كل ما صنعته أناملها من منحوتات كانت أشبه بموسيقى تجوب رأسها ليل نهار، لا تهدأ إلا بعد انتظامها في مقطوعة يتردد عزفها كلما رأت أعمالها عين وتمعنت بها في إعجاب مشدود إلى دقة التفاصيل، تحدِق في لمسات فنان تستحق التأمل طويلًا قبل مغادرتها لتبقى في الذاكرة رغم كثرة ما تشاهد هنا وهناك.
نبذتْ عنها المبدعة المشهود لها بصدق وعمق الموهبة لمّا قررت مسح ذاكرتها تمامًا من كل ما فرحت به من قبل، وهي تقييد كل أحلامها لتهوي بها إلى الجحيم مرةً واحدة، متبرئة من كل ما كان يشغل تفكيرها بلا كلل ولا وهن، حتى عندما عشقت كان الحب بالنسبة لها أشبه بكتلة طينية رقيقة ترغب أن تتشكل في حنايا قلبها برفق شديد وتوئدة كي تصير النحت الذي تشاء دون سواه، نحت اليوم والغد، لتظل كل فكرة إبداعٍ جديدة تستلهم جماليتها من ألق توهجه.

 

كانت في التاسعة عشرة من عمرها عندما عرفت الحب، لا الانجذاب نحو أول شاب يتقرب منها ويريدها أن تكون له ليقضي معها مغامرة لا تنفك أن تنتهي ما أن يمضيان بعض الوقت معًا، أو هذا ما تراءى لها أمام وهج عينيّ زميلها في قسم النحت، دون دراية منه عرف كيف يطوٍع قلبها وعقلها مثلما يفعل مع قطعة الصلصال، بانسيابية رقراقة كما لو أنها وُجدت لتكون له، حسب ما يرغب وما تصبو إليه ذائقة الفنان المثقف ثقافة عالية جدًا، دنياه عبارة عن متحف كبير أرادت مشاركته كل تصميماته.
تفاجأت بسعة اطلاعه على تفاصيل تخص بلادها الأصلية ودينها، معلومات أكثر مما تعرفها بكثير، لم تشغل بالها يومًا لتقتفي أثرها في حياة لم تشهدها، فما عاد من أمرٍ يخصها فيها، بل عملت على أن تكون معلوماتها عنها محدودة كي تبقى بعيدة عن أخبار الموت العشوائي الذي تذيعه قنوات الأخبار وتجعلها أسيرة دهشة عيون أصدقائها وتساؤلاتهم الحيرى حينًا والساخرة أحيانًا آخر من بلاد الخمر والعهر والقتل، كما وصلتهم حكايات ألف ليلة وليلة، دون أن يولوا أدنى اهتمام لقراءة شيء من ترجمتها، أخبرها حبيبها إنها شهرزاد، بأقصى ما تمكنَ من نطقٍ صحيح للأحرف، كما لو أته يتقن لغتها التي حرص والداها على أن تتكلم وأخواها بها داخل البيت على الأقل.
لم تمانع أن تقف أمامه عارية، إلا من لباسها الداخلي، يلف جسدها وشاح أسود، عريض وطويل، يشف عن ثنايا جسد (شهرزاد)، يُبرز جمالها المستتر في مخادع ملوك وسلاطين وأمراء حروب الشرق المنيعة أمام أعين لا تدري شيئًا عن الموت الزاحف نحوها من كل الجهات، تخدر عقلها بوصفه للتحفة الفنية من قبل أن يبدأ بنحتها، كما خدرَ جسدها الجامد أمامه دون أن تلمسه يداه، وكم غارت من الطين المنساب بين أصابعه وتاقت أن توليها ذات الاهتمام، هي لا شهرزاد التي كثرت حكاياتها وجالت أنحاء الدنيا، بمختلف اللغات، لكن بذات التعابير المتكتمة على الحزن والقهر والخوف في وجوه أبناء مدينتها المنهارة إثر انفجار يعقبه آخر أشد سطوة وجبروتا…
كان الكسندر يتكلم بسرعة حركة يديه، دون أن يلتفت نحوها سوى بنظرات خاطفة ترشده إلى دقة الحنايا أكثر، فكبتت حسرات بعده عنها، دون أن تلمح ولو بعض بريق الرغبة في عينيه، كما لو كانت هي التمثال الذي لا يستحق منه سوى التحديق على مسافة لا يريد تجاوزها لئلا يذوي شيء من سحر الجمال الماثل أمامه، فيما أخذ جسدها يتحرق لهفة أكثر فأكثر، لا للمسة منه، بل أن يحتويها بالكامل متجردًا من رقيَ الفنان وتغافله عن شهواته في سبيل فنه، أن يصهرها لتسكن روحه وحواسه، أن يتوحد نبضه مع نبضات قلبها، فتفتح أمامه مصاريع عذريتها التي ظلت حريصة عليها رغم كل المغريات وتحديات صديقاتها لخجلها الشرقي الذي خلفته فيها تربيتها المحافظة، بالنسبة إليهنَّ، فوالدتها كانت تشدد على ضرورة تمسك الفتاة ببكارتها حتى تتزوج، وهي أيضًا، وبعيدًا عن وصايا والدتها التي كان يمكن تخطيها دون مشقة، كانت في داخلها تحتقر أن تسَلِم الفتاة جسدها لأول شاب يشتهيها فلا تلبث أن تكون محطة منسية في دروب فحولته غير المنتهية كنوع من إثبات الوجود الذكوري في مجتمعات تتباهى دومًا بتحضرها وأنها قد غارت صوامع الحريم منذ زمن.
لكنه ليس كأيٍ ممن عرفت، فقد أيقنت إنها تعشقه، تعشق الفنان الذي يسكنه قبل عشقها للشاب الوسيم الذي يمكن أن يخاتل خيال أي فتاة، تعشق قدرته على تفهم الآخر البعيد، الذي احتارت هي ذاتها في شأنه منذ الصغر، وهي تسمع من والديها نثار الأحداث التي عاشاها في بلدهما الذي تتناقل اسمه الأخبار دومًا لتنقل لها صورًا صعبة التصديق لمن لم يخبر الحياة هناك ولا يعرف كيف يمضي الناس أعمارهم المرهونة بقرار اندحار جديد، من الداخل أو الخارج، يصعق ما تبقى من آمالهم، فيتركهم على شاكلة عمتها وولدها الذي تجد في نظراته شدوه متوجس من أقاربه المستقرين في دنيا لا يعبرها خياله إلا من خلال ما يتناقل إلى مسامعه عن البلاد المتحررة من جبروت الحروب والزعامات والرايات الخفاقة، إلا أن نظراته لها كانت أكثر اندهاشًا، وربما تكمن على شيء من السخرية والاستخفاف، إذ لم يكن يخطر في باله أن يجد ابنة خاله (السويدية) مرتدية الحجاب ولا تقبل أن تلمس يد رجل عند المصافحة!
هجستْ بما قد يدور في ذهنه من أفكار وظنون بشأنها، محاولًا تحليل شخصيتها المنغلقة، منساقة وراء أفكارٍ تروج للمزيد من الموت والدمار، دون أن يخطر في باله أن الملاك المرفرف أمامه في الثوب الفضفاض كان ذات الفتاة المغالبة شهوتها أمام حبيبها الوسيم ذي الشعر البني والعينين الخضراوين والعضلات المفتولة.
انفلتت أخيرًا من وقفة الجمود التي اختارها لها منذ أول موعد اتفقا عليه في مشغله الخاص، بعد أن كلمها كثيرًا وبحماس جعلها تشعر أنها كانت تشاركه الفكرة منذ أن بدأ مخططها يشغل ذهنه، في كل مرة تلت تعريها لأول مرة أمامه منَّت نفسها أن يلفها بجسده بدل الوشاح، لكنه كان يخيِب أملها حينًا بعد آخر حتى انتبه لاقترابها ومن ثم ملامستها له من الخلف، فانهمرت قبلاتها على كتفيه وخلف عنقه، متوقعةً أن يلتفت نحوها ليبادل شفتيها المرتجفتين عناقًا يزفر كل حسرات الحرمان… إلا أنه حاول إبعادها عنه، ولمّا تجاسرت على المحاولة ثانية، موهمةً نفسها إنه لم يشأ أن يتلكأ العمل الذي بدأه بجد ومثابرة لأي سببٍ كان، عاود دفعها عنه، لكن هذه المرة في نفور، كما لو أنها فتاة من الشارع تفاجأ بها وهي تلقي بجسدها المستثار فجأة في أحضانه، ثم أخذ ينهرها ويعنفها لعدم قدرتها على التفرقة بين الفن الحقيقي وبين الشهوة المكبوتة داخلها بفعل التربية المتخلفة، من وجهة نظره، التي حدثته عنها كثيرًا، ما أن طلب منها أن تكون (شهرزاده)، أن تهبها من روحها قبل جسدها حياةً تجعلها تبدو كما لو كانت من لحمٍ ودم، وأنه حتى لو أحب أن يقيم علاقة فراش لا أكثر لن تكون هي شريكته المناسبة بالتأكيد، فتاة إزدواجية في شخصيتها وسلوكها وأفكارها، مثلها مثل بني قومها الذين يتشدوقون بتسامِ روحانياتهم المرفرفة نحو عنو السماوات وهم يتوقون في حقيقتهم إلى سكرات الجنس الهاذية كأي مريض نفسي أو مدمن يشل جنون رغباته كل حواسه…
صفعتها كلماته أكثر مما فعل رفضه لها، وكأنه كان ينتظرها أن تقترب منه وتعلن له عن هيامها ليعلو صوته بكل ذلك اللغو الغريب، فيكشف عن مقته لكل الوافدين إلى بلاده من صحارى الشرق الذي كان يتغزل به مع كل لمسة تزيد تمثاله تميزًا.
لم تشعر بعد ارتدائها ثيابها إلا وهي تهوي بعصا حديدية فوق رأس شهرزاد وتحيلها إلى كومة طين على الأرض في غفلةٍ منه، فقد أدار ظهره لها مجددًا ودخل الحمام ليغتسل، غادرت مسرعة، وجابت العديد من الشوارع والأفرع بلا هدى، لا تدري أتلعنه أم تلعن نفسها أكثر، وهذره يوالي طنينه في أذنيها، يكاد يوصلها إلى قرار إنهاء حياتها، فلم تشعر بالامتهان والإذلال كما شعرت وهي تقف شبه عارية في ذهولٍ الانكسار أمامه، لا تعرف أي رجل سكنه على حين غرة ليصارحها بمدى احتقاره لها ولكل ما يسكن خلدها من خصوصية أبقتها منعزلة بعض الشيء عن أقرانها، كأنه صار في لحظة، وعي أم غيبوبة لا تدري، واعظًا أو ناسكًا زاهدًا، أو ربما مؤمنًا شديد اليقين المتجاوز حدود الأديان، وفي ذات الوقت شديد التعصب، وقد يكون من (النازيين الجدد) أو منتميًا لإحدى التنظيمات العنصرية التي تسمع عنها وعن تطرف أفكارها من هنا وهناك.
وهي من تكون؟ ذلك السؤال الذي يجب أن تعثر على إجابته وبسرعة وإلا لتهاوت تحت وقع أقدام المارة مختلفي الأجناس والثقافات والمعتقدات، لا بد أن تتمسك جيدًا بما يعصمها من أن تكون فتاة فراش، كادت تجنح إلى وضاعتها بالفعل عندما أغراها الظرف أن تتعرى من كل ما أقنعت نفسها بوجوب التمسك به التزامًا ببقايا انتماء لأرضٍ لم ترَها ولا تظن إنها ستسافر إليها يومًا، إلا كرحلةٍ أشبه بسفرات السياح لفترة مهما تمادت أيامها تبقى محدودة بالنسبة للحياة التي اعتادت في بلادٍ استقبلت شموسها، الباهتة في الغالب، سنا طفولتها وأشرقت في سمائها جذوات الصبا وأينع بين جنباتها زهر الشباب.
أشعة الشمس الساطعة تمتد في طريق خطاها الأشبه بتطوح السكارى، مثقلةً بهواجسها المنتفضة مع نبضاب قلبها المتسارعة، بما حدث وما لم يحدث، بعذريتها التي لم تفقدها رغم شدة توقها لأن يستبيحها كما يشاء، بفجاجته معها، تلك التي امتنت لها بعد ذلك بحينٍ هجسته جد طويل، غابت خلاله عن دنيا اعتادت تفاصيلها بدقة عقارب الساعة، وغاب عنها كل ما كانت تصبو إليه وتتمناه، السفر، المشاركة في كل المعارض، نيل أرقى الجوائز على مستوى العالم… فقد اُستبدِلت شخصيتها بأخرى تكاد لا تعرفها، كما لو كانت منحوتة داخلها منذ البداية لكنها لم تفطن إليها إلا من خلال الصومعة التي فرضتها على نفسها بعد عصف كلمات الكسندر برغبتها المهووسة به، شهوة كانت غريبة عليها هي الأخرى، لا تدري كيف راودتها بهذا الجنون، لمَ خالجتها أصلًا، وكأنها تعرت مما كانت تتلفع به من قناعات مع خلعها ثيابها ووقوفها أمامه بوشاحٍ يشف عن ثنايا جسدها الذي لم تسمح أن يمسسه رجل من قبل، وكيف واتتها الجرأة لفعل ذلك أصلًا، باسم الفن ومصداقية الإبداع أو بأي حجةٍ كانت؟ أم أنها كانت ترغب به من قبل، وبضراوة مراهقة تفجرَت نيرانها فجأة ولا قدرة لها على إخماد حرائقها، دون أن تتمكن من مصارحة ذاتها بذلك الهاجس المعاند إصرارها على التميز عن قريناتها.
في النهاية تيقنت أن كل ما حدث كان لحكمة إلهية كي تواجه ما حاولت التواري عنه طويلًا، وتجد الدافع والهمة لتغيير حياتها رغم كل اعتراض وانتقاد وتخوف واجهته من الأهل والأصحاب والزملاء، منتهيةً إلى عزم قرار ترك الدراسة التي بدأت بمهامسة أحلامها منذ أن أثارت انتباه الجميع بتصاميم من الطين الاصطناعي كانت تشكلها يداها الصغيرتان وهي في المرحلة الإبتدائية، أما الكسندر بالذات فقد ظلت تتهيب رؤيته ولو من بعيد، وكأنها ستتعرى أمامه من جديد، لكن دون وشاح يبرز مفاتنها أمامه أكثر.
كان يفعل ذات الأمر دون أن تدري هي بذلك، ما أن يراها مقبلة على مكانٍ هو فيه حتى يسارع بالمضي نحو الجهة الأخرى، متجنبًا المزيد من الصدام معها والعراك الحاد بسبب تحطيمها جهده وحلمه بنحت تمثال بالحجم الطبيعي يؤكد من خلاله موهبته للعالم كله، العالم الذي سيحتضن مولد الفنان التشكيلي الشاب والمتفرد بأفكاره وعمق رؤاه…
لكن التمثال فجأة انهار أمامه، ومن قبل أن يحيله حنقها حطامًا، ما أن خرجت من إطار شهرزاد الذي رآها فيه منذ أن تعرف عليها، شهرزاد السويدية أو شهرزاد الاسكندنافية، ممازجة بين صقيع القطب الشمالي ونفحاتٍ من صهد شمس تسللت مع لهاث الهاربين من ويلات الحروب، لتتحول في لحظة إلى فتاة شهوة لعوب تريد أن يستنزف فتنة رحيقها حتى النهاية بكل ما يمتلك جسده من صلابة وعنفوان، فتنتهي بين يديه إلى جسدٍ خامل وضعيف، لا حياة فيه ولا يمتلك أية قدرة لنسج خيوط الحكايات.
لعله مجنون بالفعل، كما يصفه الكثيرون، عن تذمر وخوف أو حتى عن سخرية تستغرب عزلته ما أن تسيطر عليه فكرة تحتويه بالكامل، فلم يقوَ أمام استفزازها (الأنثوي) الرخيص سوى أن يهينها قدر إهانتها للجمال الهائم داخله ليهبه المخلوق الهش الذي أخذ يتشكل أمامها، مستخفًا بكل غريزة يمكن أن تتحكم بالجسد وتملي عليه سلطانها كما ترتضي نزواتها المتسارعة نحو الخبو ومن ثم التلاشي.
لعلّ الندم تسلل إليه بعد ذلك، فلو استجاب لرغبتها، الغريبة عنها، لَما خسر جهدًا مضنيًا أشقاه في تحدِ أكون أو لا أكون، ومن قبل أن يبدأ بتكوير رأس شهرزاد بين كفيه، إلا أنه حتى دون هذه الغصة ما كان سيجد ذات الهمة لاستكمال تمثاله، مستعينًا بموديل آخر، فالإبداع ومضة لا يمكن تكرارها في رأيه، إلا بعد حينٍ ربما، حين طويل، يمَكِنه البدء من جديد.
ما أن تفاجأ باختفائها من حياته تمامًا إثر انقطاعها عن الدراسة، وقد اعتاد أن يلتقيها بشكلٍ يومي، أكثر من أية فتاة عرفها أو أحبها، حتى صار طيفها يتحكم بخياله على نحو غير متوقع، رغبة أم حب حقيقي؟ لا يدري بالتحديد، وليس له أن يعرف أو يتأكد من مشاعره نحوها، فإذا بها تباغته بدورها بعد فترة من القلق وشتى الهواجس المضطربة بهيئتها الجديدة، مرتدية الحجاب، عندئذٍ كاد يطلق ضحكة صاخبة من مفارقات الحياة، ومن خبلهما معًا، رغم ما يبدو على هيئتها من وقارٍ يحاول نفي عريَها عن خاطره.
أخذ يرقبها من بعيد دون انتباه منها، وكم تاق في تلك اللحظات النارية أن يعاجلها باحتضانٍ لا يفلتها مهما حاولت الفكاك منه، يعانقها بقوة كما تمنت أن يفعل وهما وحدهما في مشغله، يرفع عن رأسها حجابه، ثم تتناوش يداه جسدها كما لو أنه لم يلمس أنثى من قبل، يعتذر بقبلاته المتناثرة في كل جزءٍ من جسدها الساحر عن كل كلمةٍ حمقاء هذر بها لسانه كالمخمور غير الواعي لِما يقول من سخافات، بل ظن إنه ما رماها بكل تلك الإهانات إلا ليخبرها إنها لديه أرقى من أن تكون مجرد فتاة تغالبه الشهوة نحوها لحين، ثم تغدو لديه كأي واحدة لا بد أن يزهدها في النهاية، وإن قررا العيش معًا في شقة واحدة، كما حدث له من قبل ولأكثر من مرة، فيما كانت عذريتها التي حدثته عن حرصها على عدم المساس بها ما يميِزها لديه عن الأخريات.
عذرية مع عريَها أمامه، متلفعةً بالوشاح، وضعاها ضمن هالة ملائكية مشعة احتوته بالكامل، لمَ لم تستطع أنوثتها اليانعة فهم ذلك ولو من خلال حيادية نظراته إليها؟ ولمَ لم يستطع أن يوصل إليها كل ما خالجه من اضطراب وتشتت دون أن يثور جنون سخطه على ضعفها المستفِز على بعد أقل من خطوة واحدة كادت تتلاشى بين صدريهما لو أنه مد ذراعيه لاحتواء أنوثتها الشهية التي تصومعت خلف الحجاب والثوب الفضفاض، مثيرًا سخرية وهمز ولمز الكثيرين ممن مرّت أمامهم في آخر أيام دراستها للفن الذي ودت أن تمضي عقودًا في ممارسته حتى يدرك يديها ارتجاف الشيخوخة، حسمت بعدها قرارها بالانسحاب من عالمٍ لم يعد عالمها مهما حاولت إقناع نفسها بجواز شرعيته.

 

زمتْ والدة حسن شفتيها ثم أخذت تلطم خديها لمّا وجدته يعود مترنحًا نحو غرفة نومه الملاصقة لغرفتها، والتي تبعد عدة خطوات عن غرفة تغريد، دفعته نحو الفراش فارتمى عليه، ثم أوصدت الباب عليهما، وبدأت عواصفها الرعدية تنهال على مسامعه فلم يقاطعها بكلمة لئلا تزداد حدتها علوًا، إنما تركها تنهي المعزوفة المكررة حتى آخر كلمة كان قد حفظها عن ظهر قلب، وإن أنساها غضب الانفعال شيئًا ذكَّرها به فلا تعاود تكراره بعد قليل، حتى لو تركته وصفعت الباب وراءها، كما كانت تفعل بأبواب بيت جده المخَلَعة.
خرجتْ وغلواء الانفعال يعتصرها من ولدها العابث في سنوات عمره التي قد تتهاوى منه سريعًا دون أن يفطن إلى ذلك إلا بعد فوات الأوان، فيتفاجأ بنفسه وحيدًا من دونها ومن دون زوجة وأولاد وحياة حقيقية يعيشها ولا يظل يتحسر عليها من بعيد حتى ينهِك أضلع صدره أسفًا على ضياع فرصه فرصةً تلو الأخرى، كما أنها لا تريده أن يكون مثل رياض الذي هجرها وهجر دنياه معها من أجل لا شيء، وها هو يعود إليها بعد عمر ليخادع نفسه بمراهقةٍ متأخرة يترجاها أن تجاري نزقها المستهتر بكل شيء، لا بأعين أبنها وكل الموجودين فحسب، بل بسنوات وخطت الشيب في رأسيهما عبر سنين لم يعرف أحدهما خبرًا عن الآخر ولا يمكن اختصارها بجلسة تختزل حياة بأكملها بكل انكساراتها وإحباط أيام وليالٍ يظن المرء إن ساعاتها لن تنتهي أبدًا، خاصةً مع توالِ الخيبات وتجدد الفقدان للحب والأهل، وشرود الأحلام، حلم إثر آخر، دون أمل بتعويض ولو بعض ما ضاع من كلٍ منهما على حدة، فما كان منها إلا أن تعنفه كما تعنف ابنها كلما يأتي بحماقة، ابتعدت عنه خطوة، دفعته خطوات بعد أن كادت شفتاه تلامسان خدها، أبعدت ذراعيه من قبل أن تلتفا حول خصرها، كما لو كان يريد مراقصتها، ثم تركته وسارعت بالدخول إلى غرفتها، وشيء من ظنها يخبرها إنه سيلحقها بخفة لا تثير انتباه أحد، فيوصد الباب وراءه كي لا تفلت منه مجددًا، لتضطرها خلوتهما العاشقة إلى سماع أشواقه المتغزلة بها، حتى اليوم التالي ربما، لكنه لم يفعل، وكم حمدت الله على ذلك، وكم سخطت عليه وعلى مجيئه من منفاه كي يراها، كأنه يود مشاهدة شيء مما خلَف وراءه في نوبة حنين لا تنفك أن تزايله بعد حين، طال أم قصر، وقد يواتيه الحماس لوهلة كي يعرض عليها الزواج فالسفر معه إلى حيث استقر منذ سنوات، لتكون الزوجة الأثيرة التي يريد أن يمضي معها ما تبقى له من عمر يعده بإقبال سنوات شيخوخة جد قاسية سيمضيها وحيدًا في بلاد علقت فيها أكثر ذكرياته، بعد أن أخذت الذكريات القديمة تخبو من ذهنه شيئًا فشيئا، إلا هي وما ربط بينهما قبل زواجها من شخصٍ آخر، فقد ظلت متوهجة في رأسه أكثر ممن تزوج وعاشر من نساء، وكأنه يطلب منها أن تتحمل مسؤوليته هو الآخر، وشقاؤها لم ينتهِ بعد جراء تحملها مسؤولية ابنها الذي لم يدرك أن فرصته الوحيدة تقبع بين جنبات البيت المستأجر بالتحديد، مع تغريد أو حتى مع ابنة خاله الأخرى، رغم أنها لا تمانع أن تمشي عارية تمامًا على مرأى من الجميع كنوع من التمرد على صرامة التوجيهات التي يتباهى بها والداها أمام الآخرين كي لا يسمعا كلمة انتقاد من أحد، خاصة من الأخت الكبرى التي لم تفارق البلاد كما حدث مع البقية، رغم ما تحاول أن تستعرض به من معلومات نهلتها من هنا وهناك.
لم تواتِها الجرأة على مفاتحة والدة تغريد بشأن اقتران ابنيهما، وهي ترى ولدها لا يعرف كيف يفرض وجوده على ابنة خاله التي تبدو غافلة عمن حولها، رغم ما تبدو عليه من طيبة ورقة إزاء عمتها التي لم ترها من قبل إلا عبر (السكايب) أو كاميرا فيديو موبايل والدتها لعدة دقائق لا أكثر، مدة تبادل التحايا والأشواق ورجاء لقاء الجميع على خير…
وما كانت تعلم أن فكرة لمِ الشمل ستتحقق بعد طول تأجيل فقط كي يتم طرح قرار بيع البيت شاسع المساحة الذي تسكنه وابنها بمفردهما، فقد تناهى إلى أسماع أخوتها ما وصل إليه سعر المتر في المنطقة، كما أنه مطل على شاع عام صار من أهم الشوارع التجارية في العاصمة، أي أنه يُعد الآن ثروة يحتاجها الجميع، لا هي وابنها فحسب، شعرت بغصة غريبة في صدرها لدى سماعها ما يخططون له، فهم يقررون بالنيابة عنها كل شيء وليس لها سوى الإذعان لرغبتهم السريعة بالبيع وتحضير نفسها للانتقال إلى بيت آخر، دون أن يفكر أحد في عرض إنقاذها وابنها من مهالك حياتهما المتواصلة، معلنين في الوقت نفسه، ولو دون أن يقولوا ذلك صراحةً، عن عبء الحوالات المرسلة إليها كل حين على كواهلهم، رغم أن المبالغ حين يتم تقسيمها على المرسِلين تكون ضئيلة جدًا نسبةً إلى غلاء الحيوات التي يعيشون برفقة عوائلهم، خاصةً وأنها تعرف أن ابن شقيقها صالح يدرس في إحدى أالجامعات المعروفة على نفقته الخاصة، وأن مصاريف الدراسة هناك غالية جدًا، وأن ابنة عادل الكبرى، والتي لم تأتِ برفقة أهلها، أسست شركة استثمارية مع ابن ملياردير كان قد غادر البلاد منذ سنوات، ترافقه إشاعة أنه وعدد من ذوي المناصب المرموقة استحوذوا على مبالغ طائلة من ميزانية الدولة، وإنهما يخططان للزواج في حفل أشبه بحفلات الزفاف التي يتم نشر صورها في المجلات وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، وشقيقها عادل نفسه عمل في صفقات كبيرة مع أحزاب متنفذة في النظام الحالي للبلاد، ساعده في ذلك صداقة قديمة ربطته بابن أحد أعضائه، قبل أن يغادر البلاد برفقة عائلته المضطهدة خفيةً عن الأعين الأمنية، هو ذاته من عرض شراء الدار لإقامة واحد من أكبر المشاريع التجارية في البلاد، وسيكون لشقيقها حصة فيه دون علم أشقائه، ولمّا عرضت في انكسار أن تخصم من حصتها كل المبالغ المرسلة إليها عبر سنوات مضت تفاجأت بعدم اعتراض وسخط أي أحد على كلامها، وكأنهم كانوا قد سبقوها إلى ذلك التفكير كحقٍ لا مراوغة فيه ولا يستوجب أي تحرج.
طفرتْ من إحدى عينيها دمعة قوية لم يلحظها أحد وهي تتطلع إلى وجوههم، فتراهم مثل شركاء في أي صفقة تجارية لا يلبثون أن يتفرقوا ما أن يتم عقدها ومن ثم الاتفاق على توزيع حصص الأرباح فيما بينهم، ولم تستبعد أن يطالبوها بسداد حصتها من إيجار البيت الذي يقيمون فيه قبل أن يغادره كل منهم إلى وجهته.
انتبهت إلى نظرات رياض نحوها دون أن يأتي بكلمة، وتأمله تغير تعبيرات وجهها وشرودها بين الحين والآخر، يتحفز لملامسة خديها والتربيت على كتفيها، ضمها إلى صدره ليهدهد أناتها، ومن ثم تركها تنفجر بأدمعها المكتومة كما شاءت، لكنه في النهاية لم يستطع إلا أن يغادر المكان في صمت يعلن عن عجزه عن فعل شيء لأجل حبيبته التي سبق الآخرين في التخلي عنها، من قبل أن يكون هناك سفر وغربة ومواجع الرحيل بلا أمل في العودة، ومشاريع تقسيم الحصص وتصفية حسابات عبثت بخططها من أجل ابنها كي لا تتكرر معه ذات خيبات عمرها داخل بلدٍ عليه أن يثبت وجوده فيه مع كل تغيير جديد وإلا ظل متهاويًا مع عصف كل ريحٍ عاتية.
بعد نوبة بكاءٍ غاضبة في غرفتها، اجتهدت ألا يسمعها أحد، ما لبثت أن استعادت عزمها على مفاتحة والدة تغريد بشأن ابنيهما، دون أن تولي اهتمامًا لوقفة رياض وحيدًا في الشرفة، وهو ينفث أدخنة سيجارته بقوة مع حسراته من بُعده عنها أكثر مما كان كلٌ منهما في قارة، لا يجد سبيلًا لمعاودة التقرب منها، خاصة بعد أن وعت إلى وحشة غربتها بين أخوتها غير المبالين لها ولولدها الذي صار لا يتخوف أن يفطن لنظراته نحوها فحسب، بل لتوقٍ لجوج يدفعه إلى احتضانها كلما رأها مقبلة أو حتى مبتعدة عنه، رغبة مجنونة لم تغامره مثلها منذ أن كان يذهب لرؤيتها في بيت عمه أو على مقربة من مدرستها الثانوية، حيث كان ينتظر خروجها ليدعوها كي تركب إلى جانبه في سيارته التي كان يحب أن يقودها بسرعةٍ جنونية صار يتخوف منها مع تقدم العمر وعلمه أن ليس هناك من سيهتم لأمره فيظل يجالسه طول الوقت في حالة وقوع حادث قد يهشم عظام جسده التي يشعر إنها تغدو أكثر هشاشة حينًا تلو الأخر.
كومة مشاعر مقيتة تدنيه من الاستسلام لحالات اليأس ونوبات الاكتئاب على نحوٍ متزايد يخشى أن تقضي عليه سريعًا ولا يصلها الخبر إلا صدفة في سياق أي حديث عابر، دون أن تعرف مدى احتياجه إليها، أكثر من كل مراحل حياته الماضية، في حين أنها تصر، عن عمدٍ أو دون عمد، أن تبين له ألا مكان له في حياتها المختزلة في ابنها ومستقبله، فلا تستطيع تصور نفسها بمعزلٍ عنه ولو بتفكيرها، رغم أن رؤيتها لرياض أعادت إليها روح الأنثى المطمورة داخلها، إلا أنها لم تقدر أن تتمادى في رسم أطياف استحضرها الماضي فجأة في فرصةٍ مخاتلة لم تكن في الحسبان، صورة مضافة إلى مجموعة صور باهتة، لا يمكن لها إرجاع شيء من ألق دنيا غابت شموسها وما لها من عودة إشراق، وما جاء قرار بيع بيت أهلها إلا توكيد لأفول زمانهما كي يفسح المجال أمام خطى حسن التي تريدها أن تكون ثابتة وقوية فوق أي أرضٍ تتخيَّرها الأقدار لمقبلات سنواته، يمضي فيها دون المزيد من التلكؤ والتعثر والدوران في حلقات مفرغة تجتر أيامه وأحلامه تباعًا.

 

استيقظت تغريد فزعة من نومها، وكأنها تستنجد بالصحو للهرب من أحضان الكسندر، تتلمس رداء النوم الذي تلبسه لتتأكد إنها ليست عارية تمامًا كما كانت في حلمها معه، تتركه يقتحم جسدها بشغفٍ وضراوة، بينما تتشبث بجسده ما أمكنها لتلتصق به أكثر وأكثر وصوته الهامس يغمغم في أذنيها بكلمات عشقٍ واشتياق، تجيبها بقبلٍ تترجاه ألا يتركها أبدًا، ينتصب خلفهما تمثال شهرزاد المكتمل كحارس حب وغرام يتكفل بصد العيون عنهما، فلا يأبهان لشيء، ولا لكل الأصوات المترامية نحوهما بأكثر من لغة في لغط لا تفهم منه كلمة، بعد حين من الولع تبدأ مفرداته المتنافرة تنتظم من حولهما، ومن ثم تأخذ جملها فوقهما بالتشابك، تغدو كغلالةٍ تغطيهما، تحكي عن شغف جمع بين سويدي لا يُعرف له دين يتبعه وعربية مسلمة تتستر خلف حجاب، أنه اختطفها، أنه اغتصبها، أنها هربت معه بملء إرادتها، وأنها هي التي عرضت نفسها عليه ومن أجله كانت مستعدة لفعل أي شيء، حتى لو اضطرت إلى التبرؤ من جذور أهلها التي تكاد لا تعرف عنها شيئًا…
تلفعتْ بالغطاء، كما لو كانت عارية فعلًا وتريد حجب عريَها عن الأعين، رغم أنه لا يوجد في الغرفة سواها، نقَلت عينيها ما بين السقف والجدران لتتأكد من ذلك بعد أن أنارت ضوء (التيبل ـ لامب) القريب منها، ودت الصراخ قرفًا من رغبات نفسها الشهوانية، من أحلامٍ سخيفة صبيانية لا تنفك عن مطارتها بعهرها وعربدتها الجنونية من حينٍ لآخر، رغم أنها لم تره منذ أكثر من عام، ولا تعرف عنه شيئًا، ولم تسعَ لمعرفة أيٍ من أخباره، ولو من خلال صفحته على الفيسبوك أو الانستغرام، كأنها تخشى الاقتراب من لسعات نار جهنم التي تتعوذ منها على الدوام، في كل صلاة تطيل ركعاتها، وعند تلاوتها القرآن بصوتٍ متهدج يتوَسل الانعتاق من شرور نفسها ونزواتها، بعد أن ولّت ظهرها للطريق الذي سبق واختطته لمستقبلها، متخذةً مسار مختلف تمامًا، رغم كل ما تواجه من اعتراض ومخاوف من التطرف الذي قد تنقاد إليه شيئًا فشيئا، ولو دون أن تتعمد ذلك.
احتدم الكثير من العراك بينها وبين أهلها بسبب ما قد تأتيه عليهم من ويلات يمكن أن تهدد بقائهم في كل دول أوروبا، لا السويد فحسب، رغم حصولهم على الجنسية، حتى أنها فكرت أن تستقل بحياتها عنهم، شأن أي فتاة في مثل عمرها هناك، تستأجر شقة صغيرة جدًا وتقيم فيها بمفردها، ويمكن لها العمل في وظائف عدة، فلا تضطر إلى طلب أي مبلغ من والدها، ولو كدين ترده له ما أن تستطيع ذلك، كي لا تعطي فرصة لأيٍ كان أن يفرض عليها إرادته وأوامره المسخِفة ما اهتدت إليه أخيرًا.
ظل ذلك الموقف المخجل أمام الكسندر يتمثل لها حتى وهي عند وضعية السجود، فإذا بها تجهش بالبكاء دون أن تتمالك السيطرة على نفسها، مما جعل والديها يحثانها على مراجعة دكتور نفسي لعله يعرف منها ما لا ترضى الإفصاح عنه، فتركن إلى الاعتكاف بعيدًا عن كل من تعرف أكثر وأكثر، لكنها وافقت على المجيء معهما لرؤية أقاربها، لعلها تجد في لمة العائلة الكبيرة الطمأنينة المنداحة مع ذكريات لم تشهدها، تعبر من خلالها نحو حدود بلادها التي لم تفكر في الرجوع إليها ولو ضمن زيارة سريعة، معتادة أن تبصرها من بعيد وتتتبع أخبارها بعينين مرتابتين لا تستطيعان أن تحددا زاوية رؤيتهما بالضبط، إن كانتا تحدقان من الداخل أم من الخارج عبر نظرة حيادية شبه خالية من العاطفة لتؤكد لنفسها أنها لا تنتمي إلا للبلاد التي تربت وكبرت فيها، ولو بصورة مغايرة لأقرانها الذين قد يحتفظون بصور أجدادهم في ذات الأرض التي شهدت ولاداتهم، دون أن يمسهم أي حنين عابر نحو أرض سواها.
لمّا أخبرتها والدتها ساخرةً من طلب عمتها الزواج من ابنها ومدى ثقتها بقبول طلبها، وأنها لم تشأ أن ترد عليها بالرفض الحاسم لئلا تترك نفسها ملقاة في مهب عواصف شقيقة زوجها العاتية، فأجابتها بكلامٍ عائم لا يهدي إلى شيء، مما زاد من حنقها، إلا أنها تكتمت بدورها على غضبها كي لا تفقد كل آمالها المعلقة بأخوتها وعوائلهم مرة واحدة، فتُرك الباب مواربًا على دخولها عالم جديد آخر لم يخطر لها على بال من قبل، ولا من قبيل المزاح وشطط الخيال.
عبستْ والدتها عندما انتبهت إلى صمتٍ يشي بتفكير جاد منها، فرمقتها بنظرة مرتابة من شطحات هاذية لا تعرف إلى أين يمكن أن توصلها، بدأت منذ أن فاجأتهم بالحجاب والثياب الفضفاضة، والكتب والعزلة التي فرضتها على نفسها وقائمة المحرمات المتزايدة في حياتها اليومية، وتغير طريقة تعاملها معهم وصديقاتها وكل من تعرف… حتى قرارها بترك دراسة فن النحت ونسيان كل رسمٍ تخطيطي انشغلت فيه، وكأنها تصمم مستقبلها كله بشتى تفاصيله من جديد دون أن تسمح لأحد تغيير شيء منه.
تفاجأت تغريد بصراخ أمها في وجهها أن تتعقل ولا تتمادى في خبلها لأنها صارت تتوقع منها أي شيء، فردت بسؤال أثار هواجسها أكثر فأكثر، إن كانت عمتها أخبرتها أين سيعيشان بعد الزواج، لتباغتها هجمة قوية من الصياح والشتائم والتهديد والوعيد لمجرد تفكيرها بالاقتران بابن عمتها الفاشل، محدود الثقافة، والعاطل عن العمل في أغلب الأحيان…
“ألا ترينه كيف يتصرف؟ لا يفكر إلا في رغباته التافهة، عقله منغلق داخلها ولا يرغب بتجاوزها، حتى أمه صارت شعبية في الكثير من كلامها وتصرفاتها، مستوى تفكيرها غير ما عرفته عنها من قبل، وكأنها واحدة أخرى، في ذوقها باللبس وكل شيء، أين التي كانت تثير الإعجاب بلباقة أحاديثها عن الشعر والموسيقى وما تقرأ في مجالات مختلفة، عمتك كانت جميلة جدًا في كل شيء، الأن بدت لي امرأة أخرى، كنت أكذِب نفسي لدى كل اتصال بيننا، لكن يظهر أن الحروب وموجات التخلف المتتابعة على البلاد قد غيرت كل الناس هناك، شوهت الملامح ووضعت بصماتها الثقيلة على كل ما هو جميل…”
كانت تعرف أن والدتها متأثرة بكلام صديقاتها اللاتي رجعنَّ إلى البلاد لمددٍ قصييرة، فصارت أحداهن تردد ذات النغمة المتأسفة عن الأخرى، وكأن ذنب الناس هناك أنهم لم يغادروا وطنهم وظلوا يتجرعون مرارة العيش بين جنبات الموت، فلم تشأ مجادلاتها في شيء لئلا تؤكد ظنها بأنها موافقة على الزواج دون أي شرط أو تأجيل، فهو، وقبل كل شيء، شخص غير ملتزم ومستهتر، لم يتكلف أن يخفي سخريته منها ومن تحفظها في التصرف معه والعزلة التي تفضلها على الجميع في كثير من الأوقات، خاصة بعد أن وجدت في تجمعهم فتورًا يحاولون مداراته بأحاديث مختلفة ومتشابكة، لا يخلو منها التباهي والاستعراض، حتى عواطف الحنين المترامية نحو القصي من ذاكرة الكبار وجدتها متصنعة أيضًا في أغلبها.
تتذكر كلام الكسندر الصارخ في وجهها كل حين، وهي تنظر إلى الوجوه من حولها، تتخيله يصفهم دون سواهم بالازدواجية، ازدواجية تصر على التخبط بين عالمين، تجعل كل منهم يظهر أمرًا ليخفي أمورًا عدة، حتى عمتها التي توسمت فيها العفوية والطيبة والصراحة بلا حدود، ها هي تعلن عن الصفقة المخبأة في جعبتها منذ أن رأتها، وجهًا لوجه، واهتمت بها على نحوٍ خاص، كما لو كانت ابنتها التي طال فراقها لسنوات لم تعرف خلالها شيئًا عنها سوى نُبذٍ متفرقة من هنا وهناك، فإذا بها تريدها أن تتزوج ابنها لتتيح له وسيلة العبور إلى الجانب الجميل من العالم، دون أن تهتم بالسؤال إن كانت مرتبطة بإي شخص، إن كانت قد عاشت قصة حب، قبل ارتدائها الحجاب، وإلى أي مدى يمكن أن تكون قد وصلت بها تلك العلاقة، وماذا لو أنها قد فقدت عذريتها، وكاد ذلك أن يحدث فعلًا، هل كانت ستتغاضى عن أهم ما يحدد طهارة الفتاة في أعرافهم وتخادع نفسها بمقولة “عفا الله عما سلف”؟
وماذا عنه هو! إذ لم تبدر منه أية إشارة تبدي اهتمامه أو سعيه للتقرب منها، أم أن غروره يخبره بنبرة المطمئن الواثق من سطوته بأن مثله لا يمكن أن يُرفض أبدًا ما أن يختار أية فتاة؟ خاصة إن كانت ابنة خاله، بالتأكيد هو أولى بها من الغريب، أوَ ليست هذه طريقة التفكير التي عاودت المجتمع من جديد، وبوتيرةٍ متزايدة كثيرًا عما سبق، كما سمعت من والديها وعدد من الأصدقاء المنحدرين من ذات البلاد المتهاوية تحت وطأة النيران دومًا؟
رغم رفضها للأمر، من ناحية المبدأ قبل أي سببٍ آخر، إلا أنها أرادت التكلم معه بعيدًا عن تهلل عينيّ والدته ومخاوف والدتها من شرود عقلها ومفاجآته غير المتوقعة، خاصة بعد تركها دراستها التي أرادت من خلالها صقل موهبتها وانغماسها في دراسة الشريعة الإسلامية، كي تصل إلى فهمٍ أكيد لما غاب عن اهتمامها على مدى عمر بأكمله، فهناك تفاصيل كثيرة تثير تساؤلاتها وستظل تنهك تفكيرها ما لم تجد إجاباتها في مواقع كتب متخصصة، قد يتخوف الكثيرون من تطرفها وارتباطها بالتنظيمات الإرهابية، ذات نظرته السطحية التي واجهها بها بداية تعارفهما، فهل يمكنها الارتباط بمن يمتلك مثل هذه العقلية المتخلفة؟ هذا غير عدم تحقيقه أي شيء بخصوص مستقبله، فقط يريد السفر عن طريق الزواج ليجد من يصرف عليه ويتحمل مسؤوليته من بعد والدته.
حسن غاضبًا: بالتأكيد أنا لست هكذا، ولا أسمح لكِ ولا لأي أحد أن ينظر لي بهذه الطريقة المتعالية، كأنني متطفل وطامع فيك أو بمال والدك، تأكدي ألا فكرة لديّ عن مشروع الزواج، ولو كنت أدري ما يجول في ذهن والدتي ما كنت سأوافق على هذه السخافة.
تغريد: سخافة، زواجك بي سخافة! أشكرك على حُسن ذوقك ولباقتك.
ـ طبعًا سخافة، وإلا ما كنتِ جئتِ لترمي في وجهي نيران كلماتك المندهشة من حماقة تجرؤي على التفكير بالارتباط بجنابك، رمقَ تزايد الدهشة المطلة من عينيها فأردف: ماذا، تفاجأتِ إن واحدًا مثلي يعرف كيف يتكلم ويفكر ويدافع عن نفسه؟ فقط لأنني لم أسافر وأكتسب مختلف مهارات المجتمع الراقي والمنفتح على كل الأجناس وأتعلم أية لغة أجنبية قبل تعلمي لغة بلدي.
ـ أنت السخيف الآن، أنا لم أقصد أن أقلل من شأنك، فلا داعِ لهذه العقد.
قال بحدة أخافتها، وإن لم يظهر على ملامح وجها ذلك: لا داعِ للكلام من الأساس، وأرجوكِ اعذري أمي على سذاجتها التي جعلتها تتمنى الكثير من تجمعكم الكريم بعد عمرٍ من الغياب، خاصةً بعد صفعة بيع البيت الذي سكناه منعزلين عن دنياكم الرحبة، ليس هذا فحسب، بل أيضًا محاسبتها على كل ما تعطف عليه أخوتها من كرم على مر السنوات الفائتة كي تبقى تأخذ أقل من الجميع، والأخذ لا يتحدد فقط بالنقود يا بنت خالي العزيز، فهناك أمور كثيرة نتمنى أن نستطيع تجاوز ألم قبضاتها الثقيلة بالنقود، ولو كحد أدنى للتعويض.
ظلت تنظر نحوه مستغربة قوة انتفاضه على الإطار التقليدي الذي وضعته فيه، يدعمها ما سمعته من والدتها عن خيبة أمل عمتها إثر كل مشروع أو مجال عمل يفشل فيه كي يعود لإمضاء أكثر الوقت في لهو طالب في المرحلة المتوسطة أو الثانوية في أقصى تقدير.
لوهلة تحولت إلى ريم في حدقتيه، تلتف بالعباءة التي ظل يجدها غريبة عنها، تتقافز من عينيها تلك الفرحة الطفولة الوديعة، يشوبها مكر المرأة التي فضَّلت مهابة العمامة عليه بلا تردد، قاصدة الأمان والنفوذ ورفاهية السلطة.
خمنَ أن بنت خاله أيضًا قد فعلت ذات الشيء تمامًا، وإن اختلفت التفاصيل، وما ارتداؤها للزي الشرعي سوى محاولة لاسترضاء أحد الشيوخ المبجلين والمقيمين في الخارج، أو لربما أحد الأمراء العرب المتيمين بالزواج من الحسان الأجنبيات، ولو كانت على ذات الدين يكون أفضل، حتى لو كان زواج مصياف، أو مسيار، أو أية تسمية أخرى لم تطرق أسماعه بعد، فليس بمقدوره أن يصدِق أن فتاة في مثل جمالها وعمرها تعيش في أكثر البلدان انفتاحًا لتأمين أفضل مستقبل يمكن أن تهمل كل شيء فقط من أجل أن تنطوي على نفسها، مديرةً ظهرها للموهبة التي كان يشيد بها جميع أساتذتها وعدد من الفنانين المعروفين، كما كانت تتباهى والدتها في أحاديثها الطويلة مع والدته، بالإضافة إلى فرص النجاح التي كانت تنتظرها عبر مشاركاتها في المعارض الأوروبية للمواهب الشابة، وكذلك المنح التي كان يمكن أن تحظى بها خارج السويد… ولو كان في هذا شيء من مبالغات الأمهات، إلا أنها بالتأكيد كان لديها خططها الطموحة لتحقق ما تتمناه في حياتها، ما دامت في بلادٍ تحفز المرء للسعي إلى ما يريد دومًا، دون أن تغير عليه حرب مفاجئة ويلتهم أحلامه موت يتخطف الأرواح في الشوارع والميادين وكل الطرقات، يقتحم البيوت في أي وقتٍ يشاء ويحيلها إلى ركام.
تساءل بينه وبين نفسه، ألم تعشق يومًا، ألم تخض قصة حب جميلة مثل صفحة وجهها النقية كشعاع شمس يغمر نوره أرضًا خضراء فسيحة يكاد يشم عبقها الطبيعي في أنفاسها رغم المسافة التي تصر على إبقائها بينهما طيلة فترة وقوفهما في الحديقة بمعزل عن الجميع، مع ذلك كان كل منهما يهجس أن كل العيون تترصدهما عن بعد، تحدق في حركة شفاههما عسى أن تعرف ماذا يقولان لبعضهما، خاصةً وأن والدته أشاعت حالة من الصمت المشوب بالتوتر إثر هبوب عاصفة بيع البيت في وجهها، دون أن يأتيها من أشقائها أي تعويض عن السنوات التي أمضتها وحيدة دونهم، كما لو كانت وولدها مجرد حارسين للدار المهجورة وجاء وقت الاستغناء عن خدماتهما، بل يتوجب عليها الأن سداد ما أرسلوه لها على مر السنوات الماضية من ثمن حصتها في البيت الذي صارت تحفظ مكان كل شقٍ في جدرانه العالية من كثرة ما جالت أنحاءه في ساعات الوحدة القاسية، وأفكارها تتطوح بها ذات اليمين وذات الشمال ما بين قلق وخوف وسأم وعجز عن تدبر أعباء المصاريف المتزايدة فوق كاهلها، وهي تنظر نحو سماء تكاد لا تصفو حتى تتلبد بالأدخنة السوداء من جديد، بينما ولدها… يستغرقها تنهد طويل ومرير تنهيه بدعاءٍ تتمنى استجابته كي لا تبقى تتوجس من المستقبل القاحل الذي ينتظره بمفرده، فهي لن تعيش له دومًا، وحتى السنوات المقبلة تحتاج أن ترتاح فيها ولو بعض الشيء من لهاث ترملها في سن مبكرة، يلفها الأمان والاستقرار اللذان انحسرا عنها وعن البلاد منذ زمن تجده جد طويل ومضنٍ، أنهك أنفاسها وتلاعب بنبضات قلبها حتى كادت تتوقف أكثر من مرة دون أن يشعر بها أحد، ولا حتى ولدها، آخر مرة كانت عندما رآت حبيبها القديم الذي أتاهته الغربة عنها، كانت على نحوٍ مختلف بالتأكيد، مع ذلك جاء الاضطراب ليؤكد لها سرعة تهاوِ السنوات الآفلة من عمرها دون رجعة، لا كما تمنى رياض من لقائهما المتأخر عن كل موعد يمكن أن يجمعهما، متأخر بحياة كاملة لا يستطيعان تجاوزها مهما جنحت بهما الأشواق في محاولة للتعويض عن نزق حب راودهما لمّا كانا في سن الحب المقبل على الدنيا بكل عنفوانه وصخبه اليافع.
صار الآن هو الآخر من ضمن الذكريات التي عليها أن تودع أمكنتها مع مغادرتها بيت والدها الذي ارتحلت عنه قبل كل أخوتها بزواجها من عسكري في بلد ينذر رجاله للحروب كل حين، عادت إليه برفقة طفلٍ شهدت وإياه رحيل الجميع ليكونا آخر الراحلين عنه قبل هدمه وإنشاء مشروع كبير مكانه، ليس لتلك الذكريات موطئ قدم بين أركانه العملاقة، فالقادم دومًا أمر مختلف تمامًا.
هذا ما يجب أن تظل تردده بينها وبين نفسها، وإن نست، أو تناست، يأتي باستمرار ما يذَكرها بتلك الحقيقة المؤكدة، يباغتها سطوعها كما لو كانت تبصرها لأول مرة، وها هي ترتسم في سكون وقفتها قرب الشباك المطل على الحديقة، حيث كان يقف ابنها مع تغريد، آخر الآمال التي تتمنى تحقيقها في دنيا سلبت منها أمنياتها ورمتها بخيبةٍ إثر أخرى.
أدرك رياض ذلك جيدًا بعد آخر محادثة جرت بينهما، حاول من خلالها الاستنجاد بآخر أملٍ يرجوه منها قبل أن يقرر مغادرة البيت والإقامة في أي فندق بانتظار الحصول على حجز في أول طائرة تعود به إلى دنياه الخاوية، منعزلًا عن كل حلمٍ سعى إليه ولم يدركه، أو تحقق فأفضى إلى فقدانٍ جديد ألجأه إلى مطاردة ماضِ خلفه وراء عندما كان شابًا تحوطه مسالك متشعبة يحب أن يتيه فيها ما يشاء ليجد نفسه على عتبات دروب جديدة يخطو في شعابها بخفة أقرب إلى الهرولة حتى يصل نهاياتها متعددة الخيارات والمفضية بدورها إلى مسالك ودروب أُخر.
كل ما استطاعت أن تعده به هو أن يبقيا على تواصل عبر الهاتف والشات، وحتى هذا الوعد عرف كل منهما أنه مجرد كلام لن يتجاوز غصة الوداع وما يشوبه من مخاوف عدم اللقيا مجددًا، ولمّا طلبت منه البقاء حتى موعد سفره أخبرها أن ذلك سيكون أصعب لديه من كل السنوات التي أمضاها بعيدًا عنها وتمنى أن تكون معه ليستعيض بها عن كل النساء اللاتي عبرنّ حياته دون أن يخلفنَّ من أثر سوى ندم جديد حط في فؤاده كجرحٍ صعب الاندمال، أبصرت في عينيه ما لم ينطق من كلمات، وأوجست في معانقة كفه لكفها بحنين غامر نحو حبٍ مضى ووهج أحاسيس خلت، ليس لمثل عمرها وظروفها الانسياق وراءها.
سحبتْ كفها ورجعت للوراء قائلة بصوتٍ هادئ رزين: “مع السلامة، نلتقي على خير” لترجع إلى غرفتها وتوصد بابها عليها قبل أن يغالبها الدمع فيثير انتباه أحد، كفتاة تريد أن تنزوي بخيبتها في حبها الأول بعيدًا عن العيون، وهي تشعر بمدى رغبته أن تحنو عليه وتحتضنه مثل طفل يخاف التيه مجددًا بعد استدلاله على مكمن الخلاص المتبقي له، وكم تاقت هي أيضًا، ولو لوهلة، ألا تتركه يفلت من صدرٍ لم يمسسه رجل على مر سنوات عاصفة بذرت في شعر رأسها الشيب مبكرًا فعملت على مواراته بالصبغة، لكنها لم تستطع إخفاء الغضون التي نُقشت في وجها سنةً تلو الأخرى، فيما كانت ملامح الشباب ترتسم في وجه ابنها ونبرات صوته الأجش، في أهوائه ونزواته التي تخشى دومًا أن تضيعه منها هو الآخر فتفقد كل شيء.

 

لم يبقَ في البيت المستأجر سوى حسن ووالدته وتغريد ووالديها، يلزمون الصمت المتوجس من موجة صياحٍ جديدة يتناوبها مراد وزوجته مع ابنتهما، مصدر التهديد والمشاكل بعد أن علم والدها من صديقٍ له اتصل ليخبره عن الفيديو المتناقل عبر القنوات الإخبارية ووسائل التواصل الاجتماعي، تظهر فيه تغريد بالحجاب والثوب الفضفاض مع مجموعة من الشابات المحجبات والمنتقبات والشباب الملتحي من أصولٍ شرقية في درس دين داخل ما يشبه قاعة محاضرات ملحق بأحد المساجد المتطرفة عن المدينة، بعض الحاضرين معها من المتهمين بالتحضير لتفجير إرهابي كبير، تغريد لم تتثبت عليها أي شبهة تورط بالعملية لحد الآن، لكنها على الأغلب لن تكون بمنأى عن التحقيق، وممن ستوضع أسماؤهم تحت أنظار الأجهزة الأمنية…
صفع مراد ابنته قويًا أمام شقيقته وابنها اللذين حاولا تهدئته وصده عنها، فيما أخذت والدتها تلطم وتنحب مستقبل ابنتها المظلم، فبدلًا من مشوار الإبداع الذي كان يمكن أن يجعلها محط أنظار واهتمام الجميع صارت من ضمن المشتبه بهم في سجل الإرهاب، وصمة ستظل تلاحقها وتلاحق أهلها ولو بعد سنوات، رغم أن أحد ولديها هاتفها بعد وصوله إلى السويد وطمأنها ألا شيء يستدعي القلق، فلم يجد الشرطة تحوط بالمنزل، كما صوَرت لها ظنونها المتوجسة دومًا، تغريد أيضًا لم تجد في بريدها الالكتروني طلب استدعاء، كما افترضت والدتها أن يحدث بالتأكيد، ولمّا اتصلت بإحدى صديقاتها، من اللواتي كانت تحضر معهنَّ تلك التجمعات، أكدت لها أنهما بعيدتين عن أي إتهام، لحد الآن على الأقل، لكنها أيضًا وجدت أن من الأفضل ألا تغادر المنزل قدر الإمكان لئلا تتعرض لأي مضايقة أو استفزاز، خاصة من قِبل وسائل الإعلام، ونصحتها ألا ترجع إلى السويد إلا بعد انتهاء التحقيقات وتحديد أسماء المتهمين المحالين إلى القضاء.
ترَجت والدة حسن أخاها أن يهدأ ويحد من غضبه لأن العصبية لن تفيد بشيء، المهم انتظار ما سيحدث بأعصابٍ قوية كي يعرف كيف يتصرف إن وجد ابنته متهمة بالفعل، كما أخذت تعمل على تهدئة أعصاب زوجة شقيقها الضعيفة والمتهاوية لأقل شيء، فراحت تحكي لها عن كومة المصائب والأقدار التي تعصف بها بلادهم ما بين قضايا إرهاب وتعصب وتطرف ديني وقومي ومذهبي…
ظلت تردد الكلام كما لو كانت نشرة من النشرات الإخبارية المواصلة بث سيل الفواجع دون توقف، فقد صار العيش بين ركام الحروب لسنوات وعقود جزءًا من طبيعتها، رغم كل نفورٍ وتوقٍ للخلاص، من جهةٍ أخرى همست لابنها أن يبقى قريبًا، وقريبًا جدًا، من تغريد في أزمتها، وأنها فرصته لكسب مشاعرها نحوه، فلعل ما حصل يكون لصالحه من حيث لم يتوقع، عندما لا تجد سواه إلى جانبها، يتفهم وجعها ومخاوفها ويكون السند وملجأ أمانها، فلا تفكر في سواه ليشاركها حياتها، وحياتها الحقيقية هناك، حيث يتمنى الذهاب والاستقرار لبدء حياته الجديدة، رغم ما قد يحدث الآن من زوابع مرعبة لها ولعائلتها، لن تلبث أن تتلاشى وكأن شيئًا لم يكن مع مرور الأيام، بعكس نكبات بلادهم المتجددة دومًا، وهي ستتولى مهمة إقناع والديها بعد ذلك، متكئةً على محنتها وكثرة المشاكل التي يمكن أن تسببها لهم، بينما حسن هو الأقدر على احتوائها وتخليصها من الأفكار المتعصبة التي قد تقودها نحو مصيبة كبيرة لا يمكن تداركها مستقبلًا…
مقتَ حسن طريقة تفكير أمه الأشبه لديه بخطط ساسة البلاد المتسلطة بحجة محاربة الإرهاب، مستغلين هلع الناس وتشردهم لتحقيق أهدافهم الخفية عن الأنظار، لكنه اصطنع الاقتناع أمام حماس خطتها، كما أنها فاجأته بتنبهها لإعجابه بتغريد رغم النفور الظاهر بين شخصيتيهما في كل شيء تقريبًا، فأخبرته أنها الأنسب له، ليس لكونها تمتلك جنسية أجنبية، ولا طمعًا في ثروة خاله التي كوَنها عبر سنين الغربة فحسب، بل لأنها ستعرف كيف تدير له شؤونه، فلا يبقى تأئهًا في صخب بعثرة يمكن أن تستولي على عمره كله دون إدراك منه… ثم راحت تعيد عليه ذات الكلام المكرور عن تخبط خطوه هنا وهناك لسنوات دون أي جدوى، عن مغامراته ونزواته وسكره وتهور المراهق داخله الذي لا يرضى النضوج رغم تجاوزه السابعة والعشرين عامًا…
صار رجلًا ولحد الآن لا يعرف له اتجاهًا محددًا يسعى إليه، لا تنفك والدته أن تذكره بذلك، ليست هي فقط، بل كل ما حوله يهمس له بعجزه عن تغيير شيء في أيامه الماضية بسرعةٍ خاطفة في صمت مخيف يقلِب نفسه بين ثنايا الأشهر والسنوات المتناثرة في حدقات الفشل الملازم له باستمرار، لا يود إعطاءه فرصة للإفلات منه ولو مرة واحدة، فهو لم يوفق حتى عندما أراد أن يحذو حذو الكثيرين ممن يعرف ويشتغل في التهريب بشتى أشكاله أو يستغل حاجة الناس لكل ما هو مفقود في بلاد الغنى الفقيرة على مر العهود، بأساليب ما كانت تخطر على بال أحد إلا أن الواقع أوجبها وجعلها حقيقة ماثلة أمام الأعين، مهما تغافلت عنها، بل واجه فشله من جديد وكاد يُسجن ويثقل والدته ببلاءٍ قد لا تستطيع النجاة من ويلاته مهما استقوت على قهرها الأليم.
من الغريب أن توجِد له والدته حل كل أزماته عبر انكسار تغريد، تمددَ فوق فراشه طول الليل، يسرف في التدخين ويفكر في وسيلة سريعة تُمكِنه من اصطياد العروس الاسكندنافية قبل أن تفلت منه للأبد، منصاعًا بسرعة لم يكن يتوقعها وراء فكرة أمه المثلى لإنقاذه من ضياع سنين عمره في سلسلة من الأحلام الخائبة، فما لمثل هذه الفرصة أن تتكرر، وخاصة بعد بيع بيت جدهما الذي كان سببًا في لَمِ شملهم لأول مرة، ولآخر مرة أغلب ظنه، فليجَهز ما سيقوله لها كي يقنعها بالزواج منه، وعلى نحو السرعة، كي يعرف إجراءات لحاقه بها بعد أشهر، أو حتى سنوات، المهم أن تعلق صنارته بها لتسحبه نحو أبحرها البعيدة.
بعد بزوغ الفجر بقليل سمع صوت حركة في الطرقة، فتح باب غرفته فوجدها دون حجاب، تنسدل خصل شعرها البنية والمجعدة عند الأطراف فوق كتفيها، ترتدي قميصًا حريريًا أبيض وواسع بعض الشيء، وبنطالَ جينز غامق الزرقة، شديد الضيق وممزق عند الركبتين، وتضع من المكياج ما يزيدها جمالًا وفتنة، أبهرته أكثر مما أدهشته هيئتها الجديدة عليه، وقفا جامدين أمام بعضهما لأكثر من دقيقة، دون أن ينبسا بكلمة.
بادرت بالقول: ما بك، تبحلق بي كما أنك لم ترني من قبل؟
أجاب في سخرية: أنتِ أنتِ، أم أنتِ أخرى، ماذا حصل، انتهى عرض الحجاب؟
ثم انتبه إلى حقيبة الملابس الصغيرة ذات العجلات التي كانت تسحبها وراءها، فأردف: وما هذه الحقيبة، تريدين الهرب؟
قالت في ضيق، دون أن يعلو صوتها: الهرب من ماذا، هل عليً حكم؟ كل ما هنالك أنني قررت السفر لأرسو على حل، البقاء هنا لن يفيد بشيء.
ـ دون أن تخبري أحدًا؟
ـ كي أوفر على الجميع الكثير من الكلام والصياح الذي اعتدناه باستمرار.
ود أن يسألها وكأنه يستنجد بها “وأنا؟” إلا أنه استدرك فقال: ولن أراكِ مرة أخرى؟
ـ من يعرف، ربما تأتي، أو آتي أنا.
ـ أين تأتين وأين آتي؟ لا يوجد لمُ شمل بعد الآن، التصفية تمت وكل واحد من الأخوة سيرجع إلى حياته التي اعتادها بعيدًا عن الآخرين.
ـ وأنت كنت تظن أن تفوز برحلة إلى السويد بلا عودة، صمتت ثم قالت بشيء من الاستخفاف: الأمور لا تحدث بهذه البساطة.
ـ حدثت معكِ ومع أخويك والبقية بأسهل من هذه الطريقة بكثير، فقط فتحتم عيونكم في البلدان التي اختاروها أهلكم.
تأففت، ثم قالت: هذا ليس وقت مثل هذا النقاش الممل من كثرة تكراره، بين المرء ونفسه قبل أن يكون مع الآخرين، دون الوصول إلى شيء سوى المزيد من الحيرة والتيه، وأنا مستعجلة، وليس لدي وقت، صممت لوهلة وأردفت: على كل حال ستتواصل بالتأكيد وسأحاول المساعدة ما أمكنني، صدقني لن أقَصِر.
ـ شكرًا على تعاطف جنابك مع قريبك المسكين وابن بلد كان يمكن أن يكون بلدك.
ـ أنت تظن إن كل شيء هناك سهل، لا…
قاطعها قائلًا: لا داعِ لهذا الكلام ولا لأي كلام، أنتِ مستعجلة كما قلتِ، وأنا لن أعطلك، فمثلي لا فائدة منه سوى تعطيل الآخرين وإرباك خططهم.
لم تجد ما ترد به، خاصة وأن سائق الأجرة الذي طلبته عبر الهاتف ليقِلها إلى المطار كان يمكن أن يصل في أي لحظة، كما خمنت.
ودَعها بنظراته حتى خرجت من باب الدار الداخلي، ثم عبر الشباك حتى اجتازت الحديقة نحو الشارع وسط هالات من الأضوية المغبَشة بأشعة الشمس أول إشراقها.
اصطنع المفاجأة لمّا راحت والدتها تخبر أمه وهي تنحب أنها قد غادرت البيت وهم نيام، وقبل إقلاع الطائرة وإغلاقها الهاتف بعثت رسالة نصية إلى والدها، تعتذر فيها عما سببته وما يمكن أن تسببه من مشاكل، لكنه تفاجأ فعلًا لمّا عرف أنها لم تسافر إلى السويد، بل حجزت أول تذكرة سفر وجدتها على متن أي طائرة تقِلها إلى بلدٍ أوروبي، لم تحدده، لكن امها لم تستغرب مثل هذا التصرف (الأخرق) من ابنتها المتهورة التي اعتادت أن تفاجئهم بطيشها ورعونتها، حتى بعد ارتدائها الحجاب واكتسابها الرزانة التي يفرضها التزامها الديني… كما طمأنت والديها أنها خلعت الحجاب كي تبتعد عن الشبهات التي طالما تخوفوا وحذروها من مخاطرها عليهم جميعًا، لم تهرب، لكنها بحاجة إلى أن تعيش بمفردها لفترة، بعيدة عنهم وعن ضغوطهم تمامًا حتى تعرف أي اتجاه تسلك، دون أن يعتريها شيء من الندم في يومٍ من الأيام.
كتمَ ضحكة باغتته عندما استمع لرفاهية الوحدة والتأمل تلك في أي بلد يمكن أن يخطر لها على بال، تعمل في أي مجال تريد وتبيت أينما شاءت، بلا أي قيد يعيق حركتها عبر القارة بأكملها، أو حتى عبر كل قارات العالم، دون خوف من حاجز أمني أو طريق مغلق أو سؤال عن الانتماء والهوية.

 

لم أتبادل وأمي كلمةً واحدة منذ أقلعت الطائرة العائدة بنا إلى أرض الوطن، أغلب ظني إنها منشغلة بالتفكير في البيت الذي يجب علينا إيجاده لننتقل إليه في غضون شهرين أو ثلاث، فبيت جدي سوف يباع بسرعة، حسب الاتفاق الذي تم بين أخوالي والمشتري، رجل الأعمال شديد الثراء وقوي السطوة في عموم البلاد وخارجها.
أما أنا فقد أغرمت بتغريد بقوة وسرعة لم أكن أتوقعهما، رغم تأكدي أنني لن أراها مجددًا، إلا بعد سنوات ربما، قد تكون بمثابة عمر آخر، لعله شعور انفعالي، كما قرأت ذات مرة، جراء كل ما حدث والعوالم التي تنقلت بينها خلال أقل من أسبوعين، سلَمتني في النهاية للعودة إلى الحياة التي ألفتها منذ الصغر، إلى البلاد التي يتمنى الجميع الفرار منها ليظلوا يتغزلون بجمالها مثل عروسٍ متقدة الأنوثة طالت الأشواق إليها، دون أن يختلج في الصدور توق احتضانها ذات يوم.